كلام في البحث العلميّ والثقافة التقنيّة

كلام في البحث العلميّ والثقافة التقنيّة
Spread the love

بقلم: أحمد فرحات* — مع بدء الثورة المعلوماتيّة في منتصف الستينيّات من القرن الفائت وتعاظمها، وخصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة، وصولاً إلى راهن أيّامنا، تضاعفت المَعرفة العلميّة على نحوٍ غير مسبوق، مطوِّرةً، طبعاً، من مستوى الاختراعات والابتكارات ذات العلاقة بالنُّظم التكنولوجيّة الذكيّة، والتي باتت تُسجّلها تِباعاً وسراعاً، مراكز بحوث غربيّة كبرى، منوِّهةً بالثورة العلميّة التي تشهدها الألفيّة الثالثة، تنمو بشكلٍ انفجاريّ مُتغازِر، مرّة كلّ خمس سنوات، وأحياناً مرّة في كلّ سنة، وربّما نصف السنة أيضاً.. حتّى لَبَلَغَ الأمر بالعالِم الأميركيّ من أصول تيبيتيّة د. ميتشيو كاكو أن قال ” إنّنا في عالَمٍ جديد، عندما نتخيّله نَصنعه”.

وقال أيضاً في آخر محاضرة له على هامش القمّة العالميّة للحكومات التي عُقدت مؤخّراً في دبي، إنَّ السرعة التي تتحرّك بها العلوم والتقنيّات، تُثير أحياناً رهبة وقلقاً في النَّفس.. وإنّ كلمة حاسوب ستختفي، أي إنّنا، وبعد فترة وجيزة، سوف لن نستخدم أجهزة الحواسيب، بداعي أنّها ستُصبح “سائدة” على شكلِ مسطّحات شفيفة مرئيّة وغير مرئيّة، بحسب رغبة المُتعامل مع مترتّباتها العلميّة الذكيّة، أي أنّ كلّ شيء سيصبح “حاسوباً”.. من الشوارع نفسها إلى أجسادنا، وسيتحوّل كلّ شيء إلى قاعدة مَرنة لا يخرج عنها شيء. وأردف د. كاكو يقول ما ترجمته، إنّ التقنيّة المتحوّلة ستجعلنا نتبادل الفكر بصورة لم يسبق لها مثيل، لأنّنا سنتمكّن من التحدّث إلى الناس بأيّ لغة، فعدساتنا اللّاقطة ستكون قادرة على ترجمة أيّ حديث، عبر لغة تقنيّة مُشتركَة يتداولها الجميع.

ويعود الفضل في هذه الطفرة العلميّة المُعجزة، والمستمرّة بإعجازها إلى نتائج البحوث العلميّة الجارية في عدد محدّد من الدول الصناعيّة الغربيّة الكبرى (الولايات المتّحدة، ألمانيا، بريطانيا، روسيا، اليابان كبلدٍ مصنَّف في خانة الغرب تكنولوجيّاً) التي تستأثر بما نسبته 96 في المائة من مجموع ما يجري من بحوث علميّة متقدّمة في العالَم. أمّا الأربعة في المائة من هذه البحوث العلميّة، فهي من نصيب كلٍّ من الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك.

أمّا على المستوى العربيّ، فتوضح بعض التقارير أنّ العالَم العربيّ كلّه يُسهم بنسبة لا تتعدّى الصفر، وهو ما يعني أنّنا لا نزال كما كنّا في بداية القرن التاسع عشر، لا نُنتج معرفة علميّة من شأنها أن توسِّع آفاق المَعارف العلميّة المُتداوَلة، والسبب أنّنا لا نملك حتّى الآن، مؤسّسات جدّية للبحث العِلميّ في حقول العلوم الأساسيّة وفروعها.

مشكلة في التعريف

حتّى الآن، ومنذ بدايات القرن العشرين، لا يزال مفهوم البحث العِلميّ عرضةً للتعديل والبلورة وتحديد الطرائق والمَناهج، وكذلك التطبيقات المتعلّقة بهذه المَناهج، على الرّغم من أنّه الأداة الأساسيّة والمركزيّة لمَعرفة حقائق الكون والإنسان والحياة، وأيضاً على الرّغم من أنّ الحاجة إلى الدراسات والبحوث العلميّة المطّردة، باتت من عناوين تقدُّم الدول الكبرى وإمساكها بمنطلقات التفجّر المَعرفيّ وسياقاته على كلّ صعيد.

