مخطوطات الموصل والمصير المجهول بعد «داعش»

مخطوطات الموصل والمصير المجهول بعد «داعش»
Spread the love

بقلم: مهند مبيضين — مع تنامي حدّة الصراعات الداخلية في البلاد العربية، التي ما زالت تشهد انقسامات وحروباً، يبدو أن مصير التراث الثقافي المخطوط لهذه البلدان يتجه نحو المجهول. ففي صنعاء كما تعز والموصل والفلوجة وحلب، هناك العديد من المخطوطات والوثائق والسجلات والقيود، التي تعود لقرون طويلة، وبعض المخطوطات كما هي النصوص القرآنية الأولى التي كشف عنها عام 1972 أثناء ترميم سطح الجامع الكبير في صنعاء، تعد من أكثر النصوص الإسلامية أهمية، وترجع إلى القرن الأول والثاني الهجريين. من بين هذه الصحف وجد المصحف DAM 01-27.1 الذي وجد منه ثمانون لوحة سليمة والذي يعود تاريخه لنصف القرن الأول الهجري. وللأسف تعرضت نوادر المخطوطات إلى النهب أو المتاجرة من قبل المنظمات المتطرفة في أغلب مناطق الصراع.
في الموصل، ومنذ خضوعها لسلطة «داعش» منذ نحو ثلاثة أعوام، بات مصير التراث في خطر، إذ دمر العديد من المواقع الأثرية، وبيع قسم كبير من موجوداتها لشبكات تجارة عالمية، وبأثمان لا تساوي قيمتها.
ومن بين مصادر التراث العربي الأوسع والأكبر في العراق، تعد مكتبة الأوقاف العامة في الموصل من المكتبات المهمة من حيث المحتوى والمدى الزمني الذي تغطيه، وتنوع المعارف وطبيعتها، واتساع وتعدد حجم الواقفين للكتب على خزائنها الكبيرة. وهي تحتاج اليوم إلى جهد كبير لإنقاذ موجوداتها من الضياع والبيع أو الحرق. وتكتسب المكتبة أهمية كبيرة لكونها، لم تتأثر بعد انهيار النظام السابق بعد 9\4\2003، فقد نجت من الأحداث التي رافقت نهب الآثار والتراث العراقي، على عكس المكتبة العامة بالموصل ومكتبة جامعة الموصل ومكتبة الأوقاف في بغداد. وفي عام 2004 تم إجراء جرد على موجودات المكتبة من مخطوطات فبلغ عدد مخطوطاتها 4352 مخطوطا وبلغ عدد المخطوطات المفقودة 405 وبلغ عدد مخطوطات المجاميع المفقودة 58 مخطوطاً.
وخطورة الوضع الراهن أننا لا نعرف شيئاً عن مصير مخطوطات مكتبة الأوقاف، بعد أن تعرضت مراكز المخطوطات والجامعة في الموصل إلى النهب في ظل «داعش»، وهو أمر حدث لمخطوطات الجامع الكبير في الفلوجة سابقاً، وهو ما قد يهدد مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في تعز أو مخطوطات الجامع الكبير في صنعاء.
يعود تأسيس مكتبة أوقاف الموصل، إلى عام 1927، وينسب الفضل لكل من داود الجلبي وابراهيم الواعظ واسماعيل آل فرج، الذين أسفرت جهودهم عن افتتاح المكتبة النواة في 1928، لكن المحاولة تعثرت حتى الستينات من القرن العشرين، حيث كانت البداية في جمع مخطوطات مكتبة المدرسة الاسلامية مع مخطوطاتها عام 1963 مع مخطوطات الواقف حسن باشا بن حسين باشا الجليلي (ت1233هـ/1818م)، إضافة إلى مخطوطات تعود ملكيتها لأعيان وولاة آخرين وسيدات من آل الجليلي، وبعض علماء الموصل وأعيانها ممن جمعوا مقتنياتهم الشخصية وأودعوها فيها، أمثال عبدالمجيد الخطيب وعبدالله مخلص، وميسر صالح الأمين، وعبدالله الحسو، ومحمد صديق الجليلي، ويوسف ذنون، وعبد الهادي رؤوف، وعبدالله نشأة، ومحمد أمين آل الملا يوسف. وحوت المكتبة آنذاك 51 خزانة موقوفة من خزائن الكتب في الموصل. ولاحقاً في عام 1968 جدد ديوان الأوقاف الدعوة لاكتمال جمع مخطوطات الموصل في مكان واحد، وهو ما تحقق عام 1973 حين أسست المكتبة الحالية مقابل جامع النبي شيت وبنيت إلى جانبها مدرسة، تقع قرب مقر دائرة الأوقاف وهي تتبع دائرة التعليم الإسلامي في دائرة الأوقاف. ولم يكن مطلب التأسيس موصلياً وحسب، بل دعم الفكرة نخبة من مثقفي العراق أمثال كل من عبدالله الجبوري وسعيد الديوه جي ومحمد صالح الجوادي.
صدر أول فهارس مكتبة الأوقاف المركزية أو مكتبة الأوقاف العامة كما عرفت، عام 1927 على يد داود الجلبي حين أسست المكتبة النواة. وهو أقرب إلى ثبت بمحتوياتها، ولكن كما يقول المؤرخ صالح العلي: «كانت معلوماته غير دقيقة» ليأتي بعدها، عمل دقيق ومنتظم لأول أمناء المكتبة وهو المحقق سالم عبد الرزاق الطائي، الذي أعدّ فهرساً جديداً للمخطوطات وبدأ بخزائن آل الجليلي الذين حكموا الموصل في القرن الثامن عشر واستمروا حتى ثلاثينات القرن التاسع عشر، وتميز عمله بالدقة والتبويب الجيد. (أنظر: صالح العلي، مقدمة، سالم عبدالرازق، فهرس مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في الموصل، ج1، 1974، ص18).
ومن ثم أعدّ سالم عبدالرزاق فهارس عدة خصّ كل خزانة بمخطوطاتها الأصلية بجزء، مثل مخطوطات مدرسة الخياط والأحمدية والمدرسة الإسلامية والعراكدة والنبي شيت وباب العلوي وجامع النوري وفهرس مدرسة الحجيات، وفهرس جامع الباشا والمدرسة الأمينية التي أنشأها الوالي محمد أمين الجليلي وجددها نجله سليمان. إضافة إلى فهرس خزانة المدرسة الرابعية وفهرس خزانة مريم خاتون وفهرس المدرسة النعمانية التي أنشأها الوالي نعمان باشا الجليلي بالاشتراك مع شقيقته عائشة خانم، مقابل سوق الغزل سنة 1212هـ/1798م.
لكن ماهي ميزات مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في الموصل؟
يعود الفضل في نشر تسعة فهارس عامة لمخطوطتها للباحث سالم عبدالرزاق الطائي (1929- 2009) أمين مكتبتها، وهي فهرسة دقيقة مرتبة وفق تواريخ الخزائن ووقفها، وقد خصص الفهرس التاسع والصادر عام 1980 للإحالات، حيث ضمّ المخطوطات التي دخلت إلى المكتبة بعد صدور الجزء الثامن، أي بعد عام 1978م. ولاحقاً عمل في أمانة المكتبة عدد من الباحثين الذين عملوا على تطويرها ومنهم عمر الرسام وإياد اليوسف وعبدالجبار جرجيس، وقد شهدت المكتبة تطوراً خلال تولي الدكتور خالد عبد الجبارشيت، حيث فهرست إلكترونياً وأضيف إليها قسم للمؤلفات الصوتية.
الأمر المهم الذي تكشف عنه فهارس خزائن مكتبة أوقاف الموصل، هو أن مخطوطات العلوم العقلية مثل المنطق، والفلسفة والبحث وآداب المناظرة وعلم الوضع كانت الغالبة على بقية العلوم، حتى أن الواقف حسن باشا الجليلي اشترط أن يبدأ التدريس في المدرسة «بدرس الأخلاق». على غير ما شاع في القرن الثامن عشر من سيادة للعلوم النقلية، ذلك أن الثقافة الكتبية في دمشق خلال فترة حكم آل العظم الذين عاصروا آل الجليلي في الموصل، كانت تميل لمصلحة علم الحديث ورجاله وعلوم الفقه والقرآن، ولقد بينت دراسة اسامة عانوتي الحركة الأدبية في بلاد الشام خلال القرن الثامن عشر الميلادي إلى جانب دراستنا أهل القلم في دمشق ودورهم في الحياة الثقافية أن المناخ الثقافي في دمشق مال إلى علوم الحديث والفقة والتصوف.
الأمر الآخر المميز لمكتبة أوقاف الموصل، هو إقبال نساء آل الجليلي أو وفق مصطلح الفهرس «الحجيات» على وقف الكتب وتشييد المكتبات ومرافق التعليم، في الوقت الذي لا نجد مثل هذا الدور للمرأة في حواضر عربية أخرى.
في عهد آل الجليلي بالموصل 1726- 1834م والذي أخذت المدينة فيه تنمو وتستقل محلياً، على غرار حكم آل العظم بدمشق، كانت مساهمة المرأة الثقافية لافتة، فإذا نظرنا في فهرس مدرسة «الحجيات»، والصادر عام 1982، لوجدنا أن هذه المدرسة والخزانة بنتها الحاجة عادلة والحاجة فتحية بنتا عبدالفتاح باشا الجليلي والي الموصل بين عامي 1770- 1771م. وضمت الخزانة ستة عشر مخطوطاً في البلاغة وسبعة عشر مخطوطاً في المنطق والبحث وآداب المناظرة، وتسعة عشر مخطوطاً في التاريخ، وسبعة في أصول الفقه وأربعة في الحديث ومثلها في العقائد. وكذلك الحال في خزانة مدرسة مريم خاتون ابنة محمد باشا الجليلي والتي ضمت 15 مخطوطاً في المنطق والحكمة من أصل 64 مخطوطاً. لكن هذا الاهتمام بالعلوم العقلية لم يحل دون اهتمام بعض السيدات بعلوم القرآن حيث شيدت رابعة خاتون ابنة اسماعيل باشا الجليلي المدرسة الرابعية، وجعلت فيها داراً للقرآن.
كانت أكثر سنوات المكتبة إهمالاً في حقبة الحصار على العراق بعد عام 1990 إذ سرق منها عام 1995 نحو 465 مخطوطاً و3 إسطرلابات نحاسية و3 شمعدانات تعود للعصر المملوكي، وبعد عام 2007 وحتى قبيل سيطرة «داعش» في 2014، كانت مكتبة الأوقاف في الموصل تشرف على أربع مكتبات فرعية أخرى وهي مكتبة الرحمة في حي السكر بالجانب الأيسر من مدينة الموصل، ومكتبة يحيى الطالب في حي الرفاعي في الجانب الأيمن من المدينة ومكتبة حمام العليل في الجامع الكبير في بلدة حمام العليل ومكتبة النور في قرية الحود في ناحية الشورة. أما اليوم وبعد ثلاثة أعوام من سيطرة «داعش» فلا يوجد الكثير من المعلومات حول مصير مخطوطاتها.
أخيراً، وإذ نجحت بعض الجهات في إنقاذ التراث المسيحي الموصلي، وما فيه من مخطوطات سريانية قديمة وعرضها لاحقاً في متحف باريس في 2015، فإن ذلك يسجل نجاحاً تمّ قبيل إحكام سيطرة «داعش» على المدينة في حماية الإرث الكنسي القديم، وفي المقابل يعكس تجاهلاً وعدم اهتمام بالإرث الإسلامي في مناطق الصراع.

المصدر: الحياة

Optimized by Optimole