الجُذُور الفِكرِيةِ والعَقَائِديِةِ للمَهديِةِ في السودان

الجُذُور الفِكرِيةِ والعَقَائِديِةِ للمَهديِةِ في السودان
Spread the love

د.محمـد عبدالرحمن عريـف* — تعود البداية إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر حيث حدث تطور مهم في علاقة العثمانيين بالسودان وذلك عندما طلب محمد علي في تلك الفترة من السلطان العثماني إصدار فرمان/ قرار يخول له دخول السودان وضمه باسم الدولة العثمانية. ورغم عدم رضاء السلطان العثماني بذلك إلا أنه أصدر هذا الفرمان لمحمد علي. وان كانت تطورت الأحداث وظهرت هذه الأهداف فيما بعد بصورة واضحة، ففي عام 1839 تمكن جيش محمد علي من هزيمة الجيش العثماني في موقعة نزيب في (24 يونيو 1839).
المهدية واحدة من الحركات الثورية التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادي، وهي ذات مضمون ديني سياسي. المؤسس هو محمد أحمد المهدي (1845 – 1885م)، وُلد في جزيرة لبب جنوب مدينة دنقلة، يقال بأن نسبه ينتهي إلى الأشراف. حفظ القرآن وهو صغير ونشأ نشأة دينية متتلمذًا على الشيخ محمود الشنقيطي، سالكًا الطريقة السمَّانية القادرية الصوفية، متلقيًا عن شيخها محمد شريف نور الدائم. وفي عام 1870م استقر في جزيرة أبا. تعاطف مع حركته مفكرون عرب واسلاميون بارزون منهم جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده.
الحادث أن الثورة الدينية هنا لا تحظى بالمكانة المناسبة في الوعى العربي، وهى لا تكاد تكون حاضرة في دوائر التفكير السياسى النظرى في العالم العربي. ربما لأنها بعيدة بحكم المكان. فهى في السودان الذى تبدو أحداثه بعيدة عن المشرق العربي وكذلك المغرب. وبين زماننا وزمانها الكثير من الأحداث والخرائط. وربما -أيضًا- لأنها بدأت بعيدًا، وبقيت بعيدًا. ذلك مع النشأة الدينية للمهدي، الذي ساح في السودان ورأى كثيرًا من الظلم والإنحرافات عن الإسلام في أنحاء البلاد.
لقد جاءت ثورة المهدي في بداياتها حركة إصلاحية، ثم تحولت إلى ثورة ضد حكم الأتراك، وخاض المهدي عدة معارك ضد الأتراك في السودان. في عام 1884 أصبح المهدي سيّدًا على السودان ما عدا الجنوب، ثم أسس المهدي دولته في 26 يناير عام 1885. نجح المهدي في إقامة دولته، وأدخل فيها العنصر الأسود، وبعد مرحلة الإصلاح الديني، ثم مرحلة النضال ضد الأتراك، جاءت مرحلة الصراع مع بريطانيا.
تبدأ مأساة السودان مع الإنجليز كما أسلفنا، عندما وصل إسماعيل إلى حكم مصر، فعهد إلى ضابط انجليزي يدعى صموئيل بيكر لتنفيذ أغراضه، ونسي أن بيكر لا يمكن أن يكون فيه خير لمصلحة الإسلام. ولما لم يؤدِ بيكر المهمة المكلف بها من قبل إسماعيل وإنما أدى المهمة الملقاة على عاتقه من قبل انجلترا، اختار إسماعيل ضابطًا آخر كما أسلفنا هو غوردون، فعمد غوردون إلى بث الفوضى وإثارة الاضطرابات، والإساءة إلى زعماء القبائل في المنطقة، والتفرقة بين المصريين والسودانيين.
لما عرض على المهدي الجنرال غوردون إمارة كردفان وفتح طرق الحج وحقن دماء المسلمين، فأجابه: “أما فتح طريق الحج، فإنها خديعة منك وتظاهر بحماية الدين الإسلامي مع أنك لا تؤمن بحرف مما جاء في هذا الدين، وإنك لمِن مَعشر عرفوا بعدائه وكرهه. فإن كنت ممن يشفق على المسلمين، فأولى بك أن تشفق على نفسك وتخلصها من سخط خالقها، وتحملها مع أتباع الدين الحق”. ولما جاء إلى الخرطوم ضابط مصري، أخبر أن رسل الكاثوليك في تلك المدينة تحت كنف محمد أحمد المهدي على حرية تامة، تجري عليهم الأرزاق من طرفه للواحد منهم في كل شهر خمس ريالات ونصف، وأن كنيستهم مفتحة الأبواب.
لم يلق المهدي تأييدًا من مشايخ الطرق الصوفية عندما كانت دعوة المهدية في مراحلها السرية، وإحجام المشايخ عن المهدية في أطوارها الأولى جعل المهدي يبتعد منهم روحيًا فعمل مسجده وغارًا للتعبد 1879م في جزيرة أبا وأصبح له أتباع كثيرون.
وسط كل ما سبق لا خلاف حول ان الدعوة المهدية في السودان قد انطوت على محتوى سياسي طاغي، عبرت عنه ايديولوجيا ثورية تحريرية كان هدفها الرئيسي هو تحرير الأرض من المحتل الأجنبي وتحقيق الإستقلال السياسي الوطني. وهنا يكمن أيضًا أحد الأبعاد التجديدية او على الأقل غير التقليدية في المهدية، بمعايير القرن التاسع عشر. وذلك لسبب رئيسي، وهو أن الأتراك الطرف الاخر في الحرب الذي اعلن المهدي “الجهاد” ضده لم يكن فقط طرفًا مسلمًا وإنما كان يمثل شرعية دولة الخلافة الإسلامية في تركيا، التي يوجب الفقه السني التقليدي طاعتها ويجرم الخروج عليها مهما كانت الأسباب. ومن هذه الزاوية يمكن النظر لرؤية المهدي السياسية بإعتبارها سابقة للإرهاصات الأولى لبزوغ الوعي القومي لعرب الشام الذي عبرت عنه الحركات والجمعيات القومية السرية في بلاد الشام الخاضعة حينها للسيطرة التركية.
هاجم المهدي “علماء” الدين الرسميين هجومًا عنيفًا، وبهجومه هذا وضع إصبعه على بيت الداء. ولن نستغرب أن ترسل القاهرة العثمانية غردون باشا للخرطوم لإطفاء ذلك اللهيب الإسلامي وإرجاع المسلمين في السودان سيرتهم الأولى وهي الخنوع للأجنبي. ويعتبر دراسة خطابات المهدي مع غردون باشا قمة في الدرس التكتيكي والاستراتيجي في كيفية معاملة العدو، رغم أن غردون أتي بتمثيلية إخلاء المصريين والبريطانيين من السودان تكتيكيًا، وتسليم الحكم للسودانيين، ولكن هذه الحيل لم تفت على المهدي ووزرائه المؤمنين بثوابتهم.
رغم أن إعلان محمد أحمد المهدي قد يباعد بينه وبين ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أن المتتبع لسيرته سواء منذ بداية دعوته وبعد إعلان المهدية ومن خلال تراثه الفكري بعد المهدية المتمثل في منشوراته ومجالسه وخطبه بالإضافة إلى حكومته الإسلامية التي أقامها في السودان، وسياسته الخارجية التي حملت التوجيه الإسلامي الخالص، يلاحظ مدى عمق العلاقة بين المهدية في السودان ودعوة محمد بن عبد الوهاب السلفية.
تأسى محمد أحمد المهدي بمحمد بن عبد الوهاب منذ بداية دعوته فقد ظل فترة من الزمن يدعو سلمًا بالمواعظ والكتب والرسائل والوفود، للعودة إلى منابع الدين الأولى وترك البدع ومظاهر الشرك، وإحياء سنن الشريعة، والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ومحاربة الفساد.. وهذا يتفق مع ما جاء في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية منذ بدايتها أيضاً وحملات رسائله بالدعوة إلى بعض بلدان وإمارات نجد. ثم نلاحظ أسلوبه الجهادي وعقيدته السلفية ومنهجه السلفي في الإصلاح في معظم مناشيره التي تغطي الفترة منذ إعلانه المهدية في “أبا” حتى فتح “الخرطوم” ونهاية الحكم القائم وعموم دعوته، مثل محمد بن عبد الوهاب لتبليغ الدعوة وإزالة ما يعتبره مظاهر الشرك والبدع وإقامة مجتمع إسلامي في حكمه، وظهرت عقيدته السلفية بوضوح في تلك المناشير وأيضًا منهجه السلفي للإصلاح ونلاحظ الاتفاق في المضمون فيما دعا إليه الاثنين من العودة بالإسلام إلى عصوره الزاهرة وترك البدع والمنكرات وإن اختلفا في الأسلوب لأن كل واحد منهما كان يخاطب قومه باللغة التي يفهمونها وكان هم كل منهما منصرفًا إلى المعاني لا إلى العبارات.
جاء اتخاذ موقف وقرار فكري بالغاء جميع المذاهب الإسلامية بإعتبارها إجتهادا بشريا غير ملزم للمسلمين ليمثل حدثًا على درجة من الخطورة بحيث لا يقوى الكثيرون(حتى في عصرنا الراهن) على مجرد التفكير فيه. ولا شك ان المهدي كان مدركًا كامل الإدراك لمدى خطورة قراره. ويمكن ان نرى بعض علامات هذا المشروع التجديدي المبكرة في بعض منشوراته وبشكل أكثر وضوحًا في بعض قرارته السياسية الجريئة وغير التقليدية. يمكن المحاججة بأن هذه “الثورة الفقهية” التي إبتدرها المهدي بقرار العودة للنص الديني الأصلي لايمكن ان تعني شيئًا اخر غير مشروع إصلاح ديني(غض النظر عن حدوده ومداه)، يهدف الى تحرير العقل المسلم من إستعمار الشروح وشروح الشروح السلفية، مثلما نجح الشق السياسي من ثورته في تحرير التراب السوداني من الإستعمار الأجنبي. وأي مشروع إصلاح ديني يستلزم بالضرورة الإبتداء بتجاوز التفسيرات التقليدية القديمة للنص الديني الأصل، كمقدمة تمهدية ضرورية لتدشين عملية إعادة قراءة وتفسير جديدين للنص على ضوء المعارف والحقائق الواقعية الجديدة التي تشكل عصر المصلح ومصادر وعيه.
وجد المهدي نفسه حرًا في تبني(وكذلك إستبعاد) أي أراء فقهية او معتقدات تنتمي لمذهب معين وفي ان يعمل على غرسها في فضاء ينتمي تاريخيًا لمذهب آخر مختلف. وهذا يقودنا لنقطة هامة جدًا تتعلق بجوهر المشروع المهدوي، فالذي لا خلاف عليه ان فكرة المهدي المنتظر نفسها تنتمى في الأساس للفقه والتراث الشيعين. ولكن المهدي نجح نجاحًا لا نظير له في أن يغرسها وأن يستقطب لها آلاف “الأنصار”.
والشرط المطلوب توفره في المصلح المجدد، بالإضافة طبعًا للمؤهلات المعرفية المعيارية المطلوبة في كل منخرط او متخصص في موضوعه، هو الشجاعة الفكرية التي يولدها الإتفتاح العقلي وعبقرية الروح الثورية المتمردة التي تنفر بطبيعة تكوينها من قيود التقليد والعادة وتنزع للتحرر وللتجديد والتجاوز. هذه الدرجة العالية من الإنفتاح العقلي وإتساع الرؤية والتحرر من قيود الإنتماءات الأولية وتجاوزها يصعب ان نجد لها نظيرًا في مثل ظروف زمان المهدي وبيئته التقليدية التي نشأ وتربى وتتلمذ فيها. بل انها تتفوق لحدود كبيرة على تكوين وعقلية العديد من القيادات والتي شهدت الأمة في عهدها عودة العصبيات الدينية والطائفية والعرقية والجهوية بقوة طاغية، بشكل مزق ويمزق النسيج الإجتماعي الذي كان المهدي أحد الرموز التاريخيين الذين صاغوا لحمته وسداه.
كثير من الكتابات تحاول تركيب وتقديم تأويل أصولي للمهدية لتقديمها كأحد جذور المشروع الأصولي السلفي. وهم يعتمدون في ذلك على الممارسة السياسية والتشريعية والقضائية في دولة المهدية. التي تميزت بالحروب الجهادية والنزاعات الأهلية والسياسة الحصرية القابضة وتطبيق بعض أحكام الحدود. يجب الإعتراف هنا بأن هذا الجانب يشكل أيضًا موضوعًا جداليًا تتنازعه وجهات نظر متعددة ومتضاربة. مع ذلك يجب التمييز بين الثورة الفكرية(الفقهية) التي ناقشناها من جهة والثورة السياسية للمهدية ثم دولة المهدية من جهة أخري. وأن رؤية المهدي الإصلاحية التجديدية التي اشرت اليها هي أقرب لمرحلة الثورة المهدية التي قادها المهدي منها لمرحلة الدولة المهدية التي غاب عنها.
إن شخصية المهدي القوية، والمعتقد الديني الذي يدعو إليه، والسخط العام الذي كان سائدًا ضد الولاة الذين كانوا يفرضون الضرائب الباهظة على الناس، وتفشي الرشوة والمظالم، وسيطرة الأتراك والإنجليز، كان ذلك كله دور مهم في تجمع الناس حول هذه الدعوة بهدف التخلص من الوضع المزري الذي هم فيه إذ وجدوا في المهدي المنفذَ والمخلِّصَ.
لقد دعا المهدي إلى ضرورة العودةِ مباشرة إلى الكتاب والسُّنة دون غيرهما من الكتب التي يرى أنها تبعد بخلافاتها وشرورها عن فهم المسلم البسيط العادي. وأوقف العمل بالمذاهب الفقهية المختلفة، وحرم الاشتغال بعلم الكلام، وفتح باب الاجتهاد في الدين، وأقر كذلك كتاب كشف الغمة للشعراني، والسيرة الحلبية، وتفسير روح البيان للبيضاوي، وتفسير الجلالين. وألغى جميع الطرق الصوفية وأبطل جميع الأوراد داعيًّا الجميع إلى نبذ الخلافات والالتفاف حول طريقته المهدية مؤلفًا لهم وردًا يقرءونه يوميًّا، ومن هذا الباب دخلت مرة أخرى في بوتقة الصوفية وانصهرت فيها.
كان يلح على ضرورة التواضع وعدم البطر وتشديد النكير على الانغماس في الملاذ والبذخ والنعمة، ويعمل على التقريب بين طبقات المجتمع. ومنع البكاء على الأموات، وحرَّم الاشتغال بالرُّقى والتمائم، وحارب شرب الدخان وزراعته والاتجار به، وشدد في تحريمه. وأقام حدود الشريعة في أتباعه كالقصاص وحيازة خمس الغنائم ومصادرته أموال السارقين والخمارين، وصك العملة باسمه ابتداء من فبراير 1885م جمادى الأولى 1302هـ. أقام في المنطقة التي امتد إليها نفوذه نظاماً إسلاميًّا، ونظم الشؤون المالية وعين الجباة لجمع الزكاة، وكانت مالية الدولة التي أقامها مكونة مما يجبى من زكاة وجبايات.
لقد استطاعت الثورة المهدية أن تصهر السودانيين في بوتقة واحدة، وجعلت منهم شعبًا واحدًا جاهد مع قائده وزعيمه الروحي وحقق انتصارات باهرة على أعدائه، وقد أسقطت المهدية المذهبية وألغت الطرق الصوفية، وقد اعتبرت الجهاد ضد الكفار مقدم على الفرائض الأخرى. وما يزال للمهدية أنصار كثيرون يجمعهم حزب الأمة الذي يسهم في الأحداث السياسية الحالية في السودان. كما أن لهم تجمعاً وأنصاراً في أمريكا وبريطانيا يعملون على نشر أفكارهم ومعتقداتهم بين أبناء الجاليات الإسلامية بعامة والسودانيين بخاصة.
صفوة القول ان المهدي قد عاش حياة قصيرة بحساب الزمن والأرقام.. كما لم تتعدَ فترته في القيادة الأربع سنوات الا انها كانت حياة حافلة بالعديد من الوقائع والاحداث التي أسهمت بقدر كبير في تشكيل ملامح السودان الحديث.. ولم يخلف ورائه إرثا هائلًا من الادبيات المكتوبة في الذاكرة الوطنية والغربية وحسب بل خلف ورائه دولة وطنية متكاملة الأركان.. كانت الدولة الوحيدة المستقلة في افريقيا القرن التاسع عشر.. وبقيت تقاوم الاستعمار البريطاني بشراسة حتي نقطة النهاية.
…ستظل ذكرىّ تحرير الخرطوم نبراسًا وطنيًا خالد.. وستبقى كاريزما المهدي حالة خاصة!. العزة للسودان.. والمجد للشعب.. والخلود للشهداء الأبرار.

* د.محمـد عبدالـرحمـن عريـف.. كاتب وباحــث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الحديث والمعاصر

Optimized by Optimole