وحتّى لا نستطرد أكثر في ما هو مُستطرَد فيه أصلاً، وتعميماً للفائدة والتبسيط غير المُخلّ بالعمق، نقول مع أحد الخبراء في مضمار البحث العِلميّ، إنّ هذا البحث هو ” تجميع منظّم لكلّ المعلومات المتوافِرة، وتلك التي ستتوافَر عن موضوعٍ علميّ معيّن، إن على مستوى العلوم التطبيقيّة البحتة، أو على مستوى العلوم الإنسانيّة بتفريعاتها المُختلفة، وترتيبها بصورة دقيقة، بحيث تدعم المعلومات السابقة عليها، فتصبح أكثر وضوحاً واكتمالاً وقدرة على التوليد والإبداع من جديد”.

وينبغي لنا عَرَباً، وأمام هول التحوّلات الكبرى في العالَم على كلّ صعيد، بخاصّة في السنوات الخمس الأخيرة، أن نرصد، وفي إطار من البحوث العلميّة المُستنِدة إلى مَناهج متطوّرة ومُنتِجة في مجالاتها، هذه التحوّلات غير التقليديّة في كلّ شيء، تنمويّاً واقتصاديّاً ومَعرفيّاً، وبالطبع في مضامير العلوم الإنسانيّة على اختلافها.. والهدف من ذلك كلّه تكريس المَعرفة العلميّة ونشرها. والمَعرفة العلميّة – في المناسبة – لا تعني التعامل مع نتائج العِلم وكشوفاته العظيمة فقط، وإنّما الإندغام فيها كطرائق تفكير إبداعيّة مؤسِّسة لمَعرفة جديدة، هي أسّ التفكير التنمويّ والنهضويّ الحضاريّ الشامل. وهكذا، فالنهضة، إمّا أن تكون شاملة كلّ مضمار أو لا تكون. وكم كان فيلسوف التنمية المُستدامة، المدير العامّ الأسبق لليونيسكو “رينيه ماهيو” على حقّ، عندما ربط بين التنمية ومسار العلوم والتقنيّة قائلاً ما ترجمته، إنّ تنمية أيّ أمّة، أو شعب من الشعوب، لا يُمكن أن تتحقّق، إذا لم تنتقل العلوم والتقنيّات، من كونها سحراً مُستورَداً إلى أن تصبح عادةً يوميّة لدى مواطنيها.

وعليه، وبخصوص الإيغال أكثر في موضوعة البحث العِلميّ في بلداننا العربيّة، وتأصيل الثقافة العلميّة ووقف التردّي العِلميّ، فإنّنا نطرح التساؤلات الآتية:

أوّلاً، إلى أيّ حدّ يُمكننا القول بوجود تقاليد بحثيّة علميّة عربيّة متحقّقة النواتج، إنْ داخل الجامعات العربيّة أو على مستوى مَراكز البحوث والدراسات الجادّة في بلداننا العربيّة؟ فهذه المراكز، كما هو معروف، نادرة، لا يتجاوز تعدادها أصابع اليد الواحدة… إنّنا نتساءل في صميم ذلك، لأنّ لدينا (كعرب طبعاً) أزمة “بنيويّة” في تحديد مفهوم البحث العِلميّ، ولأنّنا، لا نملك في نظر البعض وحتّى الآن، أيّ بَرامج جديّة للبحث العِلميّ، يُعتدّ بها، ولم يسبقنا إليها أحدٌ في العالَم.

ثانياً، مَن يتولّى مُعايَنة مسارات الأداء العِلميّ الرّاهن في دولنا العربيّة، وما يرسمه المعنيّون حوله من خِطط آيلة لتحقيق النقلة العلميّة العربيّة المنشودة، وضرورة تفعيل العمل العِلميّ العربيّ المُشترَك، بهدف بلْورة استراتيجيّة علميّة عربيّة واحدة، تعمل بدَورها على مُعالَجة التأخّر العِلميّ العربيّ وسدّ فجوته هائلة العُمق؟… والمسألة هنا مسألة تعاطٍ عِلميّ مباشر، وتطويرٍ لنتائج هذا التعاطي، ودعمٍ مفتوح لمُجرياته على الأرض، و ذلك كلّه مرتبط بالسياسة وقراراتها الحاسِمة والمُلزمة في هذا الشأن. فالفارق الفكريّ والعِلميّ الكبير الذي نجده بين مجتمعٍ وآخر، ليس، كما يقول العالِم جورج سارتون، بسبب العرق والجغرافيا، ولكن بسبب أولئك الذين يفهمون المَنهج العِلميّ التجريبيّ ويطبّقونه من جهة، وبين أولئك الذين لا يفهمونه ولا يطبّقونه من جهة أخرى.

ثالثاً، مَن يرصد الواقع العِلميّ العربيّ رصداً دقيقاً، وخصوصاً لجهة مواءمته للتوجّهات العلميّة العالميّة في الدول المتطوّرة، ومن منطلق إسهامه في دعم مرتكزات التنمية العربيّة وتفعيلها في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، والتكنولوجيا الحيويّة (المسمّاة جوهر العِلم البشريّ المستقبليّ) وسائر علاقات الأداء العِلميّ العامّ بالتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وبلْورة التسهيلات والأدوات الآيلة لتسخير الابتكار العِلميّ في خدمة المجتمعات العربيّة؟

رابعاً، ماذا عن الجهة الرسميّة العربيّة (أو أيّ جهة أخرى، تنتدب نفسها من القطاع الخاصّ العربيّ المتنوّر، الذي يعيش تحدّيات الثورة الرقميّة من مَوقع ارتباطها بمَصالحه الاقتصاديّة المباشرة أو الرمزيّة.. لا فرق) التي ستأخذ على عاتقها، وجديّاً هذه المرّة، مسألة مُتابعة رموز الطّاقات العلميّة العربيّة المُهاجِرة، ومن بعد ذلك جمْعها بنظيراتها المحليّة العربيّة، والعمل، استطراداً، على تأسيس مركز بحث عِلميّ عربيّ واحد، تكون مُهمّته الإسهام بثورة علميّة عربيّة كبرى، يكون لها حضورها الفعّال في تحوّلات المشهد العِلميّ الدوليّ المتطوّر، والذي بات يسِم عصرنا هذا بأنّه عصر العلوم والتقنيّة بامتياز؟

خامساً، كيف يكون بسْط مَناهج البحث العِلميّ وشرحها وعلاقتها بالتطوّر السياسيّ والفكريّ والمَعرفيّ، وخصوصاً على صعيد العلوم الإنسانيّة والاستثمار في مجالاتها التي لا تعرف الركود والجمود، والمتعلّقة أساساً في فَهم الذات والآخر.. علاوة على فَهم التحوّلات الاستراتيجيّة الجارية في العالَم الآن وعلاقتها بمصائر بلداننا؟

سادساً، انطلاقاً من أنّ أيّ مَنهج بحثٍ عِلميّ جدّي، هو كما يُقال، شأنٌ مُحايد في جميع حقول المَعرفة، فإنّ الأمر لا ينبغي للسياسة العربيّة العليا هنا أن تتدخّل فيه، أي في آليّات منهج البحث العِلميّ والنتائج المتوخّاة منه، حتّى ولو أدّى ذلك – في بعض المُندرجات – إلى النَّظر النقديّ الصّارِم لهذه الدولة العربيّة، أو تلك، ووقوفها، مثلاً، عائقاً أمام أيّ عمليّة إصلاح لبِناها وهَياكلها العِلميّة والأكاديميّة.. وكذلك لكلّ ما ينهض بعمليّة التقدّم العِلميّ العربيّ الذي هو نتيجة طبيعيّة لتحقّق عمليّة التنمية المُستدامَة.. فهل سنجد سياسات عربيّة جديدة تضطّلع بهكذا أمور محوريّة واستراتيجيّة حيويّة؟

في المحصّلة، يجمل بنا القول إنّ الثقافة العلميّة هي قاعدة الانطلاق الجذريّة التي يحتاج إليها العرب لبناء نهضتهم الحضاريّة الجديدة أو المُستأنَفة، كون هذه الثقافة هي التي ميّزت وتميّز المُجتمعات المتقدّمة عن غيرها، اقتصاديّاً، اجتماعيّاً، صناعيّاً وتنمويّاً؛ فالتقنية، كما يُقال، ذات طبيعة اقتحاميّة، أي أنّ لديها القدرة على اجتياح المجتمعات كافّة دونما استئذان، نظراً لما توفّره من سِلعٍ وخدماتٍ وابتكاراتٍ واكتشافاتٍ تطبع العصر بطابعها الاستثنائيّ والمفتوح على المزيد من المفاجآت المُدهشة.

كما أنّ الثقافة العِلميّة، أو بالأحرى الحركة العِلميّة – التقنيّة، تحدّ من التفكير الشطحيّ لذاته، وخصوصاً في أثناء عمليّة التأهّل للانخراط في آليّات مجتمع المَعرفة وتشكّله.

المصدر: مؤسّسة الفكر العربي

Optimized by Optimole