الإنسان العربيّ الجديد: المُبادَرة

الإنسان العربيّ الجديد: المُبادَرة
Spread the love

محمود برّي _ كاتب من لبنان/

منذ شرائع حمورابي وألواح موسى فأبجديّة فينيقيا وصولاً إلى نزول الوحي المطهّر في الغار وحتّى يومنا الرّاهن، ما انفكّ الإنسان يسعى ويتقدّم ويتطوّر، جاهداً في مُواجَهة الحاجات والتحدّيات، يسعى إلى الترقّي ولا يستطيع فكاكاً من جاذبيّة التوق إلى الأفضل، إذ التطوّر من سِمات الحياة.

في علاقاته بأقرانه داخل المجتمع وبالسلطات المسؤولة، تُلزمه طقوس وتقاليد وعادات وقوانين ودساتير، استُمِدّت في صِيَغها الحديثة من التراث الجماعي ومن الشرائع السماويّة ومن المَعارف والتجارب الإنسانيّة، وهي أبداً في تطوّرٍ وتحديثٍ لتُلبّي المستجدّات وتُجاري الحاجات وشؤون العَيش. ولطالما عمل الإنسان على تحسين ذاته وملكاته ومهاراته ونظريّاته وتطويرها للتماشي مع زمنه واللّحاق بحركة العصر. وهذا لم يكُن يختصّ بإنسانٍ بذاته أو بقومٍ دون سواهم، بل هي سمة الحياة عموماً، وبالتالي سِمة الإنسان العربي الجالس على ماضٍ عريق وغنيّ بالأمجاد والإنجازات. والغريب الذي يستفزّ التساؤل، أنّ عربيّ هذا العصر، وخِلافاً لمنطق الأمور، يقعد مُتكاسلاً عن السعي للّحاق بموكب الترقّي والتقانة، فيتأخَّر عن مُجاراة إنجازات الآخرين ويقبع في مربّعه الضيّق، يُراقِب عجلة التقدّم تسبقه وتتجاوزه بأشواط، فلا يجد حيلة سوى انتقاد الآخر واتّهام الأقدار أو تجريم ما يُسمِّيه بالاستعمار أو الإمبرياليّة…، وفي أحسن الأحوال يُقبل (حين يتمكّن) على شراء مُنجزات الآخرين ممّا يستنكف عن ابتكاره أو تعلّم صنعه وتطويره، وهو مقدور عليه لو توافر العَزم. وحتّى في المجتمع والسياسة والعلوم الإنسانيّة وشؤون الحياة اليوميّة، فالمركب الذي تتناثر شعوبنا العربيّة على متنه، يعتمد خرائط طُرق الآخرين، وبخاصّة الغربيّين، مساراً لرحلته، فيجد العربي نفسه ميّالاً إلى التقليد دون الابتكار، والاتكاليّة دون المُبادَرة. وعلى هذا الإيقاع يتخبّط بين تقاليد موروثة تتلاشى فيها الحدود بين الغثّ والثمين، وبين ما يصله من سلوكيّات “أهل التحضّر والتقدّم” من غير العرب، فينتهي حائراً مضطرباً، يعجز عن تقليد “كرج الحجل” الذي يتنقّل برشاقته الموصوفة، وينسى المشي قفزاً مثل عصفور الدوري، فتراه مُترنّحاً بخطوات الغُراب المُتعثّرة، وهو، أو بالأحرى أجداده الفُطناء، (وهذه من الوقائع الواضحة التي يستحيل تجاوزها)، كانوا أساتذة البشر وروّاد العلوم والتقدّم والحضارة، علّموا أجيال الغرب الأوروبي مبادئ العلوم ومَباحث الرياضيّات والموسيقى والطبّ والطبيعة والفلسفة والتاريخ والفلك ذات أمس غير بعيد، فكانوا الآباء الحقيقيّين لتلك الحضارة التي ملأت القارّة والغرب وأشرقَت على العالَم، وكان لهم شرف إخراج الإنسان من “عصور الظلمات” الذي كانت الأُمم ترتع فيها، وأتاحوا لها من المَعارِف ما شكّل الأُسس الحقيقيّة الوثيقة للحضارة التي يرفلون فيها اليَوم. وفي صفحات التاريخ ممّا كشفه مُستشرقون ومؤرّخون، استعاداتٌ مُحايدة في نصوص مُثبتة تُوصِّف نهضة علميّة وتعليميّة رائدة بناها العرب وحملوها معهم إلى الأندلس، آخر إمارات الخلافة الإسلاميّة، فشيّدوا المَدارس والمَعاهد والجامعات، وجعلوها فريدة متقدّمة وغير مسبوقة، وعمل فيها خير الأساتذة من العلماء والحكماء وأصحاب المَعارف والابتكارات من عرب ذلك العصر، فعلّموا الغرب ما لم يكُن يعلم وأسهموا بشكلٍ مباشر في نقل الإنجازات الفكريّة التي برعوا في تحقيقها. وفي العديد من المتاحف الغربيّة والعربيّة اليوم نماذج كثيرة من تلك الرسائل التي كان ملوك الفرنج وأمراؤهم وكِبار نبلائهم يرفعونها إلى القائمين على شؤون المعاهد العربيّة الأندلسيّة في تلك الآونة، فيبذلون من ثرواتهم ومن ماء وجوههم من أجل أن يتمّ قبول أبنائهم طلّاب عِلم فيها. وثمّة الكثير من الإشارات التأريخيّة إلى تلك المؤسّسات التعليميّة الأندلسيّة والاعتراف بدَورها المركزيّ في انتشال الغرب من ظُلُمات الجهل والأساطير والمُشاحنات إلى رحابة الإنجاز والاختراع والرفاه.

أمام هذا الأمس العربيّ المُشرِق، لا يملك الباحث إلّا أن يتساءل متعجّباً عمّا جرى ليهبط الإنسان العربي من ذلك الأمس المجيد إلى هذا الحاضر البائس والمُتناقض مع إرثه الحضاري الغني؟

لربّما كان السؤال الأجدى أوسع وأشمل من أن يُغيَّب خلف الأسباب التي هبطت بالعربي من تلك العلياء إلى مَصافّه الرّاهن، مُستهلِكاً غير مُنتِج، مُقلِّداً غير مُبتكِر، وتابِعاً غير متبوع…، وهي ليست أسراراً ولم تعُد كذلك على كلّ حال. الأرجح أنّ السؤال الحيويّ ينبغي أن يطمح إلى رسم خريطة التحرّر والخروج من جاذبيّة القاع التي هي واقعنا اليوم، هذا التحرّر الذي يفتح الأبواب مُشرَّعة أمام إنسانٍ عربيّ جديد يقف على ساقَين ثابتتَين أمام شمس اليوم التالي ليصنع قدره بإمكاناته الذاتيّة بدلاً عن الاكتفاء بما يتركه له الآخرون.

لا جدوى من المُكابَرة والإنكار. فنحن اليوم، وعلى الرّغم من كلّ ما يبدو علينا، نعيش أزمة وجوديّة حيث يُثقل علينا موقعنا في الصفوف الخلفيّة، ونحن مَن نحن. يُؤلمنا أنّنا نتأثّر بالعالَم كلّه وقلّما نُؤثّر فيه، نأخذ ونستهلك وقليلاً ما نُنتج ونُعطي. وننهض حين ننهض، فننشط وندور ونتحرّك، إنّما ونحن ثابتون في المكان… مثل دواليب الهواء.. وفي محاولة يائسة للانفلات من قَيد الإحباط نرتكب التعويض الفارغ في استذكار أمجاد الأجداد والتباهي بما أنجزوه في مَيادين المَعارف، ونستغرق في ذلك من دون اكتفاء كمَن يملأ الخواء بالتفاخر، فلا ذاك يمتلئ ولا هذا يُنتج.

هنا بالضبط هو “كعب أخيل” إنساننا العربي ونقطة ضعفه (مقتله) التي ينبغي التصويب عليها للتخلّص منها. فبدلاً من الانضواء في مسيرة العصر، يُدير العربي ظهره للغد والآتي مُنشغلاً باستعادة الماضي وما سلف. ويبدو كأنْ لا فكاك من هذه الدوّامة التراجعيّة.

ورُبّ مَن يسأل: لماذا هذه المُراوَحة في المكان ذاته منذ عقود؟ لماذا يكتفي العربي بسكون المُستهلِك وجمود المُنتظِر، مُستسلِماً لانهيال الرمال من بين أصابعه، بينما العالَم حوله يتقدّم ويتطوّر بقفزاتٍ واسعة وإنجازات مُذهِلة؟ لماذا نجح الآخر، الأوروبي مثلاً أو الأميركي أو الروسي أو الصيني، فتعلَّم وانتظَم وصنَع وأنتَج واخترَع وأَبدَع، بينما العربي يشتري منه إنجازاته، إن استطاع، أو يمكث مُتحسِّراً باحثاً عمّن يلقي المسؤوليّة عليه؟

ما الفرق بين العربيّ والآخر؟

القامة هي نفسها مع فروقات شكليّة غير جوهريّة، والحواس والملكات والإمكانات والاستعدادات الأساسيّة هي ذاتها من دون تميّز ولا امتياز. فلماذا أستغني عن الإنجاز بالخنوع، وعن التجريب بشراء ما يصنعه الآخرون من دون محاولة ولو عابرة لتقليده أو مضاهاته بإنتاجٍ وطنيّ؟

الصورة في مَلامحها الأولى مُحبِطَة. وهذه الضحكة التي يجهد واحدنا ليرسمها على وجهه (لرفع المعنويّات)، لا تكفي لإخفاء كلّ ذلك الألم الوجودي والأنين الإنساني الذي يضجّ في الكيان.

هذا البؤس الثقيل الأشبه بالقدر، وهو ليس قدراً، لم يأتِ في الواقع من الكواكب والأفلاك القصِيّة ولا من رجس شياطين الأعماق، بل هو، وبكلّ صراحة ومسؤوليّة: صناعة يدويّة محليّة…”هاند مايد”. العربي اليَوم هو صانع مأساته وهو ضحيّتها، كأنّما كلّ شيء يعمل ضدّه. وهذا التشخيص ليس من قبيل جلد الذّات بل هو تصالُحٌ واعٍ واعترافٌ شجاع لا بدّ منه بعثراتنا وتقصيرنا، ممّا هو ليس خافٍ. خصمنا مُتعدّد: هو هذه الجغرافيا الاجتماعيّة والسياسيّة العدائيّة بالإجمال، هذا الجفاف العاطفي والفيضانات الانفعاليّة والتعقيدات الدولاتيّة، هذا القمع المُتراكم في الشوارع والدوائر والنفوس، هذا الركون الإرادي والاسترخاء المقصود والتقهقر الطَّوعيّ إلى الصفّوف الخلفيّة طلباً للسلامة. يعلَم العربي مسبقاً أنّ القوانين لن تحميه بل ستحكم عليه وليس له، وهذا صحيح لا غرابة فيه. فهي موضوعةٌ في معظمها تحت ظروف اضطراريّة بل وإكراهيّة في الغالِب، حين كانت مجتمعاتنا تنوء تحت سلطان الاحتلالات، فجاءت دساتيرها تلبيةً لحاجات المُستعمِر ولصالِحه، ولم تنشأ وفق إرادة الشعوب المعنيَّة بها والتي لها وحدها الحقّ في صياغة عقدها الاجتماعي. كانت دساتير العرب في الغالب منحةً من أجنبي أو تثبيتاً لطرف اختاره الأجنبي. وفي حالات أسوأ جاءت صياغة فجّة من حزب “أوحد” وصل إلى السلطة بانقلابٍ عسكري فظّ أسماه ثورة شعبيّة، واستولد لها (سِفاحاً) ما ادّعاه قوانين وتشريعات أنتجتها لجانٌ ومَجالسٌ وبرلمانات صوريّة تسبِّح باسم “المُلهم”، وفي أجواء أبعد ما تكون عن التمثيل الحقيقي للأمّة.

هذا الجانب لا نُحبّ عادةً أن نراه ونتجنّب في الغالب ذكره تجنّباً للمَكارِه. لكنّه على تجلّيات سوئه، لا يشكِّل كامل المشهد. فكلّ حال له نقيض من جنسه. والجانب المُقابل لهذا الشحوب، هو ضوءٌ، ولو شحيح، يتراقص في نهاية النفق. يكفي أن تنظر جيّداً لترى بصيصه. وهو لن يأتي إليك من تلقائه بل عليك أن تقوم إليه وتُهيّء له الأسباب والظروف. فحتّى مطر السماء لا يهطل من خارج سببيّة علميّة. والعربي اليَوم، وعلى الرّغم من آلامه وإحباطاته، ما زال يميّز بصيص النور في هذه الظلمة، ويحتضن في جبينه مَطرحاً للحلم مع يقينٍ غائم بأنّ ما سبق أن اجترحه منذ أعوامٍ قليلة مطلع العشريّة الحاليّة، يُمكن له أن يجترحه من جديد: الربيع العربي. نعم. تلك القفزة الهائلة ــ المُباركة وغير المسبوقة إلى الضوء والمستقبل والتي ملأت الكون، ومَن ينساها…؟ يوم تجرّأت عَين الإنسان العربي العارية إلّا من إنسانها، أمام مخرز الجبروت والطغيان، فاجتاحت الشوارع والمَيادين من مَغرب الأمّة إلى مَشرقها، مُتجاوزةً أسوار خوفها من الغول، مُستعينةً بسواعدها العارية، لتقرع أبواب الحريّة بالأيدي المُضرّجة.

الذين يحكمون على ذلك الربيع العربي انطلاقاً من المصير البائس الذي انتهى إليه على أيدي الجحافل السوداء، إنّما يكتبون على الماء. فالربيع كان ربيعاً حقّاً، وواحداً من التجلّيات الفريدة التي أبدعتها أجيالٌ عربيّة نهضت بجسارة إلى غدها الذي اختارته. أمّا استيلاء الإرهاب الأسود على دفّة تلك الحراكات وتحويل بوصلتها عن مساراتها الأساسيّة، فلا ينتقص من حقيقتها ومن ذاتها، ولا يُلغي أهمّيتها الاستثنائيّة.

لقد ضاق العربيّ ذرعاً بالهامِش الذي انتهى بين سُحُبِه. وهو يتحرّك هنا وهناك وفي الأرجاء كلّها: الفقير يراهن على تحسين وضعه بالعِلم. المُكتفي يتطلّع إلى الارتقاء إلى ما بعد. الغنيّ يبذل من ماله ليبني إنتاج الوطني، ولو على صعدٍ ما تزال ضيّقة. وما ينبغي أنّه آتٍ، ولو بعد حين، لن يكون أقلّ من خطوة واسعة يخطوها نحو غده الذي يسعى إليه.

مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole