قراءة في واقع حزب العمل الإسرائيلي

قراءة في واقع حزب العمل الإسرائيلي
Spread the love

شؤون آسيوية – يقلم د.هيثم مزاحم/

على الرغم من تراجع حزب العمل الإسرائيلي اللافت و”المذل” خلال العقدين الماضيين أمام تقدّم أحزاب اليمين القومي واليمين الديني المتشدد، لا تزال دراسة هذا الحزب الصهيوني تكتسب أهمية نظراً إلى كونه الحزب المؤسّس للكيان الصهيوني (دولة إسرائيل) في فلسطين، والحزب الحاكم فيه خلال ثلاثة عقود متتالية (1948-1977)، ومن ثمّ في مرحلتي (1992-1996) و(1999-2000)؛ فضلاً عن المراحل التي شارك فيها بائتلاف حكومي مع حزب الليكود، والتي كان آخرها دخوله حكومة “الوحدة الوطنية” برئاسة آرييل شارون في شباط / فبراير 2001. كما تحظى دراسة هذا الحزب كجزء أساسي من اليسار الإسرائيلي المتراجع بأهميّة في هذه المرحلة المفصلية التي تمرّ بها القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي، من حيث أن هذا الحزب واليسار الإسرائيلي عموماً كان من دعاة التسوية السلمية مع الفلسطينيين والعرب، باعتبار أن ذلك يخدم مصلحة إسرائيل وحفظ أمنها وديمقراطيتها وصورتها العالمية.
لذلك يشكل كتاب “حزب العمل الإسرائيلي (1964-2000) للدكتور هيثم مزاحم مدخلاً تاريخياً وشاملاً عن نشأة هذا الحزب وتاريخه وسياساته وتطور أفكاره، برغم انكفاء منذ عقدين ونيّف عن التأثير في الحياة السياسية الإسرائيلية بعد عقود من الفعالية والتألّق.
تأسيس حزب العمل
حزب العمل الإسرائيلي (مفليجت هعفودا هيسرائيليت) هو حصيلة اندماج الأحزاب العمّالية الثلاثة؛ الماباي واحدوت هعفودا ورافي، في حزب واحد، عام 1964 وذلك بعد مداولات استغرقت عدة أشهر. وقد شكّل هذا الحزب إطارًا جديدًا لعودة حزب الماباي القديم قبل انشقاق حزبي أحدوت هعفودا (1944) ورافي (1965).
أيديولوجيّا حزب العمل
لمّا كان حزب العمل الإسرائيلي استمرارًا مباشرًا لحزب ماباي الصهيوني العمالي التاريخي، فقد ظلّ يتبنّى إيديولوجيّة الماباي نفسها، أي “الجمع بين الصهيونيّة والاشتراكيّة الديمقراطيّة في رؤية براغماتيّة، من أجل تحقيق كلّ الأهداف الاجتماعيّة والقوميّة للشعب اليهودي في إسرائيل”. ولا يزال حزب العمل إلى اليوم يصف نفسه بأنه حزب اشتراكي ديمقراطي ينتمي إلى الاشتراكيّة الدولية، ويقول إن رؤيته الأيديولوجيّة ترتكز على “قيَم الحركة العمّالية اليهوديّة التي هي نتاج التجربة الاجتماعيّة للشعب اليهودي وتراثه الثقافيّ”.
أما أبرز أهداف الحزب التي تضمّنها ميثاقه التأسيسي، فهي: “تجميع الشعب اليهودي في بلاده وإقامة مجتمع عمّاليّ حرّ في إسرائيل… والسعي من أجل تحقيق الأهداف القوميّة والاجتماعيّة والطلائعيّة، بموجب روح تراث الشعب اليهوديّ ونبوءة الصهيونيّة الاشتراكيّة وقِيم حركة العمل، والحرص (الدؤوب) على أمن إسرائيل، وإبعاد كلّ خطر يتهدّد كيانها وسيادتها وسلامتها ووحدة أراضيها”.
أمّا أهداف الحزب – كما وردت في التقرير السياسيّ الصادر عنه في أيلول / سبتمبر 1997 – فتتمثّل في “تعزيز الشكل الديمقراطي للحكومة، وتحقيق التطوّر الاجتماعي والاقتصادي لجميع المواطنين الإسرائيليّين، وتقوية الاقتصاد الإسرائيليّ على أسس مبادئ السوق الحرّة وإنجاز السلام الحقيقيّ (المترافق) مع الأمن في الشرق الأوسط”.
الانشقاقات داخل حزب العمل
عرف حزب العمل عدداً من الانشقاقات والانسحابات منذ تأسيسه وحتّى الفترة الأخيرة، بفعل الخلافات الفكرية والسياسية، ولا سيّما في شأن التسوية مع العرب ومصير الأراضي المحتلّة العامَ 1967. وقد خرج معظم المنشقّين من الحزب، ومعظمهم من قادة تيّار “الحمائم” فيه، لأنّهم رأوا استحالة التأثير في سياسة الحزب “المتشدّدة” وتغييرها من الداخل، على الرغم من العدد الكبير لـ”الحمائم” في هيئات الحزب القيادية.
حزب العمل بين الحكم والمعارضة
ظلّ حزب الماباي-العمل الحزب الحاكم في إسرائيل، والمهيمن على معظم قطاعاتها الاقتصاديّة والنقابيّة وهيئاتها السياسيّة، من العام 1948 وحتّى العام 1977، عندما فاز حزب الليكود اليميني بالانتخابات ووصل إلى الحكم، فوضع حدّاً لهيمنة حزب العمل المطلقة. وبذلك، انتقل حزب العمل إلى صفوف المعارضة داخل الكنيست، واستمرّ فيها سبع سنوات متتالية، وفشل خلالها في انتخابات العام 1981؛ لكنه تمكّن في انتخابات العام 1984 من العودة إلى الحكم عبر الائتلاف المشترك مع الليكود، حيث كانت رئاسة الحكومة مداورة بين شمعون بيريز وإسحق شامير، وكانت المناصب الوزارية مناصفة بين الحزبَين.
ثمَّ تكرّر الائتلاف الحكوميّ بزعامة شامير في العام 1988، واستمرّ سنتَين، ثم انسحب حزب العمل من الحكومة؛ وتمكّن بالتحالف مع المعارضة من إسقاط الحكومة في الكنيست العام 1990. غير أنَّ الليكود تمكّن من تشكيل الحكومة مجدّداً من دون حزب العمل، الذي عاد إلى صفوف المعارضة. واستطاع إسحق رابين تحقيق الانتصار لحزبه في انتخابات حزيران/يونيو 1992، وعاد حزب العمل إلى السلطة مُبعِداً الليكود إلى المعارضة بعد 15 سنة من الحكم المتواصل.
لقد شكّل اغتيال رابين على يد متطرّف يهودي، في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، فرصة لشمعون بيريز كي يتولّى رئاسة الحكومة للمرّة الثانية والأخيرة في حياته، حتّى نهاية أيار/مايو 1996. وخلافًا لكلّ التوقّعات، فقد خسر بيريز في انتخابات رئاسة الحكومة المباشرة أمام بنيامين نتنياهو، زعيم الليكود. كما هُزم معسكر اليسار بزعامة حزب العمل أمام اليمين القومي والديني بزعامة الليكود، في الانتخابات النيابية التي جرت في اليوم نفسه (29 أيار/مايو 1996). لكن إيهود باراك، الرئيس الجديد لحزب العمل الذي خلَف بيريز، تمكّن من هزيمة نتنياهو في الانتخابات المبكرة التي جرت في أيار/مايو 1999.
بدأ العدّ التنازلي للتراجع “العمّالي” في الكيان الصهيوني بعد انتخابات الكنيست الثامن في العام 1973، حين تراجع عدد مقاعد تجمّع المعراخ في الكنيست إلى 51 مقعداً، بعد أن كان 56 مقعداً العام 1969؛ بينما تقدّم تكتّل الليكود من 28 مقعداً إلى 39 مقعداً. ولعلّ أبرز أسباب هذا التراجع هو تداعيات “حرب الغفران” العام 1973، وحالة الانقسامات السياسية وصراع التكتّلات داخل حزب العمل.
مواقف حزب العمل من القضية الفلسطينية
على الرغم من براغماتية حزب العمل الشهيرة، لم يتراجع الحزب عن المبادئ-الثوابت الصهيونية التي تكرّست في برنامج المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897، وترسّخت مع الحركة الصهيونية في مراحل تطوّرها التاريخي. وتتلخّص هذه المبادئ بـ”الحقّ التاريخي والديني لشعب إسرائيل في استيطان أرض إسرائيل”، وتجميع شتات الشعب اليهودي في بلاده “أرض إسرائيل المتكاملة”، وحقّ كلّ يهودي في العودة إلى “الوطن القومي لليهود”، و”القدس الموحَّدة التي لا تتجزّأ هي في العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل”.
وقد حاول قادة الحزب “العلماني” إضفاء مسحة عقيدية دينية على المبادئ الصهيونية، إذ اعتبر بن غوريون أنَّ “الهجرة إلى إسرائيل واجب على كلّ يهوديّ، واليهودي الذي يرفض المجيء إلى إسرائيل يُعلن بطريقة أخرى تخلّيه عن كونه يهوديّاً”، لأنَّ الصهيونية – في رأيه – “هي الشوق لصهيون، أي لإسرائيل ولإقامة شعب مثالي فيها”.
كما أعلن بن غوريون، بعد احتلال قطاع غزة في عدوان العام 1956، قيام “مملكة إسرائيل الثالثة”. فيما استند موشي دايان لتبرير احتلال الأراضي المحتلّة العام 1967 “إلى وقائع التاريخ والتوراة”. أما إيغال آلون، فقد زعم أنّ “مرتفعات الجولان في سوريا، إذا انطلقنا من التوراة، لا تقلّ إسرائيلية عن حبرون (الخليل) وسيخن (نابلس)”.
ويؤمن حزب العمل، بمختلف اتّجاهاته، بأنّ “أرض إسرائيل التاريخية” تشمل كلّ أراضي فلسطين (بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزّة) وشرق الأردن، وأنّ عاصمتها الأبدية القدس الموحَّدة، وبغضّ النظر عن اعتقاده بضرورة تقديم تنازلات إقليمية للعرب من أجل قيام سلام يضمن حدودًا آمنة لإسرائيل.
مواقف حزب العمل من عملية التسوية
عبّر البرنامج الانتخابي لحزب العمل الصادر في العام 1996، عن بعض التحوّلات في رؤيته لتسوية القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي. فنقطة الانطلاق في المفاوضات مع الفلسطينيين هي اتفاقات أوسلو ومفاوضات الوضع النهائي، والاعتراف بحقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني ورفض السيطرة الإسرائيلية عليه، والدعوة إلى الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بما يلبّي حاجات الأمن والهويّتَين القوميّتين؛ وهو ما يعني القبول بقيام كيان فلسطيني مستقلّ.
أمّا في شأن القدس والمستوطنات واللاجئين والسيادة على الحدود و”المناطق الحيوية لأرض إسرائيل”(غور الأردن وجوش عتسيون وشمال غرب البحر الميّت… إلخ)، فقد أظهر البرنامج تشدّد الحزب في هذه القضايا، وإصراره على ثوابته السابقة.
بالنسبة إلى السلام مع سوريا، تراجع برنامج حزب العمل عن إصراره على السيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، ودعا إلى مفاوضات معها على أساس القرارَين 242 و338، وإلى اتّفاق سلام على أساس حدود وترتيبات أمنية راسخة، وتطبيع كامل للعلاقات بين البلدَين، مع المصادر المائيّة لإسرائيل. لكنَّ البرنامج ربط التسوية الدائمة مع سوريا، باستفتاء عامٍّ عليها، وذلك معناه أنَّ الحزب كان مستعداً للانسحاب الكامل من الجولان شرط عدم ممانعة الرأي العام الإسرائيلي.
ويلاحَظُ انَّ البرنامج تجنّب الإعلان بوضوح عن موقف الحزب من الدولة الفلسطينية، وحجم الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وهضبة الجولان، وربط ذلك باستفتاء عام؛ وذلك مردُّه إلى خشية الحزب من تأثير هذا الإعلان في وضعه الانتخابيّ من جهة، ونظرًا للخلاف القائم بين تيّارَي “الحمائم” و”الصقور” فيه في شأن هذه المسائل من جهة أخرى.
وقد تميّز البرنامج السياسي الصادر عن المؤتمر السادس للحزب في أيار/مايو 1997، بإعلانه عدم ممانعة الحزب قيام “دولة فلسطينية ذات سيادة محدودة”، والتفاوض مع الفلسطينيين في شأن السماح بعودة النازحين (مهجّري العام 1967) إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية، وبتكراره لثوابت الحزب الشهيرة في شأن السيادة الإسرائيلية المطلقة على القدس الموحَّدة، وعلى مناطق الاستيطان الإسرائيلي، وتعزيز المستوطنات القائمة في الجولان، ورفض حقّ العودة للاّجئين الفلسطينيين إلى مناطق السيادة الإسرائيلية، واعتبار أسس التسوية مع سوريا ولبنان “القرارات 242 و338 و425، وأسس مدريد والأرض مقابل السلام”.
واقع حزب العمل الإسرائيلي اليوم
بحسب نتائج الانتخابات الإسرائيلية، التي جرت يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، فقد تحوّل حزب العمل إلى الحزب الأصغر في الكنيست الجديد المنتخب (أربعة مقاعد).
وربما لا يمكننا الإحاطة بكل أسباب هذا التراجع، ولكن أبرزها ما يوصف حتى من محلّلين إسرائيليين بأنه سيطرة هاجس الأمن الاستحواذي على حزب العمل، والذي تعمّق بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000- 2004)، وعقب العدوانات الإسرائيلية المتكرّرة على قطاع غزة بدءاً من عام 2008.
ورغم أن حزب العمل قد قرّر السير في طريق التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، في اتفاقات أوسلو، وبغضّ النظر عن الغايات التي تطلّع إلى تحقيقها أنذاك، لكن الحزب لا يعترض اليوم على خطوات وإجراءات أمنية ضد الفلسطينيين والمناطق الفلسطينية المحتلة بذريعة الدفاع عن سكان إسرائيل، وهي خطوات تزيد من تمدّد الاحتلال والسيطرة على الفلسطينيين في أراضي 1967، وتؤدي إلى اكتساب المستوطنين فائضاً من القوّة والتأثير والمكانة، بما يجعل من شبه المستحيل قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
ويتوقع هذا الحزب من الفلسطينيين، بموازاة ذلك، أن يتخلّوا عن “الإرهاب” أولًا، في وصفه لجميع أعمال المقاومة الفلسطينية لقوات الاحتلال والمستوطنين الإسرائيليين.
لذلك يفضل حزب العمل التحدّث عن “أعمال شاذّة” في ممارسات الجيش الإسرائيلي وتأييد الحروب المدمّرة التي تشنها الحكومات اليمينية الإسرائيلية على قطاع غزة ومناطق سيطرة السلطة الفلسطينية في قطاع غزة.
يشار إلى أن حزب العمل قد أعلن انفصاله عن “اليسار الصهيوني”. ففي مؤتمر الحزب الذي عُقد عشية الانتخابات الإسرائيلية عام 2015، قال رئيس الحزب في ذلك الوقت، يتسحاق هرتسوغ (رئيس الدولة الحالي)، إن الطريق الوحيدة لتغيير بنيامين نتنياهو تكمن في إعادة حزب العمل إلى طريقه الأصلية، وهي ليست طريق اليمين ولا اليسار، بل طريق الوسط. وفي رد على حملة نقدٍ وُجهّت إلى رئيس الحزب السابق، إيهود باراك، بسبب معارضته إجراء تحقيقاتٍ داخليةٍ عن فظائع الجيش الإسرائيلي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة، إثر صدور تقرير لجنة غولدستون الأممية (عام 2009)، هاجم باراك “اليسار الصهيوني” واتهمه بـ”النزعة الطفولية”. وباراك نفسه هو من أطلق توصيف “فيللا في غابة” على إسرائيل، والذي استخدمـه نتنياهو من بعده لإعلان استراتيجيةٍ تقوم على أساس تحصين إسرائيل، من خلال تغليفها بجدار أمني مكثّف لحمايتها من “الحيوانات المفترسة” الساعية إلى التهامها*.

المصدر: موقع النشرة اللبناني

Optimized by Optimole