أين الكائنات الأخرى؟ ولماذا لم يتّصلوا بنا؟

أين الكائنات الأخرى؟ ولماذا لم يتّصلوا بنا؟
Spread the love

شجون عربية – د. حسن الشريف* |

منذ فجر الإنسانيّة، هنالك دلائل على أنّ الإنسان كان يعتقد بوجود كائنات حيّة وذكيّة أخرى في الكون، معنا على هذه الأرض أو في السماوات، مثل الجانّ والعفاريت والآلهة. وكان دائم البحث عن هذه الكائنات وعن طُرقٍ للتواصل معها. وما بحْثُنا اليوم عن كائناتٍ حيّة ذكيّة في فضاءات الكون، إلّا، ربّما، امتداد لهذا الاعتقاد، أو هو تفسير متفائل لبعض الأرصاد التي قد توحي بإمكانيّة وجود مثل هذه الكائنات الحيّة، خارج المنظومة الشمسيّة، على الرّغم من أنّنا، إلى اليوم، لم نتلقّ أيّة إشارة تؤكّد ذلك.

وقد واجهَ العلميّون معضلة تعريف “الحياة”، إذ ليس لديهم سوى الأنموذج الوحيد المتوافر على كوكب الأرض، على الرّغم من أنّه قد تكون هناك نماذج أخرى للحياة في أماكن لم نصلها بعد خارج المنظومة الشمسيّة. وبالفعل، اقترح بعض العلميّين أن تكون الخلايا الحيّة الأولى قد وصلت إلى الأرض مع مذنّب أو كويكب اصطدم بالأرض قبل بلايين السنين؛ إلّا أنّ هذا الاقتراح لم يَكشف كيف بدأت الحياة في أيِّ موقعٍ في الكون العظيم، ولم يتضمّن تعريفاتٍ للحياة غير ما نعرفه على الأرض اليوم.

وإذا قبلنا بنظريّة التطوُّر الارتقائي، فإنّ نظريّات عِلم الحياة الأحفوري تقول إنّ الحياة قد ظهرت مبكّراً على الأرض، قبل بلايين السنين، نتيجة تفاعلاتٍ طويلة الأمد، متعدّدة الأبعاد بين مكوّنات البيئة الطبيعيّة في ذلك الوقت: المياه والمُحيطات والغلاف الجوّي والأملاح والعناصر الكيميائيّة في كتلة القارّات الصلبة وتقلّبات الطقس والإشعاعات على أنواعها، بخاصّة الإشعاعات المؤيّنة والأشعّة فوق البنفسجيّة التي كانت تضرب الأرض. وقد بدأت الحياة من نطفةٍ من طين تولّدت فيها نتيجة التفاعلات المذكورة أوّلُ خليّة حيّة، تطوّرت عبر بلايين السنين إلى أن ظهر الإنسان الذكي، ذروة هذا التطوّر الارتقائي.

لهذا فإنّ أرصاد البحث عن حياةٍ مُحتملة خارج كوكب الأرض تركِّز حاليّاً على رصْدِ كواكب لها مواصفات تشبه مواصفات كوكب الأرض، تدور حول نجومٍ تشبه شمسنا، حيث يعتقد علميّو الفلك أنّ هنالك احتمالات توفُّر بيئة طبيعيّة صديقة للحياة كما نعرفها. وبالتالي فإنّ هذه الأرصاد تبحث عن:

-نجوم من الأجيال المتأخّرة، حيث يزيد احتمال وجود عناصر كيميائيّة ثقيلة في سديمها النجمي، وحيث يُمكن أن تتشكّل كواكب تشبه كوكب الأرض.
-كواكب تشبه مواصفاتها الفلكيّة مواصفات كوكب الأرض، تدور حول تلك النجوم.
-أطياف الإشعاعات الواردة من تلك النجوم، وإذا أمكن من الكواكب التي تدور حولها، في محاولةٍ لرصْدِ مؤشّراتٍ في تلك الأطياف قد ترتبط بعناصر الحياة، مثل الأوكسيجين والكربون.
وفي مرحلة لاحقة قد تسعى تلك الأرصاد لالتقاط مؤشّرات وجود حضارات تمتلك تكنولوجيا متقدّمة، مثل إشعاعات متنوّعة غير منتظمة طبيعيّاً، قد تدلّ على تغيّرات تتسبّب بها تلك التكنولوجيا.

النطاقات الفلكيّة القابلة لوجود حياة
وتبحث هذه الأرصاد عن النطاقات الفلكيّة القابلة لسكَنِ كائناتٍ حيّة حيث تتوافر الظروف البيئيّة الطبيعيّة التي تشبه ظروف الحياة على كوكب الأرض والتي تسمح للحياة بالاستمرار. من ذلك، استقرار كميّات مياه سائلة، ووجود غلاف جوّي كبير ومُستقرّ، وتوافُر مختلف العناصر الكيميائيّة الثقيلة، وأخيراً حماية كافية من الإشعاعات الفلكيّة القاسية ومن الاضطرابات الفلكيّة الشديدة. وقد تدرَّج الفلكيّون في تحديد هذه النطاقات: من المناطق الهادئة في المجرّة، إلى المدارات المُناسبة حول النجم المركزي، إلى البيئة الطبيعيّة على الكوكب القابل للسكن.

وقد لاحَظ الفلكيّون أهميّة موقع الأرض بين الكواكب الشمسيّة، ما جعلَها وحدها موئلاً لكائناتٍ حيّة. ولكنّهم أدركوا أيضاً أهميّة المواصفات الفلكيّة العامّة المُناسبة للشمس في درب التبّانة. فالشمس هي نجم متوسّط الحجْم من عمر متوسّط، ما يعني أنّها نشأت في سديمٍ نجمي تولّد من انفجارات “النوفا” لنجوم أجيال سابقة، حيث ولَّدت التفاعلاتُ الانصهاريّةُ النوويّةُ ما يلزم من عناصر كيميائيّة ثقيلة. وهي ليست قريبة من مركز المجرّة، حيث تكثر الاضطرابات الفلكيّة الكبرى، كما أنّها ليست على الأطراف البعيدة التي تفتقد العناصر الكيميائيّة الثقيلة.

ومن هنا حدّدوا مواصفات النطاقات في الكون، حيث يُمكن للحياة أن تنشأ وتتطوّر:

1- موقع النجم في المجرّة في نطاقٍ وسطي؛

2- نطاق الكوكب الوسطي في الإسطوانة الغازيّة السديميّة حول النجم المركزي، ومسافة الكوكب إلى النجم؛

3- التركيبة الكيميائيّة للنجم وبالتالي للكوكب، على افتراض أنّ الكوكب نشأ من السديم النجمي نفسه؛

4- حجم الكوكب، وتناسُب كتلته المركزيّة الصلبة مع توافُر المياه السائلة والغلاف الجوّي الكافي حولها؛

5- تركيبة الكوكب الكيميائيّة وتوافُر العناصر الضروريّة، مثل الأوكسجين والكربون والميثان والأمونيا وغيرها من العناصر الكيميائيّة، وبنِسبٍ معيّنة؛

6- وجود قمر بحجْمٍ مناسب وعلى مسافة مناسبة؛

7- العمر الوسطي للنجم والكوكب، بما يسمح للعمليّات الجيولوجيّة في الكوكب أن تكتمل وتهدأ – بعد أن تتشكَّل المحيطات والقارّات والسهول والجبال – وبما يُمكِّن من ظهور دورة المياه الكاملة الضروريّة للحياة، وبعد أن تكون التحرّكات الزلزاليّة قد خفّت حدّتها لتسمح بنَوع من الاستقرار الجيولوجي؛ وبما يسمح بتطوّر الكائنات الحيّة من نطفة الطّين إلى المستوى الأرقى والأذكى.

هل الحياة على الأرض فريدة في هذا الكون؟!

تبدو الأرض كوكباً عاديّاً بين بلايين الكواكب التي تدور حول بلايين النجوم مثل الشمس، ضمن بلايين المجرّات في هذا الكون العظيم. والسؤال هل الظروف التي سمحت للحياة بالوجود على الأرض فريدة، أو إنّها يُمكن أن تتكرّر في كواكب أخرى تدور حول نجوم مثل الشمس؟

بعض علميّي بيولوجيا الفلك يقولون إنّ هنالك أسباباً عديدة للتفكير بأنّ ظروف الحياة على الأرض فريدة، إذا أخذنا بالاعتبار كلّ ما هو مطلوب ومذكور أعلاه. فهنالك دراسات معمّقة لكلّ مواصفات الكون والبيئة الضروريّة للحياة. ويبدو أنّ ثوابت الكون وموسطاته قد دَوْزَنت بشكلٍ دقيق لينشأ الكون كما هو، ولتنشأ الحياة التي نعرفها على الأرض.

