الحوزة الدينية في قم بين المرجعية وولاية الفقيه

الحوزة الدينية في قم بين المرجعية وولاية الفقيه
Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم –لعبت المرجعية الدينية لدى الشيعة الإثني عشرية دوراً دينياً واجتماعياً وسياسياً متميّزاً منذ بداية الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر المهدي بن الحسن العسكري، فقد أمّنت العلاقة المباشرة بين الفقيه مرجع التقليد وبين أتباعه ومقلّديه إستقلالية للمرجعية عن المؤسسة السياسية الحاكمة سياسياً ومالياً، نتيجة اعتماد مراجع التقليد على أموال الخُمس والزكاة، والتي يدفعها لهم مقلّدوهم ليصرفوها في مواردها الشرعية، ومنها سهم الإمام الغائب الذي يُصرف منه على معيشة الفقهاء وعوائلهم وطلاب العلوم الدينية، فضلاً عن رعاية اليتامى والمحتاجين وأبناء السبيل.

وقد مارست المرجعية الدينية أدوراً مهمة في تاريخ الأمة الإسلامية عبر فتاواها التي أصدرتها في أوقات حساسة في التاريخ الحديث، فكان لها تأثيرها الكبير في مجريات الأحداث، كما حدث مثلاً في فتوى الجهاد ضدّ الاستعمار البريطاني التي صدرت عن مراجع التقليد في العراق عام 1919م، والتي نصّت على قتال الإنكليز وحرمة التعامل معهم، وكذلك فتوى آية الله السيد حسن الشيرازي من سامراء التي حرّم فيها التنباك في إيران عام 1891م، وذلك احتجاجاً على اتّفاقية احتكار التبغ الموقّعة بين الشاه ناصر الدين وبريطانيا، مما اضطر الشاه إلى إلغاء هذه الاتفاقية.

وكانت ثورة الدستور أو المشروطة عام 1905م، والتي تزعمها إثنان من كبار الفقهاء في إيران، هما السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني، والتي دعمها كبار مراجع التقليد، وخاصة الشيخ كاظم الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني والشيخ محمد حسين النائيني، وكذلك فتوى الملاّ الخراساني بالجهاد ضد الغزو الروسي لإيران عام 1909م، مروراً بالفتوى الشهيرة للميرزا محمد تقي الشيرازي في 23 كانون الثاني 1919م، والتي حرّمت المشاركة في استفتاء يهدف إلى قيام إدارة بريطانية في العراق، وثورة العشرين في 30 حزيران 1920م ضد الاحتلال البريطاني للعراق، وصولاً إلى الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م بقيادة الإمام الخميني الذي أقام جمهورية إسلامية بناء على نظرية ولاية الفقيه.

وكان لافتاً موقف المرجع الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني، بعد الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، الذي رفض قيام حكم عسكري أميركي في البلاد وأرغم موقفه قوات الاحتلال الأميركية على إنشاء مجلس حكم انتقالي عراقي، ومن ثم إجراء انتخابات تشريعية ديموقراطية أسفرت عن قيام حكومة عراقية منتخبة.

وعلى الرغم من القاعدة الجماهيرية الواسعة والموقع السياسي والديني، التي تتمتع بهما المرجعية الشيعية، إلاّ أنها بقيت على شكلها التقليدي القائم على الدور المركزي للمرجع الفرد واستمرت في الغالب في تبنّي الأطر التنظيمية التقليدية نفسها في مسائل تحصيل الأموال الشرعية وصرفها، وفي إدارة الحوزة العلمية ومناهجها العلمية، إلى استمرار تعدد مراجع التقليد وبروز انقسامات وخلافات حول المرجع الأعلم وكيفية تعيينه أو اختياره وتقليده من قبل المكّلفين. كل ذلك جعل بعض العلماء والفقهاء يطرحون أفكاراً ونظريات عدة لتطوير المرجعية الدينية وجعلها مؤسسة قائمة بذاتها ومكوّنة من أجهزة ومستشارين وخبراء متخصصين، وذلك على غرار وزارات الأوقاف في الحكومات الإسلامية التي تتبع المذاهب السنّية، ومؤسسة الفاتيكان لدى المسيحيين الكاثوليك.

الجدل حول تطوير المرجعية

شهدت الحوزة العلمية في القرن الماضي دعوات جدية واقتراحات منهجية لتطوير المرجعية الدينية ومأسستها، ولعلّ أبرز المناقشات حول تطوير المرجعية ومأسستها تعود إلى خريف العام 1960م وشتاء العام 1961م، حيث انطلقت نقاشات بين الفقهاء والعلماء في إيران حول اختيار مرجع التقليد ووظائفه، وذلك إثر وفاة المرجع الكبير آية الله البروجردي في آذار/ مارس 1960م، وطرح فكرة خلافته والخشية من تدخل حكومة شاه إيران في اختيار مراجع التقليد وتحديد وظائفه. وكان من أبرز الذين طرحوا هذه الفكرة وكتبوا أبحاثاً حول تطوير مرجعية التقليد وآلية اختيارها ووظائفها وتحويلها إلى مؤسسة، هم آية الله السيد محمود الطالقاني (ت 1979م)، والسيد مرتضى الجزائري، والشيخ مرتضى مطهري (ت1979م)، والشيخ محمد مهدي بهشتي (ت 1980م)، ومهدي بازركان (ت 1995). وقد صدرت هذه الآراء في كتاب يحمل عنوان “دراسة حول المرجعية والمؤسسة الدينيّة”(1)، وقد لاقى الكتاب نجاحاً هائلاً، واعتبر أهم كتاب يصدر في إيران منذ صدور كتاب النائيني المعنوّن “تنبيه الأمة وتنزيه الملّة”(2).

ولاحقاً طرح آية الله محمد باقر الصدر أطروحة أطلق عليها تسمية “المرجعية الصالحة أو الرشيدة”(3)، وطرح آية الله محمد حسين فضل الله(ت 2010م) كذلك اقتراحاً سمّاه “المرجعية المؤسسة”(4)، إضافة إلى أفكار متفرقة طرحها عدد من العلماء والفقهاء تركزت على تطوير المرجعية والحوزة الدينية، أبرزهم الشيخ مرتضى مطهري، والشيخ محمد مهدي شمس الدين(ت 2001م) والشيخ محمد جواد مغنية(ت1980) والشيخ محمد رضا المظفر والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وغيرهم.

وقد ناقش مرتضى الجزائري آلية نشوء مرجعية التقليد لدى الشيعة وأشار إلى أنّ مسألة تقليد الأعلم، أي اتّباع عامة الناس للمجتهد الأعلم من بين المجتهدين الآخرين، هي مسألة حديثة نسبياً في التاريخ الفقهي الشيعي تعود فقط إلى ثلاثة أو أربعة قرون إذ لم تكن مطروحة قبل ذلك. وخلص الجزائري إلى أنها مهمة مستحيلة تحديد من هو الأعلم بين الفقهاء، إذ قد يتساوى فقيه مع آخر أو أنه لا يمكن لفقيه أن يكون الأعلم في جميع أبواب الفقه. وبناءً عليه اقترح الجزائري قيام مجلس (شورى الفقهاء)، يتألف من كبار الفقهاء المعاصرين بحيث يبحث المجلس جميع المسائل والمشكلات، ويتم اعتماد رأي الأكثرية بعد المناقشة الكاملة للمسألة. وذكّر الجزائري بأن الاجتهاد (لدى الإثني عشرية) هو تطوّر حديث نسبياً، إذ لم يتم اعتماد الاجتهاد في زمن الأئمة المعصومين وحتى بعد قرن أو قرنين لاحقاً، إذ استند الفقه الشيعي آنذاك على العمل بالروايات المنقولة عن الرسول وآل البيت. واعتبر أنّ قيام مجلس شورى الفقهاء يعتبر خطوة أولى في تحوّل المرجعية إلى مؤسسة، ويمنح المرجعية الدينية قوة واستقلالية أمام الدولة. كما يمنح الفقهاء الأفراد حرية أوسع ويقوّي موقعهم ويشجّعهم على اتّخاذ مواقف أكثر إيجابية وشوروية(5).

كما ناقش آية الله السيد محمود الطالقاني مسألة تمركز مرجعية التقليد، ورأى أنه لا يجب حصرها في شخص واحد، وذلك انسجاماً مع التطوّرات السياسية والاجتماعية والعلمية الحديثة في العالم، بحيث لا يمكن لأحد من الفقهاء أن يكون الأعلم في جميع أبواب الفقه. وقد برّر رأيه بأنّ الحاجة إلى اتّخاذ قرارات في مشكلات تتعلّق بأنواع مختلفة من المساواة والمشكلات في الحياة العصرية تدفع إلى عدم تركّز المرجعية الدينية، وإلى حاجة مرجعية التقليد إلى التوسّع في العلوم والتعمّق والتخصص فيها. وأشار إلى حاجة مرجع التقليد إلى مستشارين ذوي علم ومعرفة غير عاديين. لكن الطالقاني نبّه إلى مساوئ تعدد مراجع التقليد وعدم مركزية المرجعية الدينية وعدم تعاون الفقهاء في ما بينهم، فاقترح إنشاء لجنة تشكّل من علماء وفقهاء المحافظات وتلتقي لمناقشة المشكلات المطروحة ومن ثم إعلان النتائج التي تتوصّل إليها. لذلك اقترح الطالقاني أيضاً قيام مجلس شورى فقهاء، برئاسة أحد كبار الفقهاء في إحدى الحوزات العلمية الرئيسة، وأن يبحث هذا المجلس كل شهر أو كل بضعة أشهر المشكلات الراهنة، وأن يدعو كذلك فقهاء المحافظات للتعبير عن آرائهم، وأن يناقش أعضاء هذا المجلس هذه المسائل الدينية والفقهية مع تلاميذهم، على أن يتم إعلان القرارات التي يتم التوصّل إليها. لكن الطالقاني لم يسهب في تحديد سلطات كل من هاتين الهيئتين أي، مجلس شورى الفقهاء، ولجنة العلماء، والعلاقة بينهما(6).

بدوره، بحث مرتضى مطهّري مسألة مرجعية التقليد، ورأى أنّ على الفقيه المجتهد الحقيقي ليس فقط التمتّع بالقدرة على استنباط الحكم الشرعي والمعرفة بعلوم الفقه والحديث والتفسير واللغة، وما سوى ذلك من العلوم الدينية التقليدية، بل عليه أن يكون على صلة بالشؤون العامة المعاصرة في مواجهة المشكلات الجديدة والظروف المتغيّرة في العالم. وعليه، فإن مطهري، الذي يعتقد أنّ الإنسان له قدرات محدودة، قد ذهب إلى ما ذهب إلى الدعوة إلى التخصص في الدراسات الفقهية، بحيث يتخصّص كل مجتهد في أحد أبواب الفقه ويتم تقليده في هذا الباب. كما دعا إلى التعاون بين الفقهاء والعلماء الذي كانت تفتقده الحوزات الدينية الشيعية. كما بحث مطهري مسألة المؤسسة الدينية الشيعية ونقاط ضعفها، فدعا إلى جعل المرجعية الدينية مؤسسة، بحيث يتم تنظيم مدارسها الدينية وإدارة أحوالها الشرعية وأوقافها، وصرف هذه الأموال بطريقة مؤسساتية حديثة، إذ يتم الصرف على الطلاب والعلماء والمحتاجين من خلال هذه الأموال بطريقة لا يمكن معها سوء استغلال هذه الأموال أو سوء صرفها. كما طالب بالاستقلاليّة الماليّة للمرجعيّة، إذ رأى في تسلّط الجماهير على المرجعيّة مشكلة كبيرة، وأشار إلى التأثير السلبي لأموال تجار البازار وكبار الملاك وعامّة الناس على المجتهدين، حيث أن اعتماد المراجع على هؤلاء جميعاً يجعل اجتهاداتهم تحت رحمة ميولهم المتخوّفة من التجديد والتغيير(7).

واقع الحوزة الدينية في قم

تشكّل الحوزة الدينية في مدينة قم ما يشبه حكومة الظل في الجمهورية الإسلامية في إيران، من حيث مراقبتها لعمل رئيس الجمهورية وحكومته وللإعلام والمؤسسات الأخرى في البلاد، بحيث تحرص الحوزة على عدم تجاوز الخطوط الحمر الدينية الشيعية، وخصوصاً في مسائل العقيدة وبخاصة الإمامة وولاية الفقيه وفي الحريات الفكرية والإعلامية والسلوك الاجتماعي للمواطنين.

فقبل أقل من شهرين، وجّه “مجمع مدرسي الحوزة العلمية” في قم تحذيرات للرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني، بسبب إدلائه بتعليق حول ضرورة عدم فرض الالتزام الديني على المواطنين الإيرانيين بالقوة، إذ قال روحاني في 24 أيار/مايو 2014: “لا يمكن إرشاد الناس إلى الجنة باستخدام القوة والسوط”. واعتبر رجال الدين المحافظون هؤلاء كلام روحاني بمثابة الدعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ركن من أركان الدين في المذهب الشيعي. إذ قال آية الله المحافظ أحمد خاتمي، وهو خطيب للجمعة في طهران، في 27 أيار/مايو: “يقولون دعوا الناس وشأنهم ولا ترشدوهم إلى الجنّة بالقوّة.. هل هذا هو الحرص على تطبيق الدين؟ .. علينا أن نحمي نظامنا الإسلامي..”(8).

يشار إلى أن “مجمع مدرسي الحوزة العلمية” قد أسّسه عدد من رجال الدين البارزين في مدينة قم عام 1961، في أعقاب وفاة المرجع الكبير آية الله سيد حسين بروجردي. وكان الهدف من إنشاء هذا المجمع هو تنظيم التعاليم الدينية في الحوزات العلمية، وأصبح له دور فاعل بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979 لجهة وضع الدستور وتشريع القوانين وانتخاب مرشد الجمهورية الإسلامية ولي الفقيه، إذ إن عدداً من أعضاء المجمع هم أعضاء في مجلس الخبراء، الذين يقومون باختيار المرشد وعزله في حال اقتضى الأمر ذلك(9).

شيخ لبناني يقيم في قم، قال في مقابلة خاصة مع الكاتب على الهاتف إن رجال الدين المحافظين، غالباً ما يوجهون انتقادات للرئيس أو الحكومة أو الإعلام في حال تم المس بالعقائد والمسلّمات والقيم الدينية من قبل مسؤولين أو كتاب أو إعلاميين أو ناشطين، فلهؤلاء العلماء نفوذ في الدولة والمجتمع، بسبب وجود مراجع دين بارزين بينهم، لهم ملايين المقلّدين، وعلماء وخطباء مشهورين، أبرزهم آية الله محمد تقي مصباح اليزدي وآية الله جوادي آملي وآية الله محمد اليزدي وآية الله أحمد خاتمي. لكن الشيخ يلفت إلى أن ذلك لا يعني أن المحافظين يهيمنون على المشهد الديني برمّته في قم وإيران، ويشير إلى أن الإحصائيات تشير إلى أن المرجع الإصلاحي آية الله ناصر مكارم شيرازي، يأتي في صدارة المراجع من حيث عدد المقلّدين في إيران(10).
يقول الشيخ محمد الدهيني (عالم دين لبناني، أستاذٌ ومحقِّق في جامعة المصطفى العالمية)، في مقابلة خاصة إن التيّارات الإصلاحيّة، وبعض الشخصيّات المحسوبة على هذه التيّارات، ليس لها وجود مؤثِّر في الحوزة، بل إن حضورها الفاعل في الوَسَط الجامعي من الطلاّب، إذ لا تزال الهيمنة والحضور الفاعل في الحوزة للمراجع الدينيّين، وهُمْ في أغلبهم من المحافظين والتقليديّين، “الذين لا يُؤثِرون الخروج عن المألوف والمعتاد، ولهم عالمُهم الخاصّ المنغلِق على نفسه، والذي يهاب كلَّ جديد؛ لجِدَّته، لا لخللٍ أو عيب أو نقص فيه”(11).

ولدى سؤاله إن كانت المناهج الدراسية قد تطورت في حوزات قم أم لا تزال الدراسة على الطريق التقليدية، كما في النجف، أجاب: “الواقع أنّ التنوُّع والتعدُّد في المناهج والأساليب التعليمية قد وجد طريقه إلى حوزات مدينة قم الإيرانيّة. ففي حين أخذَتْ بعض المدارس بالاعتماد على المنهج الأكاديميّ العصريّ في التدريس، كما هي حال جامعة المصطفى العالمية، المؤسَّسة حديثاً، والتي انخرطت فيها جملةٌ من المدارس الدينية الإيرانيّة القديمة والحديثة، فإنَّه لا يزال هناك حضورٌ فاعل ومؤثِّر للمدارس ذات المنهجيّة القديمة في تحديد نوع الدروس وآليّة التدريس، كما في مدرسة الكلبايكاني، ومدرسة التبريزي، ومدرسة البروجردي”(12).

الشيخ علي حلاوي، وهو رجل دين لبناني ومدير مكتب المرجع اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله في قم، يقول في مقابلة خاصة إن جامعة المصطفى وأمثالها التي تعتمد المنهج الأكاديمي قد غلب عليها طابع أنّها أُنشئَتْ لغير الإيرانيّين من طلاب عرب وآسيويين وأفارقة، بحيث يفرض عليهم الحضور والخضوع للامتحانات ونيل الشهادات.
أما الحوزات التقليدية فيرى الشيخ أن أغلبها إن لم نقُلْ كلّها، يرتادها الطلاب الإيرانيّون في بداية كلِّ عام دراسيّ، ويختارون لأنفسهم ما يرغبون من الدروس، منظِّمين لأنفسهم برنامجاً خاصّاً بهم، من حيث الوقت والأستاذ والمادّة. لكن عدداً لا بأس به من الطلاّب الإيرانيّين، الذين يرغبون في أن تكون دراستهم وفق منهجٍ أكاديميّ وتحصيل شهادة علميّة في نهاية الدراسة، تخوِّلهم العمل في مجالاتٍ علميّة شتّى، يلحتقون بجامعة المصطفى(13).

وفي المقابل هناك الحوزات التقليديّة، والتي يرتادها الإيرانيّون عموماً، وبعض الطلاّب الأجانب المتمرِّدين على أنظمة جامعة المصطفى، حيث لا يزال المنهج التقليدي هو السائد، ولا تزال دراسة الكتب التقليديّة رائجةً، ولا يزال الطالب يختار من الأساتذة مَنْ يرغب فيه، ويتَّفق معه على الوقت الذي يريد، وعلى أيّام التعطيل، التي تكثر في مثل هذه المدارس، حتَّى أنّ بعض الحلقات الدراسيّة لا تتجاوز أيّام الدراسة فيها المئة يوم في العام كلِّه.

ويخلص دهيني إلى أنه “لا نستطيع القول بأنّ تغيُّراً جذريّاً من حيث المنهج التدريسي قد طرأ على الحوزات عموماً في مدينة قم، وإنْ كان للمنهج الأكاديمي حضورٌ فاعلٌ في جامعة المصطفى للطلاّب غير الإيرانيّين، التي لا تخلو بين فترةٍ وأخرى من أصوات بعض المشايخ، من الطلاّب والأساتذة على السواء، الداعين للعودة إلى النظام الحوزويّ القديم، حيث يختار الطالب الدرس الذي يرغب فيه، والأستاذ الذي يدرّسه، والوقت الذي يريده”. ويضيف: “هؤلاء عادةً ما يزْدَرُون الشهادة التي تمنحها جامعة المصطفى لطلاّبها في نهاية دراستهم، مؤكِّدين أنّ هذا النظام التعليميّ الجديد ما هو إلاّ تسطيحٌ للمعرفة والعلوم، واستعجالٌ خَطِر في تلقي الدروس الحوزوية العميقة التي تحتاج إلى كثيرٍ من التأنّي والروية في التحصيل”(14).

