طريق ممهد لحيفا

طريق ممهد لحيفا
Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: ريهام إمام** |

أعطوني سترة واقية من الرصاص وخوذة وأعطتني روزا منديلاً معطراً كانت تحتفظ به منذ الصباح. أخبرني جودة وأنا أتسلم السترة أن ثمنها 5 آلاف دولار ولمح أن أحداً منا لم يكن ليرتديها لولا المؤسسة. كان يتبسم بسمة مبهمة وأنا أرتدي السترة، بسمة عريضة وعيناه تتفرساني نزولاً وصعوداً. لسبب ما، مرّ زياد بخاطري، تداعت الذكريات في رأسي لليلة كنا معاً بياتاً في رام الله، وقد استلقى على أريكة خشبية متهالكة وأخذ يتفرسني بعينيه وأنا أقف نصف عارية، البنطال عالق بساقَيّ وقميص البيجامة متشابكة أكمامه بعناد مقيت.
“”رايح عاحيفا بكرة…

“”فعلاً…خلاص!
“”آي.
مرت كلماته سلاماً على أذنيّ، لم أشعر بحاجة لسؤاله. كنت أعرف انه سينتقل ليعيش مع “هانا” وأنه لن يعود مجدداً. لم أغرمت به يا ترى؟ لست أعرف! اطالع عينيه العسليتين خلسة وتنتابني سكينة مبهمة. كيف تقابلا في باريس، قرأ لها قصصه ومقالاته وفتحت هي عينيه على عالمها الفوتوغرافي الغرائبي. “هانا” القانطة من الحياة ومختبئة في جحر الأرنب. حكت لزياد عن جدها البولوني وكيف ستهرب وتعيش معه في بيته.
مات الجد، ونفدت يوروهات “هانا ” التي جمعتها من بيع بعض الصور وعادت صاغرة لأبيها المتعصب فى حيفا؛ وبعد بضع محاولات إنتحار فاشلة رضخ هو الآخر لحقيقة أن يعيش فتى رام الله تحت سقف بيته.
“”كانت بتريد تموت عن جد…

أسمعه وهو يحكي عنها، عيناه شاردتان فى الأفق ويداه خدرتان على ركبته، ودوما نفس الشيء، تتباطأ أنفاسه كما لو كان يتشبث بهاوية. لم يخبر أحداً عن “هانا” والشهور التي قضياها معاً في باريس؛ ثم باح إليّ بالأمر صدفة بعد قصف حي الشجاعية الأخير في غزة، كنا قد عدنا تواً من الموقع، واجمين، نطالع بعضينا بلسان مبتور من الكلمات.
“البنت الصغيرة بتشبهها كتير لهانا!
تداعى شكلها إلى ذهني بعدما حاولت جاهداً نسيانها، كيف وقفت وحيدة أمام الركام، تركض من بقعة إلى أخرى وهي تنادي عبثاً “يا علي…يا علي!” وعلي الذي ذهب ليشتري لها سكرة لا يرد.

“”ههههه!
يضحك ولست أدري ما الذي يضحكه! يضحك، إلى أن تفيض الدموع في عينيه. بعد بضعة أيام أخريات، تلاشت الضحكات من قلبه وتلاشت الذكريات من ضلوعه؛ لم يعد يحكي عن السنتين التي قضاهما في السجن وتعذيب الجنود له وإنتهاكه، لم يحكِ عن شيء إلا “هانا” وذهابه في الغد إلى حيفا. يسري إليّ بها همساً، بنبرة خدرة ويلوذ هرباً من عينيّ إلى الأركان البعيدة المعتمة.

“…رايح نام
يحمل عظامه النحيلة ويجر جسده إلى الفراش المهجور في أقصى الحجرة، يقوس ساقيه صعوداً إلى صدره ويعانقها؛ أدس يدي في جيب سترتي فيعود إلى منديل روزا المعطر وأتذكر بسمتها الطفولية وتلك الأشياء الصغيرة التي تحتفظ بها وتخبئها دساً بين طيات ثيابها. كيف جاءت إلى هنا؟ لطالما تساءلت، حين رأيتها أول مرة فى الميدان، تقف في ثوب أبيض قصير، جورب أحمر وخوذة كبيرة تتدلى حاجبة عينيها؛ أي كتاب حكايا خرافي تسللت خارجة منه لتنقل بصوتها الواهن الناعم قصصاً عن الحرب وأعداد القتلى. لم تكن تبكي قط؛ ولم ترتدِ ذاك الثوب مجدداً باستثناء هذا الصباح في الفندق وهي تناولني المنديل. بدت سعيدة، ربما لأنها ستعود وتحتفل بعيد ميلادها مع أمها في دبلن.
“”هابعت لك هدية من دبلن…

“”أنتِ يا روزا؟
“”أيوة …اديني عنوانك بالقاهرة.
“”ده عيد ميلادك…أنا اللي المفروض يجيب لك هدية.
تقولها بطفولة مستغلقة على الأفهام، فتعود تساؤلاتي إلى، كيف جئتِ إلى هنا؟ “”لكن هديتك أنت مش حتكون أجمل من هديتي!
هاربة من قصة خرافية ذات حقل ورد ممتد على طول الأفق. إلى أن يعود إلينا جودة المتشكك ثانية، بحقيبة بالية في يد وقطعة فطير تقطر زيتاً في يده الأخرى.
كعكاتها وكأنما ينتظر سؤالها عن طريق منزل الجدة. عيناه تتفرسان سترتها الحمراء وسلة “ما شاء الله! طالعة حلوة كتير يا روزا!”.
تخونني كلماته، وأشرد مفكراً عن مقصده؛ أتراها السترة أم سلة الكعكات. يقترب ويمد يده إلى السلة بعنجهية قروية فتضربه روزا على يده.

“No…”
تصيح بالإنجليزية على عكس عادتها.. فأوقن قدر استيائها.
“خلاص…ما بريد منك شي يا بخيلة!” يتطاول والفطيرة بيده، “معاي هي…” يلوح بفطيرته فى وجهها فتشيح بعينيها عنه. يقضم من فطيرته ويلتف لي.
“بتعرف…اوزجان صار مراسل حربي. أعطوه زي عسكري وصار لابسه طول الوقت هلا! مين قده؟ صار يطلع بالدبابة ويوصلوه بيها للبيت!”
“”اوزجان…
“”آي…بيقعد رجل على رجل ويتفرج على قصف كوباني!
“والله؟”
“”إي حبيبي…إي.
يتكئ بظهره على فراش روزا ويكرمش ورقة الفطيرة الغارقة في الزيت.
“”يلا هشام…
نادتنى روزا لنرحل…يلا هشام. مرّ صوتها الناعم بسلام على أذنيّ فلم أبرح مكاني، وكأنما نسيت اسمي.
“”هشام…
أرفع رأسي وأطالعها، ما أجمل سترتها الحمراء؛ تزوغ عيناي إلى جودة الجالس على فراشها بأريحية، لا ينقصه سوى أن يختبئ تحت الغطاء ويناديها بصوت الجدة.
“”يلا روزا…

أومأ إليها ونتحرك. تأبى تركي أحمل حقيبتها عنها وتتشبث في حملها بعناد بينما جودة يطالعنا وبسمته المبهمة قد عادت لتتوج شفتيه الملطختين ببقايا الفطيرة. تركت روزا السلة والكعكات ولم يمد جودة يداً إليها ثانية قبلما ينهض لاحقاً بنا. في الخارج، وقفت السيارة السوداء منتظرة، كقادم متأخر فاته العزاء. صعدت روزا إلى السيارة وناولتها حقيبتي.
“”توصلوا بالسلامة!
“”مش جاي معانا يا جودة؟
“”لا حبيبي…راح ألحق بكم كمان ساعتين.
طالعته ولساني مبتور عن سؤاله لماذا..شيء ما في بسمته خدرني تماماً.
“”بشوفك هشام…

مدّ يده لي، حدقت في بقع الزيت الدبقة وصافحته؛ اعتصرت يده طمعاً في دفئها ولم أرد فراقه. إلى أن لطمني بوق السيارة فاستفقت متحرراً من بسمة جودة.
في الطريق ظلت ابتسامة روزا ترافقني وهي تركب في المقعد الأمامي وتميل برأسها من آنٍ إلى آخر كطفلة لعوب. لسبب ما، خطر في بالي أن أقرأ خطاباتي المكدسة في الحقيبة كأرامل منبوذة. منذ ساعة مضت، أقسمت أن أترك الرسائل كلها في الحجرة؛ أن أنبذها ببساطة تحت مرتبة الفراش، كهدية للنزيل الجديد كيلا يشعر بالوحدة. رسائلي اليتيمة، أغلبها من “أنكا” موقعة ومختومة بختم بريد “دوسلدورف”. أما الأصدقاء في القاهرة فلم يعودوا بالرومانسية الكافية ليكتبوا رسائل. فلماذا لا تزالين تكتبين إليّ يا “أنكا”؟
ببراءة على رسائلي. سألتني روزا ورأسها يطل “راح تروح على عرس زياد؟ على حيفا…؟”.
طالعتها ولم أحر جواباً على الفور. كيف تراها عرفت عن عرس زياد، فهما لم يكونا مقربين.

“”عرسه النهاردة… معتقدش هقدر.
“هانا حلوة…أنا مبسوطة كتير!” تبتسم روزا وتغمغم بأغنية وهي تهز رأسها. أطالعها وأتساءل عما إذا كانت تهز قدميها بالأسفل متماشية مع الأغنية. أنكس رأسي وأكمل تقليب الرسائل، “أنكا” و”أنكا” ثانية وآه ما هذا… رسالة يتيمة من “زكريا” في القاهرة. أغمض عينيّ وأحاول تذكر وجهه، آخر مكالمة سكايب بيننا كان بلحية كثيفة، بدا وسيماً، كعراب لا تنقصه سوى بدلة سوداء؛ وهو لا يزال بالرومانسية ليكتب إليّ برسالة، فما ألطفه!
على مطلع الطريق لمحت الدورية الإسرائيلية بالرغم من العتمة، فدسست الرسائل في حقيبتي على عجل وكأنما أخفى وليد إثماً. بطأت السيارة وروزا لا تزال تغمغم. طالعت الجنود الإسرائيليين وهم يقتربون من السيارة ويطوقونها في حلقة مغلقة. تابعت النحيل ذا الرشاش وقد وقف أمام شباك السائق ونقر بأصابعه بعنف.

.. قالها مرتين بصوت خفيض Press. لم اتبين من غمغمات السائق إليه سوى كلمة.
التزمت الصمت وقد ساءني توقف روزا عن غمغمة أغنيتها، إلى أن لف النحيل إلى شباكها وأمرها بالترجل…
ترجلت روزا من السيارة بلا جدال ووقفت أمامه، راقبتها وهي تتحدث إليه، ضئيلة، كنملة ترتدي خوذة. متى وضعت هذه الخوذة؟ طال بقاؤها خارج السيارة والجنود يتناوبون على تسليط أضواء بطارياتهم المعمية في أعيننا. وضعت يديّ على مقبض السيارة وفتحته…
“”لا تنزل يا أخوي…!

قالها برهبة شديدة وهو يعتصر بيديه عجلة السيارة، طالعت عينيه المرتجفتين وترجلت من السيارة. لحقت بروزا بخطى سريعة. ما إن وقفت بجوارها حتى طالعني النحيل بنظرة متحفزة.
“We are press…”
“هش..سد بوزك!”
أسكتني من دون أن ينظر في عينيّ، بقي يطالع روزا بعينين بريتين وجواز سفرها يعتصر في يده.
“”أيش جابكم عاهون
“”نحنا راجعين…
جاوبته روزا بطفولة عفوية وهي تتحس وشاح عنقها. طالعها النحيل وقلب النظر بيننا، شيء مبهم في عينيه وشى بالدم.
“”أنتم راح تلفوا وترجعوا…
“NO!”
صرختها روزا في وجهه.
“We are not going back!”

طالعها وابتسم ملء شدقيه…تحدث لرفيقيه بالعبرية قائلاً: “حبيت هذه البنت!” فطفقا يضحكان. طالعتهما روزا غير مستوعبة ما يقولانه. وبتلك اللحظة فتح رفيقاه باب السيارة وانزلا السائق جراً منها وطرحاه على الأرض.
“”بنعتذر! هنروح…
تحدثت محاكياً اللهجة قدر ما أستطيع…فرمقني النحيل ببسمة هازئة وقد افتضحني على الفور.
“”لا، مش راح تروحوا. راح تيجون معانا!
“NO!”
رجوته ولساني عاجز عن إجادة الترجي، فما كان منه إلا أن تبسم بسمة صفراء باهتة. “”أرجوك…
“”ليش ما تقولها لي بالمصري…
“”أحنا آسفين وهنرجع…
لبيت طلبه، فتحسس رشاشه وأومأ لرفيقيه فتركا سائق السيارة. بقيت أحدق في النحيل بعينين خدرتين، من مكاني سمعت السائق وقد عاد خلف العجلة وأقفل الباب. طالعت روزا العنيدة وهي تحدق فى النحيل بتحدٍ.

“”يلا روزا…
لم تبرح مكانها فوليت ظهري ومشيت للسيارة كي تلحق بي كما تفعل دوماً كقطة صغيرة. لم أمشِ سوى بضع خطوات إلا وسمعتها تتجادل ثانية معه. ألتفت ﻷجرّها بعيداً فإذا بالنحيل قد سبقنى وكأنما استقرأ أفكاري. قبض عليها من وشاح عنقها وشدّه فتشبثت به ودفعت بالنحيل بعيداً…
“”روزا…لا!
سبقت طلقته لساني وتركت روزا طفلتي على اﻷرض برصاصة في بطنها. قبل أن ألتفت إلى الخلف كان رفيقاه قد أطلقا النار على السائق في السيارة. طالعت النحيل ووشاح روزا في يده. حدق فيّ بعينين ميتتين وهو يشتمه قبل أن يطلق النار…
بووووم!

أتعرفون كيف تكتب صوت طلقة رصاصة؛ تكتب بوووم في القصص المصورة بالحبر الأسود ويكتب التأوه بخطوط مائلة متعرجة لتحاكي الألم. لم أشعر بألم الرصاصة على الفور ولكني شللت عن الحركة وعن تبيّن ما كانوا يقولونه بين بعضهم بالعبرية. اضطجعت على الأرض وحدقت في السماء فوقي، زرقاء، قاتمة، مرصعة بعدد لا متناهٍ من البقع المضيئة. لم يمضِ وقت طويل إلا وسمعت موسيقى العرس تنساب في إذنيّ ورأيتهما معاً، ذراعاهما ملفوفتان حول خصريهما ويرقصان وسط معازيم الحفل. بدت سعيدة وبدا زياد جذلاً وابتسامته موصولة بغمازتيه. ماذا سأقول له؟ وكيف أعتذر؟

“”آسف أني تأخرت على عرسك يا زياد…الطريق مكانش…
“”لا عليك أخوي…
يبتسم ويعود ليستأنف الرقص سريعاً مع هانا التي تطالعنا بضجر. يلف ذراعه حول خصرها ويرقصان تحت أعين الحشد ومعازيم أبوها المتعصب.
يميناً يساراً…
يميناً يساراً…
فالطريق إلى العرس كما يقولون..دوماً ممهد.

*القصة فازت في المرتبة الرابعة مشاركة في مسابقة مجلة شجون عربية للقصة القصيرة.
**قاصة مصرية.

Optimized by Optimole