“تيِرَان وصَنَافِير” فِيّ ذِكرَىّ نَصر اُكتُوبَر

Spread the love

the_crossing_of_suez

بقلم: د. محمـد عبدالـرحمـن عريـف * — في الذكرى الثالثة والأربعين لنصر اكتوبر نتذكر احداث سبقت النصر بست سنوات، منها غلق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائلية، إجلاء قوات حفظ السلام الدولية في سيناء، حشد القوات المسلحة المصرية في سيناء. كانت هذه هى الأسباب الثلاثة الرئيسية لاندلاع حرب 67. آلاف المصريين كانوا يجلسون فى صمت مطلق يقربون آذانهم من سماعة المذياع فى البيوت الكبيرة وعلى المقاهى، صدقوا وقت النكسة أنهم منتصرين، كان الجيش في وادٍ، بيانات اذاعة صوت العرب تهلل بالنصر وتحطم طائرات العدو. لذلك كانت الصدمة في النكسة مروعة.
أتى السادات إلى سُدة الحكم، وجاء بسعد الدين الشاذلي، وأسند اليه مهمة رئاسة آركان القوات المسلحة لأسباب ليس المجال لذكرها، انتهت الحرب وبدأ التفاوض، وعادت سيناء غير كاملة تنقصها ايلات ”ام الرشراش” المصرية.. عادت بدون سيادة وبتحديد لمناطق السلاح.. وبقيت ذكرى نصر اكتوبر من كل عام، وهو اليوم الذي استردت فيه مصر أرض سيناء بعد انسحابالمحتل الإسرائيلي منها، لقد حررت مصر أرضها التى احتلت عام 1967 بكل وسائل النضال.. من الكفاح المسلح بحرب الاستنزاف ثم بحرب اكتوبر المجيدة عام 1973، وكذلك بالعمل السياسى والدبلوماسى بدءا من المفاوضات الشاقة للفصل بين القوات عام 1974 وعام 1975 .
كلما نتذكر نصر اكتوبر، نجد سعادتنا مجروحة، ليس فقط بسبب القيود المفروضة على السيادة المصرية في سيناء، بموجب اتفاقية كامب ديفيد.. فبينما نحتفل ونفخر برفضنا التفريط في طابا التي لا تتعدى مساحتها كيلو مترًا مربعًا واحدًا، تحل الذكرىّ بـ(تيران وصنافير)، وأهمية الجزرتين استراتيجيًا ما ذُكر فى معاهدة السلام بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي حسب كتاب “كامب ديفيد” لرباب يحيي عبد المحسن حيث نصت المادة الخامسة على أن تتمتع السفن الإسرائيلية والشحنات المتجهة من اسرائيل وإليها بحق المرور فى قناة السويس ومدخلها فى كل من خليج السويس والبحر الأبيض المتوسط وفقا لأحكام اتفاقية القسطنطينية 1888 المنطبقة على جميع الدول، كما يعامل رعايا اسرائيل وسفنها وشحناتها وكذلك الأشخاص والسفن والشحنات المتجهة من اسرائيل واليها معاملة لا تتسم بالتميز فى كافة الشئون المتعلقة بإستخدام القناة، ويعتبر الطرفان أن مضيق تيران وخليج العقبة من الممرات المائية الدولية المفتوحة لكافة الدول دون عائق أو إيقاف الحرية الملاحية أو العبور الجوى كما يحترم الطرفان حق كل منهما فى الملاحة والعبور الجوى من وإلى أراضيه عبر مضيق تيران وخليج العقبة.
“صنافير وتيران”، لا شك في أن الجزيرتين مصريتان ضمن اتفاقية لندن منذ عام 1840، وتبعتها اتفاقية 1906 التي انتزعت من مصر ملكية الساحل الشرقي لخليج العقبة بما يشمله من موانئ ليستمر الإقرار بملكية مصر للجزيرتين دون أدنى تشكيك. تقبع جزيرتا صنافير وتيران على سُلم أهم الجزر العربية ذات القيمة، وظل إضعاف قيمتهما الاستراتيجية هدفًا دائمًا لخصوم الأمة، فهما يتحكمان في مدخل ومخرج خليج العقبة الذي استغلت إسرائيل هدنة 1948 لامتلاك موطأ قدم على رأسه بأن احتلت قرية أم الرشراش المصرية سنة 1949. لكن الوصول إلى خليج العقبة ليس كالخروج منه، فثمة ممر ضيق لا يزيد اتساعه على 1,5 كم هو ما يُمكن العبور منه إلى رحاب البحر الأحمر الذي يُمثل البحر الوحيد العربي الذي لا تُشارك دولة أخرى العرب في مشاطئته.
جرى وضع تيران وصنافير كبقية أخواتهما من قرى وتلال مصر في أقصى شرق سيناء ضمن المنطقة (ج) المنزوعة السلاح والتي تخضع لسيطرة القبعات الزُرق العسكرية لمراقبة الالتزام بمعاهدات السلام. لكن ذلك لم يمنع استمرار الإدارة المدنية للدولة المصرية لهما من شرطة إلى إدارة محلية وامتدات لسُلطة الوزارات المختلفة. لم يسمع مصري ولم يرَ لا عقد إيجار ولا عقد وديعة للجزيرتين اللتين سُقتا من دماء أبناء مصر ككل سيناء، ولا يعرف قانوني في العالم العربي عن وضع الجزيرتين تحت الإدارة المصرية كوديعة من أي دولة أخرى، وإنما الثابت أن الشقيقة المملكة العربية حملت بعض الادعاءات لبعض الوقت، ثم ما لبثت أن سلمت بملكية الجزيرتين للدولة المصرية لتُنهي كل شقاق حاولت إسرائيل استغلاله في نهاية الأربعينات في حربها الدبلوماسية والقانونية لتدويل مياه مضيق تيران. ولا يمكن لأحد أن يستخلص من التنازل عن الادعاءات عقدًا للإيجار أو قبولاً من الدولة المصرية بأنها تُدير لصالح الغير. فنحن نعلم ويعلم الجميع عن إدارة مصر لقطاع غزة قبل نكسة 1967 ومستنداتها معلومة معروفة ومتداولة، ولا يوجد مثل ذلك في حالة جزيرتي صنافير وتيران.
الترويج لوجود عقد إيجار أو حماية هو ترويج إسرائيلي في الأساس يستهدف إقرار اختلاف ملكية الجزيرتين عن سيناء للوصول لتأكيد دولية المضيق، ومن ثمّ نزع صفة المياه الداخلية عنه، وبالنتيجة مشاركة إسرائيل في إدارته باعتباره ممرًا دولياً، ينتقل من النظام القانوني للمياه الداخلية التي النظام القانوني للمياه الدولية. ملكية مصر مُستقرة ومستمرة للجزيرتين منذ قرون طويلة ولم تتغير في أي فترة من فترات التاريخ. وإذا كانت المعاهدات الدولية لتعيين الحدود التي جرت في نهاية المرحلة العثمانية هي الأساس القانوني الوحيد لفض أي نزاع حدودي، فإن الاتفاقيتين الدوليتين الوحيدتين اللتين تنظمان حدود مصر البحرية في هذه المنطقة هي اتفاقية لندن 1840 والتي جعلت حدود الدولة المصرية أكثر اتساعًا مما هو قائم الآن وكانت تشمل دون مواربة ملكية الجزيرتين. وتبعتها اتفاقية 1906 التي انتزعت من مصر ملكية الساحل الشرقي لخليج العقبة بما يشمله من مواني ليستمر الإقرار بملكية مصر للجزيرتين دون أدنى تشكيك.ولا تُمثل الادعاءات السعودية بالملكية التي جاءت بعد نشأت المملكة في 1932 تغييرًا لواقع قانوني مُستقر، كما لم يُمثل تراجعها عن هذه الادعاءات أي إقرار بوجود أي حقوق لها على أي من الجزيرتين. ولا توجد أي معاهدة دولية أو إقليمية أو ثنائية تُخالف هذا الأساس القانوني حتى الآن.القاعدة أنه لا علاقة بين مدى بعد أو قرب الجزيرة من اليابسة بالملكية، والأثر الوحيد لذلك هو في تحديد المياه الدولية والداخلية. فإذا زادت المسافة على 12 ميلًا بحريًا -وهو المدى المُحدد بالقانون الدولي للبحار- فإننا أمام احتمالات أن تكون المياه الفاصلة بين الجزيرة واليابسة الأم مياها دولية، وإذا تدنت عن ذلك فنحن أمام مياه داخلية. والفارق بين النوعين يتمثل في مدى الحقوق المتاحة للدولة والتي يُمكن أن تُمارسها على تلك المياه. ففي كل الأحوال تضمن الدولة المرور الآمن للسفن طالما كان ضروريًا حتى في حالة المياه الداخلية، لكنه في هذه الحالة الأخيرة، يُشترط أن يكون مرورًا متواصلًا دون توقف وآمنًا دون مخاطر وبريئًا دون تربص. وهو ما يسمح للدولة بأن تتدخل لحماية سيادتها بإجراءات قد تصل لمنع الملاحة أو تقيدها أو بإجراء تفتيش. وسيؤدي أي تسليم بتنازل السُلطة عن الجزيرتين للملكية العربية إلى سقوط قيمتهما الاستراتيجية، إذ ستتحول مياه المضيق إلى مياه دولية تتوقف مِلكية كل دولة في منتصف المسافة بين يابسة تيران ويابسة سيناء والتي تبلغ 8 كم. وهو ما يعني أن المياه الإقليمية لمصر في هذه المنطقة ستتقلص إلى 4 كم. ولن يكون بإمكان العرب اعتبار مياه المضيق مياها داخلية، بل سيُصبح مضيقًا دولية تتشارك فيه كافة الدولة المطلة على خليج العقبة. وكما خسر العرب معركة مياه العقبة سيخسرون معركة مياه تيران.
لقد أصبح من طقوسنا السنوية، في اكتوبر من كل عام، أن ننبري جميعًا للحديث عن سيناء وتاريخها وتحريرها وبطولاتها، حتى إذا انقضت المناسبة، قمنا بإعادة الملف بكل تعقيداته ومشاكله المزمنة إلى الأدراج، ليظل هناك عامًا كاملًا، مهملًا منسيًا، إلى أن نتذكره مرة أخرى في العيد التالي، ما لم يقطع الصمت، كارثة جديدة..
الذِينَ يُفِرطُوُنَ فِيّ تِيرَان وصَنَافِيّر لَا يَحِق لَهُم الاِحِتفَال بِنَصرِ اُكتُوبَر المَجِيّدِ.

* د. محمـد عبدالـرحمـن عريـف عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين. كاتب وباحــث في تاريخ العرب الحديث والمعاصر وتاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.

المقالة تعبّر عن رأي الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع