في رثاء العالم الجليل الشيخ جودت سعيد

في رثاء العالم الجليل الشيخ جودت سعيد
Spread the love

ماذا لو أن الجماعات الإسلامية بمختلف تلويناتها، أخذت بمنهج ابن آدم الذي رفض أن يبسط يده بالعنف؟ هل كان هذا العالم الجليل، سيموت خارج وطنه سوريا؟

شجون عربية – بقلم: د. علي أحمد الديري* –

في أي لقاء مع الباحث العراقي الدكتور عبدالجبار الرفاعي أو أي اتصال لا تخرج إلا محملاً بفكرة جديدة أو بشبكة علاقات شخصية مفيدة، أو كتب ومجلات وأوراق ومشاريع ومفاتيح تفيض على الوقت.
علاقتي بالشيخ جودت سعيد واحدة من هذه الحمولات الرفاعية المنتجة، كنت في شباط / فبراير 2002 أزور بيروت لأول مرة، فأخذني الرفاعي إلى سفح جبل قاسيون في دمشق، هناك عرّفني على صديقه جودت سعيد، استقبلنا في بيته البسيط، كان يتحدث بطلاقة وحيوية وحماس ونشاط. منظوم خطابه بخيط اللاعنف، يعطي السلطة للفكر لا للقوة، يقول: الذين يؤمنون بصنع الحكم بالقوة خوارج.
مع اقتراب موعد صلاة المغرب، خرجنا مشياً على بعد خطوات، لندخل مقام محيي الدين ابن عربي، إنها المرة الأولى التي أتعرف فيها على قبر هذا الصوفي الكبير، كنت أسمع اسمه وشيئاً من شذرات جمله المشهورة، لم أتوقع أن هذه الزيارة ستتحول لصداقة متينة، وسيكون خطاب هذا الشيخ العظيم موضوعي في الدكتوراه وشاغلي في الحياة. إنها لحظة يّعول عليها، يمكنني الآن أن أقول إن الزيارة التي لا تحملك إلى فتح جديد لا يُعوّل عليها.
ما زلت أستحضر لحظات طريق الممشى بين بيت الشيخ جودت سعيد المسكون بسلام آدم وفكره المبسوط وتأويله المختلف النابذ للعنف والقوة، ومقام ابن عربي المسكون بالإنسان المتأله الذي هو لُغز الرب وكنزه وخلاصة رحمته وبياض سريرته.
في هذا الطريق اختبرت لأول مرة إحساس البرودة الشديدة التي توقظ أطرافك وكأنها نار تشتعل فيها “هذا الثلج إذا أُدمن حبسه في اليد فعل فعل النار” يقول ابن حزم رفيقي في ذلك الوقت بمرحلة الماجستير. لا أشك أن هذه البرودة الممزوجة بفعل النار، حفرت في ذاكرتي هذه الزيارة وتفاصيلها، وهيّأتني لفتوحات (وحدة الوجود) التي هي في جوهرها سلام ورحمة بين السماء والأرض، سلام يرفض العنف ورحمة تنبذ العذاب. أتذكر هذه الخطوات وصوت أقدامي المستغيثة، وأستحضرها هنا كلما تمادى الشتاء الكندي في وحشيته، وأتساءل أحياناً، هل هي وعورة السلوك الصوفي المربّي للروح والمنضّج للعقل؟ تلك الوعورة التي تأخذك على طريق ما تعشق إلى ما تحب.
توطدت علاقتي بالشيخ جودت، ورتبت لزيارته للبحرين، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة، كانت طبول الحرب في آذار / مارس 2003 تشغل العالم، الحرب على وشك الوقوع نتيجة الغزو الأميركي للعراق، سألني الشيخ جودت مراراً إن كان الظرف مناسباً، فكنت ألحّ عليه بالمجيء وأطمئنه، وأسأله عن مشروعه «كن كإبن آدم »، «مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي” فيكتب لي: “لقد ماتت الحرب، ماتت ووضعت أوزارها، ولكن الأفكار الضالة الوثنية في عبادة القوة المادية هي التي تصنع الحروب الآن. إن الحرب بين الكبار أصبحت غير ممكنة، فيسقط من سقط منهم بغير حرب، وينجح من ينجح من دون حرب أيضاً، ولكنهم يقتتلون أحياناً بالنيابة”.
أتساءل الآن: ماذا لو أن الجماعات الإسلامية بمختلف تلويناتها، أخذت بمنهج ابن آدم الذي رفض أن يبسط يده بالعنف؟ هل كان هذا العالم الجليل، سيموت خارج وطنه سوريا؟ ولو أن الحكومات العربية بسطت يدها للسلام مع معارضيها، هل كان أمثالي ينتظرون موتاً خارج أوطانهم؟ ولو أن أرباب المذاهب والطوائف جمعوا العباد على كلمة سواء، لا على حرف قتال، هل كنا نعيش هذا الاستعار الطائفي؟
شيخنا السعيد، سلام على روحك المشعة بالفكر والنور والتسامح والطمأنينة.

*باحث بحريني.

Optimized by Optimole