المُعلِّم الأوّل للّغة العربيّة في روسيا

المُعلِّم الأوّل للّغة العربيّة في روسيا
Spread the love

أحمد فرحات_ مؤسّسة الفكر العربي/

محمّد علي باشا والي مصر الشهير في الزمن العثمانيّ، هو الذي حثّه على السفر إلى روسيا وتعلُّم اللّغة الروسيّة، وفي الوقت نفسه تعليم اللّغة العربيّة لمَن يرغب من أهل روسيا، وفي عقر دارهم. أمّا الشيخ محمّد عيّاد الطنطاويّ (1810 – 1861)، الكاتِب والمؤرِّخ والمُعلِّم المصريّ الكبير، فرحَّب بفكرة “مؤسِّس مصر الحديثة” وتحمَّس لها، وشدّ بالتالي رحاله إلى بلاد القَيصر في العام 1840 ليَعمَل مُدرِّساً للّغة العربيّة في معهد الدراسات الشرقيّة التّابع لوزارة الخارجيّة الروسيّة، مَكان المُستعرِب يوليان سينوفسكي الذي ترك عَمَلَه لأسبابٍ صحيّة؛ ثمّ اختير بعدها الشيخ الطنطاويّ للعمل كمُستشارٍ ثقافيّ للدولة الروسيّة برتبة “عقيد”.

في العام 1847، انتقل الشيخ الطنطاوي إلى جامعة سانت بطرسبورغ ليشغل مَنصب أستاذ كرسيّ اللّغة العربيّة فيها، وظلّ في منصبه هذا إلى أن وافاه الأجل في العام 1861 بداء شللِ الأطراف الذي بدأ بيدَيه، ثمّ تسرّب إلى سائر أنحاء جسده، وهو لم يتخطَّ بعد سنّ الخمسين. وقد تمّ دفنه في مقبرة إسلاميّة في بلدة فولكوفا التتريّة بالقرب من سانت بطرسبورغ، وكُتِب على شاهدة قبره باللّغتَين الروسيّة والعربيّة ما يلي:

“هذا مرقد الشيخ العالِم محمّد عيّاد الطنطاوي الذي كان مُدرِّس اللّغة العربيّة في المدرسة الإمبراطوريّة الكبيرة في بطرسبورغ المحروسة. توفّي في السابع والعشرين من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) سنة 1861 عن خمسين سنة”.

اعتبرته السلطات الروسيّة العليا جزءاً لا يتجزّأ من ذاكرتها الثقافيّة التنويريّة، وقامَ الرسّام الروسيّ “مارتينون” بتصويره على سبيل التشريف، وظهرت صورتُه بين صُورِ كِبار العُلماء الروس في أواخر العام 1853.

تحفة الأذكياء في أخبار بلاد روسيا

قصيرة إذاً هي حياة الشيخ محمّد عيّاد الطنطاوي، لكنّها، في المقابل، كانت حافلةً بالنشاط الثقافي والتأليفي، إلى جانب، طبعاً، مِهنيّته العالية في تدريس لغة الضادّ في الوسط العِلمي والاستشراقي الروسي والأوروبي. تؤكِّد هذا الأمر شهادات العديد من طلّابه الروس والفنلنديّين والألمان، وبعضهم نَبغ في عِلم الاستشراق أو الاستعراب مثل جورج فالن، وف. غريغورييف، ورودولف فرين، ونيقولاي موخين. وقد قال الأخير: “أَعترِف للشيخ محمّد الطنطاوي بهذا الدأب والحرص المُتواصلَين على تعميق الدّرس اللّغوي العربي في عقول تلاميذه، وأنا أحدهم، فلطالما أُشكِلت عليّ مَسائِل نحويّة وصرفيّة، كان الشيخ، وعلى الفور، يتولّى أمر حلّها والتأكُّد من استيعابي الصميمي لها. إنّه أستاذٌ للعربيّة لا نظير له بين أساتذة تعليم هذه اللّغة الغنيّة على حدّ عِلمي، لا في روسيا ولا حتّى في خارجها”.

أمّا المُستعرِب غريغورييف، فاعترَفَ بأنّ: “مُحاضراته كانت غنيّة جدّاً بالمُفردات واللّفظ العربي الجميل والسليم. كما أنّه كان إنساناً رائعاً، عصاميّاً في أخلاقه، مُفيداً وغيوراً على طلّابه”.

على صعيد التأليف، تركَ الشيخ الطنطاوي كُتباً مهمّة عدّة، في طليعتها كِتابه: “تحفة الأذكياء في أخبار بلاد روسيا”، سجَّل فيه وقائع رحلته من مصر إلى روسيا، وكذلك تنقّله في قلب روسيا نفسها، وسَفَره في العام 1843 إلى بلاد البلطيق وفنلندا. كما صوَّر جوانبَ من الحياة الاجتماعيّة الروسيّة، مُركّزاً على العادات والتقاليد واهتمامات الناس المَعيشيّة والاقتصاديّة، مُنوِّهاً بكَرَم الروس وحُسن مَعشرِهم ولين عريكتهم وحبّهم للغريب.

كما أشارَ إلى واقِع تقدُّم الروس في مَضامير العلوم والفنون وإنشاء المَعاهِد والأكاديميّات المُختصّة بالطبّ والرياضيّات والهندسة والمَعادن الطبيعيّة، فضلاً عن التخصُّصات بالتاريخ والجغرافيا والأدب واللّسانيّات الشرقيّة.

وفي كِتابه المذكور، تحدَّث الطنطاوي بإعجاب عن مَدارِس الصمّ والبُكم في روسيا، مُبيِّناً أنّه حَضَرَ شخصيّاً حفلة لهم، رأى فيها عازِف القانون الضرير، وعازِف الكَمان الضرير، فضلاً عن الراقصين الصمّ والبُكم في ذروة أداءٍ فنّي ولا أرْوَع.

ومن مؤلّفات الشيخ الطنطاوي نذكر أيضاً كِتابه: “أحسن النُّخب في مَعرِفة لِسان العرب”، وقد وضعه الشيخ باللّغة الفرنسيّة التي أَتقنَها في الصميم، ما مكَّنه من أن يصير معروفاً، ليس في فرنسا وحدها، وإنّما في معظم دُول القارّة الأوروبيّة.

وللشيخ الطنطاوي أيضاً قاموس عربي – فرنسي باللّهجة المصريّة، طُبع في مدينة قازان الروسيّة ذات الأغلبيّة الإسلاميّة سنة 1849. وقازان مدينة معروفة بانفتاحها الثقافي الكوزموبوليتي منذ قرون عديدة، ويُسمّونها اليوم بـ”العاصمة الثالثة” لروسيا الاتّحاديّة.

كما نقلَ الشيخ إلى العربيّة عن الروسيّة مُباشَرةً كِتاب “تاريخ روسيا” للمؤرِّخ الروسي أوسترالوف. والروسيّة لغة تَضلَّع منها الطنطاوي، حتّى نافَسَ أهلَها فيها فخوَّلته أن يَندمِج عميقاً بهم وبنُخبهم الثقافيّة والأكاديميّة.

ومن المُفيد الإشارة بعد إلى اهتمام الشيخ الطنطاوي بعالَم المخطوطات الشرقيّة، والتحقيق في العديد منها، بخاصّة تلك الموجودة في مَكتبة جامعة بطرسبورغ، والبالغ عددها 300 مخطوطة. وبعض هذه المخطوطات عبارة عن كِتابات بقلَم شيخنا نفسه. والبعض الآخر مخطوطات كان قد اقتناها في مرحلة عمله مُدرِّساً في الأزهر، وتَدور موضوعاتُها حول اللّغة والتاريخ والإسلام والصوفيّة والفلسفة والطبّ والدّين والتراث… إلخ.

جدير بالذكر أنّ شيخنا الطنطاوي المولود في قرية “نجريد” قرب طنطا سنة 1810، كان قد التحق تلميذاً بالأزهر، وهو في سنّ الثالثة عشرة، مُظهِراً نجابةً عالية، تنبَّه لها أشياخُه، وعملوا على إذكائها فيه، ومنهم الشيخ حسن العطّار الذي اهتمّ بتلميذه في الفترة ما بين 1830 – 1835 وجَعَلَه، مثله، يَنفتحُ على العلوم والمَعارِف الأوروبيّة، وخصوصاً الفرنسيّة منها، تلك التي جاء بها عُلماء الحملة النابوليونيّة على مصر، وتضمّنت مؤلّفات عِلميّة مُتقدِّمة بمَقاييس ذلك العصر.

كما تأثَّر الشيخ الطنطاوي بأستاذٍ أزهريّ آخر، هو الشيخ إبراهيم الدسوقي، علّامة اللّغة العربيّة المعروف، فزرع فيه الأخير حبّ العربيّة وطرائق تعلّمها وتَعليمها. وربّما لأجل ذلك ركَّز شيخُنا، وهو لمّا يزل طالِباً في الأزهر، على دراسة عِلم النحو واللّغة والأدب، أكثر من تركيزه على دراسة الفقه وأصول الشريعة. ولدى تخرّجه من الأزهر، واشتغاله بالتدريس فيه، شَرع الطنطاوي يُلقي مُحاضراتٍ في علوم اللّغة والتاريخ والشعر والأدب، مُرسِّخاً حبّ الإبداع العربي، شِعراً ونَثراً في ذاكرة طلّابه، ومن بَينهم الشيخ الأديب يوسف الأسير (1815 – 1889) الذي عاد من الأزهر إلى لبنان عالِماً كبيراً في اللّغة والأدب، إلى جانب تمرُّسه بعلوم الشريعة والفقه. وعمل مُدّعياً عامّاً في جبل لبنان قبل أن ينتقل للعمل مُدرِّساً للّغة العربيّة في دار المُعلّمين في اسطنبول.

الطنطاوي وإغناطيوس كراتشكوفسكي

يُوصَف المُستشرِق الروسي الكبير إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883 – 1951)، بأنّه كبير المُعجَبين بالشيخ محمّد عيّاد الطنطاوي وبإسهاماته الجليلة في عِلم الاستشراق الروسي، وهو لهذا السبب ألَّف كِتاباً خاصّاً عنه، مؤرِّخاً فيه سيرة حياة هذا الشيخ العربي المصري وإنجازاته العِلميّة والتعليميّة تحت عنوان “حياة الشيخ محمّد عيّاد الطنطاوي”، نَقلته إلى العربيّة عن الروسيّة الكاتِبة الفلسطينيّة كلثوم عودة، وراجَعَ الترجمة وعلَّق عليها كلٌّ من: عبد الحميد حسن ومحمّد عبد الغني حسن، وقدَّم للكِتاب سامِح كريِّم.

نَعرف من الكِتاب أنّ رحلة الشيخ الطنطاوي من القاهرة إلى بطرسبورغ دامت ثلاثة أشهر ونصف الشهر. وكانت قد بدأت في العام 1840، ورافقَه فيها تلميذه “موخين” الذي كان بدَوره يتولّى تعليم أستاذه اللّغة الروسيّة، قبل هذه الرحلة وبعدها وخلالها طبعاً. وقد طالَت (أي الرحلة) بداعي الحَجْر الصحّي على المرافىء، وقيام الشيخ بجولاتٍ استطلاعيّة في المُدن الآسيويّة التي كانت على الطريق.

وفي المُناسبة كان “موخين” في سنّ الطهطاوي. وقد تخرَّج في كليّة التاريخ والآداب الشرقيّة في جامعة بطرسبورغ عام 1832، وكان سبّاقاً على زميلَيه في الاستعراب الروسي: غريغوروف وسافيليف. ولطالما أشاد الطنطاوي بصديقه “موخين”، وخصوصاً لناحية مَعرِفته باللّغات قائلاً، مثلاً، في مخطوطه “وصْف روسيا” – 1850: “وهذا الترجمان كان صاحبي في مصر خلال سنوات عدّة، وقرأ عليّ شيئاً من المُعلّقات وأخبار شعرائها، وله دراية بكثيرٍ من اللّغات كالفرنسيّة والتركيّة والألمانيّة”.

الغُربة وصحبة الأهل

لم يكُن الشيخ وحيداً في غربته الروسيّة، وإنّما كانت تَصحبه زوجته المصريّة التي توفّيت قبله، وتَرَكَت له ولدهما الوحيد أحمد، الذي إليه آلَ مَعاش والده الذي قرّرته بسخاء جامعة بطرسبورغ. وقد عاش هذا الابن بعد فقدان والدَيه في روسيا، وتزوّج منها، وأَنجب بنتاً اعتبرتها الحكومة الروسيّة من الأشراف في المجتمع، تقديراً لعِلم جدّها الشيخ محمّد عيّاد الطنطاوي وفَضْله.

هكذا، شكَّل وجود الطنطاوي في روسيا حَدَثاً كبيراً، ليس على مستوى تفعيله دوائر الاستعراب الروسي والإسهام في رفْدها بعَناصِر شبابيّة جديدة فقط، وإنّما في إحداث انقلاب على مستوى حياته الشخصيّة والعائليّة ومُستقبَل ذريّته أيضاً.

جدير بالذكر أنّ الإعلام الروسي كان اهتمّ بالشيخ القاهري، ورافَق مشروعه، وأثنى على جهوده فيه، وتحوَّلت جامعة مدينة بطرسبورغ نفسها إلى خليّة إعلاميّة مُتأهّبة لرصْد أحوال الشيخ الكبير وكلّ ما يَطرأ عليها. وقد تجلّى ذلك أكثر ما تجلّى عندما دَهَمَه مرض الشلل الرعاشي في العام 1856، وأقعده عن العمل بشكلٍ تامّ.. ومع مضيّ السنوات القليلة الباقية من حياته، ظلَّت الجامعة ترفض أيّ بديل له حتّى وفاته في العام 1861.

في حياته، ومن أعلى الهَرَم السياسي الروسي، كُرِّم الشيخ محمّد عيّاد الطنطاوي. قلّده القيصر الروسي بنفسه أرْفع الأوسمة، مثل وسام ستانيسلان ووسام حنّة.

كما أهداه خاتماً مُرصَّعاً بالألماس مُخاطِباً إيّاه: “إنّكَ تستحقّ تشريف إمبراطوريّتنا لكَ أيّها الشيخ الجليل”.

Optimized by Optimole