ويشير دهيني إلى “أنّ جامعة المصطفى بكافّة أقسامها تعتمد المنهج الأكاديميّ، وتُلزِم المنتسبين إليها بهذا المنهج، وعلى أساسه تمنحهم الشهادات التي يستحقُّونها بعد امتحاناتٍ شفهيّة وخطِّية متعدِّدة، في الفقه والأصول، والمعارف الإسلاميّة، والفلسفة، وعلوم القرآن والحديث، الخ… حيث تُمنَح للطلاّب في نهاية كُلِّ مرحلةٍ شهادةٌ تُشبه في تقسيمها الشهادات الجامعيّة (شهادة ماجستير لطلاّب مرحلة السطوح العليا؛ شهادة دكتوراه لطلاّب مرحلة البحث الخارج)، إذ يكون التخرُّج في كلِّ مرحلةٍ عبر رسالةٍ أو أطروحة علميّةٍ مستوفية للشروط العلميّة والأكاديميّة المتعارَفة في الجامعات”(15).

لا شك أن هيمنة كبار رجال الدين التقليديين والمحافظين على الحوزة الدينية في قم وتأثيرهم القوي على مؤسسة الحكم في إيران، وضمنها المرشد ولي الفقيه علي خامنئي، يمنع تطور الفكر الديني الشيعي سواء أكان في مجال العقيدة أم في مجال الفقه والسياسة. فالجمود ورفض التجديد والخوف من الجديد يجعل من الفكر الشيعي أقرب إلى الفكر السلفي برغم وجود مبدأ الاجتهاد وكثرة المجتهدين. وكان الفكر الشيعي قد عرف ظاهرة عرف ظاهرة الأخباريين في أواخر القرن الثامن عشر والتي رفضت الاجتهاد ودعت إلى الاعتماد فقط على نصوص القرآن والأحاديث من دون اللجوء إلى الاجتهاد بواسطة علم أصول الفقه، لكن الاتجاه الداعي للاجتهاد قد انتصر لاحقاً.

حول خلافة خامنئي الولي الفقيه:

آثار مرض خامنئي مؤخراً وبلوغه سن الـ75 الجدل في إيران حول خليفته المحتمل علماً أنه لم يعيّن خليفة له كما كان الخميني قد عيّن خليفة له، الشيخ حسين منتظري(ت 2009)، وعزله الخميني عام 1988 قبل وفاته بعام واحد فقط.

وبحسب الدستور، في حال وفاة المرشد الأعلى أو تعذر ممارسة مهامه، ينتخب مجلس الخبراء خليفة له، ويتولى السلطة مجلس قيادة مؤقت حتى إجراء انتخاب للمرشد، الولي الفقيه.

ولا شك أن خلافة خامنئي سيشوبها صراع كبير بين مختلف المعسكرات داخل التيار المحافظ من جهة وبين المحافظين والإصلاحيين من جهة أخرى.
فالمتشددون يرغبون في منع الرئيس السابق علي أكبر رفسنجاني من الوصول إلى هذا المنصب، بسبب علاقته بالإصلاحيين، ويفضلون السيد احمد خاتمي، خطيب جمعة طهران وهو من المحافظين المتشددين(16).

كيفية اختيار المرشد

يُكلف مجلس الخبراء (وهو هيئة منتخبة من 86 شخصية من رجال الدين تشرف على أداء المرشد الأعلى) بمهمة اختيار المرشد، وقد قام أعضاء المجلس بهذا الدور مرة واحدة فقط، حينما اجتمعوا إثر وفاة الخميني ليختاروا خامنئي خلفاً له في عام 1989. ويروى أن رفسنجاني كان وراء ترشيح خامنئي، الذي لم يكن بعد معروفاً كمجتهد أو آية الله، وهي شرط ضروري لتولي القيادة والتي شرطها الأساسي أن يكون فقيهاً مجتهداً مطلقاً، وليس بالضرورة أن يكون أعلم الفقهاء. وقد جرت ترقية خامنئي لرتبة آية الله وتم انتخابه نظراً لخبرته السياسية الكبيرة كرئيس للجمهورية لمدة تسع سنوات (1981- 1989).

ولا شك في أن الحرس الثوري الإسلامي، وهو القوة العسكرية المهيمنة في البلاد، سيلعب دوراً أساسياً في تحديد من سيكون المرشد الأعلى الجديد. وسيكون للمؤسسة الدينية في قم دور في هذا الانتخاب، نظراً لوجود عدد كبير من كبار فقهاء حوزة قم في مجلس الخبراء.

Optimized by Optimole