قتل الديمقراطية : جريمة قتل غامضة تكشف عن إندونيسيا المعاصرة

قتل الديمقراطية : جريمة قتل غامضة تكشف عن إندونيسيا المعاصرة
Spread the love

شؤون آسيوية –  بقلم كريثيكا فاراغور – ترجمة: مجد مطره جي

الكتاب:  سئمنا العنف

تأليف: مات إيستون

الناشر: نيو برس – 2022 – 288 صفحة

We Have Tired of Violence

By Matt Easton

New Press, 2022, 288 pp.

أُجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في إندونيسيا في تموز / يوليو 2004، وصُنفت على الفور كواحدة من أكثر الانتخابات إقبالاً على مستوى العالم؛ فقد أدلى 121 مليون إندونيسي بأصواتهم ضمن الجولة الأولى، ليتجاوز بفارق كبير عدد الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في عام 2000 حيث بلغ عدد الناخبين 111 مليون ناخب أميركي. رغم ذلك، فإن الديمقراطية الإندونيسية كانت لا تزال تجريبية إلى حد ما في تلك المرحلة. بعد أن حققت إندونيسيا استقلالها عن هولندا في عام 1949، بشّر “سوكارنو”، أول رئيس للبلاد بفترة من الديمقراطية البرلمانية الليبرالية والتي تحولت بدورها إلى نظام أكثر استبدادية يعرف باسم “الديمقراطية الموجهة” والذي سعى إلى توافق الآراء في بنية قروية تقليدية. ولكن ذلك كُبح في عام 1965 حينما عيّن الجنرال سوهارتو رئيساً لفترة انتقالية تخللها قتل ما يقارب المليون ممن اشتبه بأنهم من الشيوعيين واليساريين. استمر حكم سوكارنو حتى عام 1998، الذي شهد حدوث الأزمة المالية الآسيوية والاحتجاجات الجماهيرية التي دفعته إلى الاستقالة.

ارتبطت أسماء المرشحين الرئاسيين النهائيين في عام 2004 بسنوات الاضطراب الأولى للجمهورية، فالسيدة ميغاواتي سوكارنوبوتري، ابنة سوكارنو هي رئيس البلاد الحالية، بينما المرشح المنافس لها كان جنرالاً متقاعداً من الجيش ويدعى سوسيلو بامبانج يودويونو، الذي قد أدى خدمته تحت إمرة الرئيس سوهارتو. كانت الانتخابات الضخمة والمعقدة من الناحية الإجرائية إنجازاً لا يمكن نكرانه تمخض عن ديمقراطية ست سنوات، على عكس نتائجها حيث أدى فوز يودويونو إلى استمرار نفوذ الجيش على السياسية الانتخابية كما في عهد سوهارتو.

إن الديمقراطية الحديثة في إندونيسيا لا تشوبها شائبة، فقد قطعت البلاد -التي يبلغ عدد سكانها ما يقارب 300 مليون نسمة والتي تضم أكثر من 17000 جزيرة-أشواطاً كبيرة منذ نهاية ديكتاتورية سوهارتو، كما ارتفع متوسط العمر المتوقع من 47 سنة في عام 1960 ليصل اليوم إلى 72 سنة، ودخل الاقتصاد الإندونيسي ضمن “مجموعة العشرين”، وشرعت الحكومة في مشاريع رعاية اجتماعية طموحة، بما في ذلك أحد أهم أنظمة التأمين الصحي على مستوى العالم. ولكن من الممكن أن يراودك شعور بأن الديمقراطية في إندونيسيا فارغة ولا قيمة لها، فالفساد متأصل بشكل ميؤوس منه، والمجتمع المدني هش للغاية، وتنظيم العمل مستحيل عملياً، والناس تُعتقل بتهمة الكفر، كما يتم تصفية نشطاء البيئة.

أما الصحافة وإن كانت أكثر حرية من نظيراتها في الدول المجاورة كميانمار أو فيتنام، إلا أنها دوماً مكممة. لأن “الأبوية” والهيمنة ضمن الأحزاب تحكم السياسات الحزبية وليس الأيديولوجيات؛ فهي من تفكر عن الناس وتختار قضاياهم.

تولى الرئيس الإندونيسي الحالي جوكو ويدودو والمعروف أيضاً باسم “جوكووي” منصبه في عام 2014، وتعهد حينذاك بإجراء إصلاحات، لكنه لم يفعل شيئاً يُذكر في سبيل مواجهة تلك التحديات، بل يمكن القول إنه تسبب في تفاقم بعضها. دخل جوكووي التاريخ بصفته أول رئيس لا تربطه علاقة مباشرة بنظام سوهارتو، ورغم ذلك فقد تراجع احترام حقوق الإنسان خلال ولايتيه الرئاسيتين. (أعيد انتخابه في عام 2019).

في يومنا هذا، يمكن لملايين الإندونيسيين أن يمارسوا حقهم في الانتخاب، لكن الحقوق الأساسية التي يتمتع بها المواطنون عادة في الدولة الديمقراطية غير مكفولة.

ما السبب؟ قد تكمن بعض الأجوبة عن هذا التساؤل ضمن صفحات كتاب استقصائي جديد حول عملية الاغتيال التي جرت في عام 2004، وهو العام ذاته الذي شهد عملية الانتخابات الرئاسية المباشرة الأولى. يعالج الباحث الأميركي في مجال حقوق الإنسان “مات إيستون” ضمن كتاب “سئمنا العنف” الأحداث المتعلقة بحياة ومقتل الناشط الحقوقي الذي قُتل على على متن رحلة جوية من جاكرتا إلى أمستردام “منير سعيد طالب”، من خلال البحث في دوافع الجريمة والجهات المنفذة وإعادة تمثيل المحاكمات المعقدة التي عقبت ذلك، كما يلقي إيستون الضوء على السبب الذي يقف وراء بقاء العديد من المؤسسات الديمقراطية ضعيفة في إندونيسا ما بعد حكم سوهارتو، ولماذا تظل واحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم أسيرة ماضيها العنيف.

تقرير المباحث

توفي منير في المجال الجوي فوق الحدود الأوكرانية الرومانية في حوالي الساعة 4:00 صباحاً يوم 7 أيلول / سبتمبر من عام 2004، تاركاً وراءه زوجة وطفلين صغيرين، بالإضافة إلى منظمة كونتراس، منظمة حقوق الإنسان التي شارك في تأسيسها لتعمل في خدمة الإندونيسيين المغيبين أو القتلى أو الجرحى المستهدفين من قبل الدولة. تعود جذوره إلى عائلة تعمل بالتجارة ذات أصول عربية إندونيسية في جاوة الشرقية. أصبح منير أحد أبرز المنظمين والناشطين العماليين على مدار تسعينيات القرن الماضي. كان مقبلاً على دراسة الماجستير لمدة عام في جامعة أوتريخت في هولندا حينما دُست له جرعة قاتلة من الزرنيخ.

مكانة منير على الصعيد الوطني والإقليمي

حصد منير جائزة “المعيشة الصحيحة”، وهي جائزة سويدية يطلق عليها غالباً تسمية “نوبل البديلة”. أعقب مقتله احتجاج كبير، وسارعت الشرطة الإندونيسية حينها إلى تصنيف قتله على أنها جريمة قتل مع سبق الإصرار. كانت زوجة منير”سوسي” وأصدقاؤه الناشطون سباقين بشكل كبير في ممارسة الضغط سعياً للحصول على إجابات تتعلق بقضية منير. إصرارهم وعزيمتهم -بحسب وصف إيستون- مثيران للإعجاب. تعاون الأصدقاء والعائلة في سحب كشوف الهاتف واستخراج قوائم الرحلات وبيانات السيرة الذاتية لعدد من أعضاء أجهزة الاستخبارات وسياسيين في إندونيسيا، إضافة إلى عقد لقاءات مع شخصيات مسؤولة مهمة كمدير شركة طيران غارودا إندونيسيا المملوكة للدولة والتي كانت رحلة منير الأخيرة على متن خطوطها.

أسس هؤلاء الأصدقاء لجنة عمل من أجل منير، بينما عيّن يودويونو، المرشح الفائز في انتخابات عام 2004 فريقاً متخصصاً لتقصي الحقائق حول وفاة منير، لكن صلاحيات الفريق كانت محدودة. لم يتمكن من إجبار الشهود على الإدلاء بأقوالهم وعجز عن إجراء عمليات تفتيش. ذكر إيستون أن عملها اقتصر على “مشاركة المعلومات مع الشرطة وتقديم اقتراحات أملاً بأن تسير الشرطة على ضوئها”. اعترض التحقيق أيضاً عقبات عديدة، فقد كان مسرح الجريمة في حالة من الفوضى، وخُربت أدلة هامة أثناء تحقيق هولندي أخرق، وتأخر تقديم تقرير الكشف عن السموم لأكثر من ثلاثة أسابيع، إضافة إلى عدم حصول قوات الشرطة الإندونيسية الموفدة إلى أمستردام على تقرير التشريح الكامل. ورغم كل تلك التحديات، تمكن فريق تقصي الحقائق ولجنة العمل من تحديد المشتبه بهم الرئيسيين، وكذلك تحديد الموقع الذي حدثت فيه عملية تسميم منير، خلال نقطة توقف بين الرحلات في مطار شانغي في سنغافورة.

بوليكاربوس بوديهاري بريانتو، مساعد طيار لغارودا هو المشتبه به الأول الذي ظهر في الكتاب. بدا شخصاً غامضاً وشريراً على الفور لدرجة أنه لو كان شخصية ضمن حبكة درامية تلفزيونية حول جريمة، فسيتم رفضه باعتباره مجرماً واضحاً للغاية. يشاع أن له علاقات وثيقة بالجيش ولا يمكنه تقديم تبرير مقنع لتواجده على متن الرحلة 974، بما في ذلك كيفية نقل منير إلى درجة رجال الأعمال.

تلقى أحد الناشطين من أصدقاء منير خلال التحقيق ثلاث رسائل نصية مجهولة تزعم أن بوليكارس قد أصبح عميلاً لوكالة استخبارات الدولة في عام 2002، كما زعمت أيضاً وقوف مسؤولي وكالة استخبارات الدولة وراء اغتيال منير؛ بسبب خشيتهم من أن يثير مسألة اختفاء عدد من النشطاء المنهاضين لسوهارتو في الخارج.

هذه النظرية ليست بعيدة عن الحقيقة وعلى الرغم من مصدرها الغامض، إلا أن الكتاب يتبناها إلى حد كبير. تتضح تلك المزاعم من خلال الكشف التدريجي لشبكة الاتصالات الاستخباراتية، إلى جانب تحركات عديدة لبوليكاريوس والتي تدينه خلال الأشهر السابقة لمقتل منير، إضافة إلى الكشف عما يزيد عن ثلاثين مكالمة جرت بين بوليكارس وقائد بارز في القوات الخاصة.

أُدين بوليكاريوس بجريمة اغتيال منير في كانون الأول / ديسمبر 2005، وحكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً، ومع أن بوليكاريوس من ارتكب الجريمة غالباً، إلا أن هناك تساؤلات أهم بكثير تم نسيانها. من الذي أصدر الأمر بتنفيذ الاغتيال؟ ومن هو المستفيد؟

يفترض الكتاب أن القاتل هو موشدي أحد المشتبه بهم، الجنرال السابق ورئيس وكالة استخبارات إندونيسيا البارز والمتعاون مع بوليكاربوس، وإن لم يكن المتورط الوحيد في الجريمة.

فيما مضى، وقبل مقتل منير، قدم نصيحة لزميل ناشط “لا تدع التفاصيل تستحوذ على تفكيرك”، ففي حالات التحقيق بقضايا الاختفاء القسري، عليك التركيز على السبب وليس الأسلوب. للأسف لم يأخذ الكتاب هذه النصيحة بعين الاعتبار، حيث يتحدث إيستون ضمن صفحاته عن تحقيق ومحاكمات مطولة استمرت لسنوات، لكن هذه الخطوط الرئيسية للقضية قد تم الإبلاغ عنها بالفعل منذ أكثر من عقد، ويسعى جاهداً من خلال كتابته تلك لتحويل المادة الخام إلى سرد مؤثر. يصعب متابعة الدراما الخاصة بقاعة المحكمة، حيث يتضمن الكتاب على سبيل المثال لا الحصر التخمينات الموسعة حول ما إن كان السم قد دُس في عصير البرتقال أو في وجبة المعكرونة. يبدو جلياً أن هذا الكتاب قد كُتب باهتمام بالغ، لكنه من الناحية الأخرى متأثر بالخلفية المهنية لإيستون، ويحتوي سرداً في بعض الأحيان مشابهاً تماماً لتقرير حقوق الإنسان. لا وجود لتطور دراماتيكي ولا لخلاصة جديدة؛ من بدا مذنباً في خاتمة الكتاب هم ذات الأشخاص الذين حوكموا منذ أكثر من عقد. ورغم كل ما سبق ذكره، لا يسعني سوى أن أُقدر عمل إيستون الدؤوب في المصادر والأبحاث الشاملة حول القضية. وبصفتي مراسلاً سابقاً في إندونيسيا، فإنني أعي تماماً أن ندرة من الكتاب الناطقين باللغة الإنجليزية قد بذلوا مثل هذا الجهد في تغطية أي مادة إندونيسية خلال السنوات الأخيرة، ناهيك عن مسألة مضى عليها 18 عاماً، ولا تنضوي على أهمية تذكر بالنسبة للعالم ولأميركا، وآمل ألا يظل هذا الكتاب وحده هو الاستثناء.

ظاهر القضية وجذورها

لا يتناول كتاب “سئمنا العنف” اغتيال منير بأسلوب مثير أو مبتكر، لكنه يسلّط الضوء على أسباب وكيفية التداعي المفاجئ الذي أصاب العديد من المؤسسات في إندونيسيا الديمقراطية الحديثة. سُميت حركة الاحتجاجات التي خلعت سوهارتو أخيراً في عام 1998 بالإصلاح أو حركة الإصلاح. لكن هدفها لم يكن مؤسسة الجيش ككل، بل نظام سوهارتو بالتحديد، كما أن تسمية منظمة منير باسم كونتراس هو اختصار لكلمة كونترا (بمعنى ضد أو مناهضة) وحرف (إس) في الإشارة إلى اسم سوهارتو. تم تصنيف سوهارتو وفقاً لإحدى إحصائيات تابعة لمنظمة الشفافية الشهيرة كأكثر الزعماء فساداً في التاريخ المعاصر، فقد اختلس ما يصل إلى 35 مليار دولار على مدى ثلاثة عقود، لكنه بقي في منصبه حتى وقوع الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997، حيث أطاحت حركة احتجاج طلابية بحكمه أخيراً. الجيش لم يردع الإطاحة بالنظام فحين اعتصم الطلاب المتظاهرون في ساحة البرلمان، وكما كتب إيستون في كتابه: “بدا الجيش يوالي الرئيس، ورغم ذلك توالت الأيام ولم يفضوا الاعتصام”.

ضمنَ الجيش وجوداً آمناً له في إندونيسيا الديمقراطية من خلال حياده والسماح تكتيكياً بانهيار هذا النظام. شغل العديد من عناصره مناصب مرموقةً بعد عام 1998، ودخل جنرالات متقاعدون عدة السياسة الانتخابية وترقوا بسرعة مثل يودويونو. كتب إيستون أن هذه النخب قبل وبعد سوهراتو “قبلوا التحولات السلمية والديمقراطية الإجرائية للانتخابات الحرة، طالما أن كل شيء آخر يبقى على حاله: الإجرام والفساد، والإفلات من العقاب”.

لكل ديمقراطية نقطة خلل خاصة بها. ففي حال كانت العديد من تجاوزات الولايات المتحدة ناتجة عن الدور الضخم للفردية في ثقافة البلاد، فإن كعب أخيل ونقطة ضعف الديمقراطية الإندونيسية قد يكون سلطة الجيش، والإفلات شبه التام من العقاب عن العنف الذي ارتكبه سابقاً. يشبه الجيش الإندونيسي في الوقت الحالي طبقة صخرية تحت بضع بوصات من التربة حيث نشأت مؤسسات ديمقراطية من حيث الشكل منذ عام 1998.

تجلت سطوة الجيش في إندونيسيا خلال منعطفات عدة في حياة منير وموته. وكمثال على ذلك، المعاملة المتحيزة الواضحة للشرطة مع المشتبه بهم الرئيسيين ذوي الخلفيات العسكرية. تقلدّ الجنرال هندبروبيونيو، الذي قاد مذبحة في جزيرة سومطرة عام 1989 منصب رئيس وكالة استخبارات الدولة في عام 2001. كان منير من أبرز المعارضين لتعيين هندبروبيونو. ولكن حينما تورط هندبروميونو أخيراً في قضية منير، ووفقاً لإيستون، “لم يتم استجوابه في مقر الشرطة، والذي يكون عادةً تحت إشراف جنرال في الجيش، بل في جناحه في الفندق”. عندما حاول إثنان من أعضاء فريق تقصي الحقائق الخاص بقضية منير استجواب هندبروميونو، تقدم الأخير بشكوى تشهير، تعاملت الشرطة على الفور مع الأمر من خلال استدعاء الرجلين للاستجواب. على الأرجح أن من أمر بتنفيذ الاغتيال هو موشدي، الجنرال السابق في القوات الخاصة. يعتقد أنصار منير أن تبنّيه لقضية المختطفين من قبل القوات الخاصة في عام 1998، قضت على مسيرة موشدي في الجيش، مما أدى إلى نشوء ثأر شخصي تجاه منير. لكن الشرطة لم تُظهر تعاوناً كاملاً مع فريق منير لتقصي الحقائق، فقد قدمت للفريق وفقًا لإيستون، “18 محضر استجواب مع المشتبه بهم فقط من أصل ما يقاؤب المائة”. تجاهل موشدي أربعة أوامر استدعاء متتالية في عام 2005، وبمجرد أن أُجبر أخيراً على المثول أمام المحكمة في عام 2008، تم تقديمه من قبل فريق الدفاع بصفته بطلاً محلياً. امتلأت مدرجات المحكمة بأنصاره. تمت تبرئة موشدي كما هو متوقع. ثم دخل عالم السياسة سريعاً، وانضم إلى حزب جيريندرا التابع للملازم السابق برابوو سوبيانتو.

تضاءلت فعالية لجنة تقصي الحقائق أكثر فأكثر مع مرور الأشهر، فمن غير الممكن أن يكون لتحقيقاتهم فرصة أمام شبكات الجيش ومجتمعات الاستخبارات الراسخة على مدى عقود. في النهاية، أُدين بوليكاربوس واثنان من مسؤولي جارودا بجناية تسهيل جريمة قتل، وقضوا محكومية في السجن. في عام 2010، أُمر جارودا أيضاً بدفع مبلغ لم يكشف عنه بدقة، يزيد عن 600 مليون روبية (حوالي 68000 دولار) لأرملة منير، لكن مسؤوليه تجاهلوا الأمر ببساطة.

الخطيئة الأولى

لم يكن ذلك ليثير استغراب أحد كما فعل الأمر مع منير، الذي سعى من خلال بحث تخرجه “إلى إيجاد إجابة على السؤال المحيّر المتعلق بصعوبة حماية الإنسان حتى بعد إسقاط الحكومة المدعومة من الجيش” على حد تعبير إيستون، كان منير عبقرياً في تحليل الصورة العامة. فقد مكّنته خبرته العملية بتنظيم العمال من إدراك مدى تفشي الارتياب من الشيوعية، وآثاره الكريهة على المجتمع الإندونيسي. كتب إيستون أن منير كان يأمل من خلال كونتراس بإعادة تقييم “سطوة الجيش والاستخبارات على الديمقراطية”.

إن نجاح الحركة الاحتجاجية التي أطاحت بسوهارتو تعني أن رياح التغيير تهب وفق رؤى منير لفترة من الوقت. أصبحت إندونيسيا تضم أحزاباً سياسية جديدة، ونعمت الصحافة بفضاء من الحرية، ولم يعد الجيش يحظى بشكل تلقائي بمقاعد في المجلس، وأصبحت الشرطة قوة مدنية منفصلة عن الجيش، وكما كتب إيستون، “بعد مضي أربع سنوات على بداية الحركة الإصلاحية، لا تزال إندونيسيا تصوغ وتمرر مجموعة من القوانين حول حقوق الإنسان والجيش والشرطة والإرهاب والاستخبارات”.

لكن الجيش لم يرد على التهم الموجهة ضده في عامي 1997 و1998، وخاصة بما يتعلق باختفاء النشطاء والمعارضين، وعلى الرغم من أن وقف عنف الدولة يعدّ جوهرياً في عملية الإصلاح، إلا أن اهتمام قادة الديمقراطية الشباب المتوالين انصب على المصالحة والتسامح وليس على العدالة. وكنتيجة منطقية لما سبق، لم تتم معاقبة الجيش على الجرائم الفظيعة التي ارتكبها في عامي 1965 و1966، من جرائم إبادة جماعية لما يصل إلى مليون من الشيوعيين واليساريين والمثقفين والأقليات المختلفة الذين اشتبه بهم. كانت هذه الفاجعة مؤلمة ودموية للغاية وتركت ندبة في نفوس الإندونيسيين، إضافة إلى بقاء مرتكبيها في السلطة لفترة طويلة بعد ذلك؛ إلى درجة دخول معظم الإندونيسيين في حالة صمت قاتل.

ربما تسبب الرقم الهائل لعمليات القتل 1965-1966 في إعاقة مديدة للمجتمع المدني في إندونيسيا الحديثة. واليوم، فإن الميدان السياسي في “بلد خلا من اليساريين”، كما وصفه الناشط الأسترالي ماكس لين، هو “أرض عقيمة”. يبرز نشطاء حقيقيون وشجعان في أنحاء البلاد اليوم – يحاربون الفساد ويطالبون بالديمقراطية المنفتحة وحرية التعبير وحقوق الأقليات – ولكنهم قلة قليلة. ما يقوّض فعاليتهم كما كان الحال في زمن منير هو تضاؤل عددهم وتحديهم لمؤسسات كبرى.

كلام أجوف في الديمقراطية

تبنى منير ذات مرة نظرية أن يودويونو “يطبق الديمقراطية من دون الإيمان فيها”. يودويونو هو من شكّل لجنة التحقيق في وفاة منير في عام 2004، وهو من أمر بإغلاق القضية بُعيد إعادة انتخابه في عام 2009. لا يزال هذا التكتيك المتمثل في الإعلان عن تغيير شكلي من خلال مؤسسات جديدة أو تعيينات براقة متبوعة بالمماطلة والتأخير والتعتيم ناجعاً على مستوى إندونيسيا الديمقراطية الحديثة.

في الواقع، أتقن الرئيس الحالي هذا التكتيك. تولى جوكووي، الذي لُقب مرة باسم أوباما الإندونيسي، منصبه على أساس برنامج إصلاحي. لكن حلم التغيير المحتمل الذي كان يتبناه تحطم على صخرة الواقع المتردي الذي يرأسه. في حملته لعام 2014، تناول جوكووي الموضوعات الشائكة مثل عمليات القتل 1965-1966 وحالات الاختفاء في عام 1998 – أحد قضايا منير الرئيسية. ولكن بمجرد توليه منصبه، انصب اهتمامه بشكل كلي تقريباً على الاقتصاد. في عام 2015، شكّل النشطاء الإندونيسيون هيئة تحكيم شعبية في لاهاي للبت بعمليات القتل الجماعي، لكن إدارة جوكووي تجاهلت توصياتهم واكتفت بتصريح مفاده أن إندونيسيا “تعتذر لجميع الضحايا والناجين وعائلاتهم… الجرائم المرتكبة في إندونيسيا خلال أحداث عام  “، والتحقيق في الجرائم المذكورة ومحاكمة مرتكبيها، وتقديم تعويضات للضحايا والناجين. (رفض نائبه في ذلك الوقت المحكمة واصفاً إياها “بالعمل الدرامي”).

في عهد جوكووي، تم إطلاق سراح بوليكاربوس خلال فترة سجنه الثانية، بعد أن قضى ثماني سنوات فقط من عقوبته البالغة 14 عاماً. كما عيّن جوكوي هيندروبريونو، الجنرال الهمجي المشتبه بتورطه في مقتل منير، كمستشار للفريق الانتقالي – أحد الأذرع العسكرية العديدة في عهد سوهارتو.

إن كان هناك وجود لكتلة وازنة في المجتمع المدني الإندونيسي، فهي كتلة الشعبويين المسلمين والمحافظين الدينيين، الذين أصبحوا أكثر حرية بعد حقبة سوهارتو العلمانية نسبياً والذين حققوا نجاحاً أكبر بكثير مما حققه المدافعون عن حقوق الإنسان في إحداث التغيير. في السنوات الأخيرة، نظمت الجماعات الإسلامية اليمينية احتجاجات ضخمة ضمت أكثر من 200000 شخص واستطاعت وضع عشرات اللوائح الداخلية مصدرها الشريعة الإسلامية في الكتب. أما بالنسبة للنشطاء الليبراليين، فهؤلاء قلة يندثرون شيئاً فشيئاً. عند قراءة كتاب إيستون، أدركت الحقيقة المرة بأن معرفتي محدودة بمعظم منظمات حقوق الإنسان في أوائل الألفية وفي العديد من الأفراد الذين ذُكرت أسماءهم، مثل ماريا سومارسيه، البالغة من العمر في الوقت الحالي 70 عاماً، والتي نظمت احتجاجات أسبوعيةً دورية بالقرب من القصر الرئاسي منذ عام 2007. يمثل الشباب الفئة العظمى من المواطنين الإندونسيين، ومن غير المؤكد ما إذا كان الأشخاص الذين لم يشهدوا أحداث احتجاجات الطلاب عام 1998 سيجدون طرقهم الخاصة لمقاومة قبضة الجيش الخانقة. يتلخص مزاج الشباب الإندونيسي في أسلوب حركة جولبوت، التي تمتنع عن التصويت تماماً.

تُعتبر دراسة هذا الكتاب هامة لنفهم كيفية إحباط المؤسسات الديمقراطية لمفهوم العدالة في إندونيسيا في زمن منير وفي إندونيسيا في الزمن الحاضر. حضرتُ فعالية مجتمعية في معهد جاكرتا للمساعدة القانونية في عام 2017. عُقدت ندوة حينها حول عمليات القتل الجماعي 1965-1966 والتي تحولت إلى أمسية شعرية موسيقية. ومع ذلك، كان الحدث مثيراً للجدل وبحلول غروب الشمس احتشد عدد كبير من المتظاهرين الإسلاميين، الذين هتفوا “اقتلوا أعضاء الحزب الشيوعي!”، وحاصروا المخارج، واحتجزوا بعض الناس هناك حتى الرابعة صباحاً. (تم حلّ الحزب الشيوعي الإندونيسي في عام 1965). استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ليس ضد المتظاهرين العدوانيين ولكن ضد المشاركين في الحدث في وقت من الأوقات حينها. ارتباط منير بمعهد المساعدة القانونية، مكّنه من النشاط وفقاً لمواقفه فعمل فيه كمنظم عمالي في تسعينيات القرن العشرين. كما أصيب في أعمال شغب عنيفة شهدها المعهد عام 1996، حيث داس جندي على يده وكسر إصبعه. وكما هو الحال في إندونيسيا الحاضر، لم تسعَ السلطات للقبض على الجناة. بل اعتقلوا زعيم مجموعة يسارية جديدة مؤيدة للديمقراطية بدلاً من ذلك. وكما عبّر إيستون في كتابه، “حاكمت الحكومة الضحايا تحت الضغط الذي مورس عليها خلال التحقيق في أعمال العنف”.

*كريثيكا فاراغور كاتبة من نيويورك ومؤلفة كتاب «النداء: داخل المشروع الديني السعودي العالمي». عملت كمراسلة سابقاً من إندونيسيا لصحيفة الغارديان وفاينانشيال تايمز، ووسائل إخبارية أخرى.

 

المصدر: فورين أفيرز

Optimized by Optimole