يتأتّى هذا التفكير من سعي الإنسان الدائم لتحديد موقعه في الكون. فقبل مؤسّس علم الفلك الحديث البولوني نيكولاس كوبرنيكوس (1473 – 1543)، كان الإنسان يعتقد بمركزيّته بين المخلوقات، وبمركزيّة الأرض في الكون. فجاء كوبرنيكوس ليقول إنّ الأرض ليست مركز الكون، فهي تدور حول الشمس مثل كواكب أخرى نعرفها. لكنّ العلميّين والفلاسفة ما زالوا يطرحون اليوم أسئلة من مثل:

-هل ثوابت فيزياء الفلك وموسطاتها، والتي أدّت إلى دَوزنة الكون بشكله الحالي، تحتمل قيام حياة في مناطق أخرى في الكون؟
-هل المتطلّبات التي سمحت بقيام الحياة الذكيّة المتقدّمة على الأرض، قابلة للتكرار في كواكب أخرى؟
-هل إنّ التطوّر الارتقائي للإنسان يُمكن أن يتكرّر في ظروف مماثلة في أماكن أخرى في الكون؟
ويختلف العلميّون والمفكّرون في الإجابة عن هذه الأسئلة، وليس من دليلٍ حاسم بعد في أيّ اتّجاه.

والأرصاد الفلكيّة المتقدّمة ما زالت في مرحلة اكتشاف كواكب تشبه الأرض تدور حول نجوم مثل الشمس، ولم تصل بعد للبحث الفعلي عن حياة على تلك الكواكب. غير أنّ الأرصاد تشير إلى أنّ هنالك بلايين النجوم مثل الشمس التي تشدّ إليها العديد من الكواكب مثل الأرض؛ غير أنّ هيكليّة المجموعة الشمسيّة وموقع الأرض فيها، هي كلّها نادرة جدّاً بين الكواكب المكتشفة إلى تاريخه، ومجموعها بالآلاف!

والسؤال الأكبر ما زال حول نُظُم جِسم الإنسان ودماغه ومكوّناتهما، فكلّها نُظُم استمثاليّة عالية التعقيد وشديدة الحساسيّة لكلّ المتغيّرات حولها، ولاسيّما ما يتعلّق بمسألة تركيبة الدماغ وطريقة عمل هذا الدماغ في التفكير والتعليل والذاكرة. وهذا ما يجعل تكرار الحضارة الإنسانيّة على كواكب أخرى شأناً نادراً للغاية.

بعض الاستنتاجات

توحي معظم الأرصاد والملاحظات حولنا أنّ نظريّة كوبرنيكوس عن موقعنا في الكون هي صحيحة فلكيّاً، فليس هنالك ما يُميِّز الأرض بين بلايين الكواكب المنتشرة في الكون!
لكن هنالك مؤشّرات إلى فرادة الإنسان ودماغه الذكي، ومن حيث تكيّفه مع البيئة الضروريّة للحياة وللتطوّر الارتقائي الذي أوصل إلى ما نحن عليه اليوم.
والبحث في النطاقات القابلة للسكن والحياة متوافرة في الكون. لكنّ البيئة الضروريّة للحياة والتطوّر تتطلّب ثوابت وموسطات فلكيّة وفيزيائيّة وكيميائيّة هي من الدقّة المتناهية التي تدفع إلى التساؤل حول اكتمالها في كواكب أخرى شبيهة بالأرض في هذا الكون!
Fermi Paradox
والسؤال المحيّر (معضلة فيرمي)، إذا كان الاحتمال هو وجود بلايين الكواكب مثل الأرض، وبالتالي، على الأقلّ، ملايين الحضارات الذكيّة في الكون، فالسؤال: أين هُم؟! ولماذا لم يتّصلوا بنا، ولم يصلنا منهم شيء حتّى الآن؟!

المصدر: مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole