أخطار تحيط بتجديد الخطاب الديني

Spread the love

بقلم: إبراهيم البيومي غانم — ما لا تخطئه العينُ في الإلحاح الراهن على وجوب تجديد «الخطاب الديني» في كثير من مجتمعات الأمة الإسلامية أنه أمسى مطلباً سياسياً براغماتياً؛ يردده سياسيون من مواقع السلطة حيناً، ومن مواقع المعارضة حيناً آخر، وبلغةٍ آمرة من هؤلاء وأولئك في أغلب الأحيان؛ وكأن هذا «التجديد» سلعة من السلع التي يمكن تصنيعها بمواصفات معلومة، وفي وقت محدد، ووفق طلب زبائن السوق؛ أكثر منه مطلباً معرفياً يتولاه ذوو المُكْنة العلمية والجدارة الفكرية على اجتراح خطاب إسلامي جديد غير منفك عن الأصل ومتصل بالعصر. انظر مثالاً على ذلك: نص إعلان الأزهر عن «المواطنة والعيش المشترك» المنشور في «الحياة» (4 آذار- مارس 2017).
في تقديري أن دخولَ السياسي، حاكماً كان أو معارضاً، على مطلبِ تجديد الخطاب الديني لن يساعد في إنجازه؛ بل من شأنه أن يزيدَ «إشكالية التجديد» تعقيداً وارتباكاً، ويضع في طريقها عوائق نفسية تتعذر إزاحتها في الأجل القريب. فهذا الدخول يؤشرُ، من جهةٍ، الى أن أي جهدٍ تجديدي يأتي استجابةً له سيحملُ في طياته التحيز للسلطة واختياراتها، ومن ثم سيُولد هذا التجديد «المفترض» مخدوش الحياء، وفاقداً صدقيته عند الجمهور العام.
ويزيدُ هذا الشك المجتمعي؛ أن الداعين إلى التجديد لم يقدموا نموذجاً يُحتذى في تجديد الخطابات الأخرى الواقعة في مجالات اختصاصهم ومنها مثلاً: الثقافة، والإعلام، والإدارة، والفنون، والتعليم؛ وكلُّها مجالات تبدو أكثر يسراً وسهولة من «المجال الديني». بل إنهم يساهمون بوعي أو بغير وعي في قطعِ الطريق على التجديد بتحيزهم ضد «اللغة العربية» وتيسير سبل هدمها وإهانتها بصور متعددة، وبتقاعسهم عن تعزيزها في وعي النشء الجديد بخاصة، وبسكوتهم (أو طرمختهم) عن مشكلة التدهور المريع في أداء المؤسسة التعليمية الحديثة في تعليم اللغة العربية لطلاب المدارس والمعاهد وحتى الجامعات، وتفضيلهم خريجي مدارس اللغات الأجنبية في مناصب الشغل ومجالات العمل على نظرائهم من خريجي المدارس والجامعات الحكومية النظامية.
أضف إلى ما سبق أن مجالَ عمل السياسي المنادي بتجديد الخطاب الديني هو ميدان «المدنس» المليء بالأخطاء والخطايا (وفق ما يعتقد السياسي وأنصاره الوضعيون والحداثويون بعامة)، وعليه يكون السؤال هو: من ذا الذي سيضمن ألا يصيب هذا الدنس الخطاب الديني الجديد ويشوهه في أعين الناسِ، ومن ثمَّ ينفرُهم منه، وبالتالي لا تتحقق مقاصد التجديد؟. وهب أن المناط بهم عملية التجديد والجديرين بها استجابوا وقدموا اجتهادهم التجديدي؛ وهب أنهم نجحوا في صون خطابهم الجديد من دنس المدنس؛ فهل السياسي هو الذي سيعترف لهم بنجاحهم أو إخفاقهم في مهمتهم هذه، بما أنه كان صحاب هذا المطلب منهم، أم منْ هو؟.
هنا تضافُ عقبةٌ أخرى في طريق «تجديد الخطاب الديني»؛ وهي أن الذين لديهم القدرة والكفاءة فعلاً غالباً ما سيحجمون عن المبادرةِ الى التجديد حتى لا يُتهموا بأنهم من «علماء السلطان»؛ ولعلماء السلطان سيرةٌ غيرُ حسنةٍ، ولهم سمعة سيئة في الوعي الجماعي لأبناء الأمة على مر الزمن. وإذا أحجم الكفوء في مثل هذه الظروف؛ فإن الرويبضة سيحتل مكانه الخالي.
والذي ينسحب من ميدان التجديد وهو جديرٌ به، سوف تتضاءل في خطابه – من دون أن يقصد – درجة التركيز على بيان الفروق بين مستويات المرجعية الإسلامية؛ فتقترب لديه الاجتهاداتُ الفقهيةُ الموروثة من الأصول العليا المنزلة؛ وبخاصة في الإيمان بثباتها، وإلزاميتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وعدم قابليتها للتطور. ويصبحُ الأمر أشد خطراً عندما تتضاءل في وعيه المسافةُ بين تلك الاجتهادات الفقهية والاختيارات المذهبية الأصولية، وبين الممارسات الاجتماعية التقليدية والمؤسسات والاختيارات السلطوية الموروثة من الأزمنة الماضيةِ. ولا يكون أمام هذا الكفوء المقتدر إلا أن ينهض للمناضلة أولاً وقبل كل شيء عن هذه الأصول وتلك الفروع، وعن الاجتهادات والاختيارات؛ مؤجلاً أي مهمة أخرى؛ بما فيها التجديد.
لا يتراجعُ الوعيُ بالفروق بين مستويات المرجعية الإسلامية فحسب نتيجةَ تدخل السياسي الآمر بالتجديد؛ وإنما يدفع تدخلُه أيضاً إلى إعادة ترتيب أولويات من لديه كفاءة ممارسة عملية التجديد باتجاه التركيز على مهمتين: أولاهما هي «نقل الأصول وتثبيتها» في وعي الأجيال الجديدة؛ وهي مهمة نقلية بالدرجةِ الأولى، ولا تحتاجُ إلى كثير من الاجتهاد بقدر ما تحتاج إلى كثير من الجهد والتعب، وثانيتهما هي «دحضُ وتفنيدُ» الشبهات والافتراءات التي يشنها خصوم الإسلام لتشويهه وتشكيك المؤمنين به فيه. وهذه مهمة تحتاج إلى كثير من الحجاج العقلي والجدل الدفاعي الذي يستغرق وقتاً كبيراً من دون أن يحرز أطرافه تقدماً إلى الأمام مساوياً لهذا الجهد. ويبقى في موقف دفاعي معظم الوقت. وغالباً ما يخصم التركيزُ على هاتين المهمتين من حساب المهمة الرئيسية التي يتعين على العالم الكفء المقتدر أداؤها، وهي مهمة «الاجتهاد والتجديد»، وهي أصعب المهمات الثلاث وأثقلها حملاً وأوجبها أداءً في سياق الواقع وتحدياته.
وعندما يحدثُ هذا الارتباك، ويهربُ أو ينسحب الكفوء المقتدر على التجديد – وهو أمر حادثٌ بدرجات مختلفة في طول العالم الإسلامي وعرضه ـ ينفتحُ المجال أمام غيره من ناقصي الكفاءة والهواة و «الرويبضات»؛ كي يخوضوا في ما لا علم لهم به، ويضيفوا أسباباً جديدة تغذي عمل القانون القائل إن «العملة الرديئة تخرج العملة الجيدة من السوق»، ويزداد الأمر سوءاً، والإشكال استعصاءً على الحل.
إن الدعوةَ الى تجديد الخطاب الديني ذي المرجعية الإسلامية ـ تحديداً ـ ليست بنت اليوم، ولا الأمس القريب؛ بل هي قديمة ومتجذرة في حياة مجتمعات الأمة الإسلامية بعامةٍ. وفي سجل التجديد والدعوة إليه خلال القرنين الهجريين الأخيرين وحدهما( دعك الآن مما سبقهما) لدينا أعلام كبار لا تزال أفكارهم واجتهاداتهم حاضرة وفاعلة بدرجات متفاوتة في الواقع المعاصر، ومن هؤلاء الشيخ رفاعة الطهطاوي، والسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ أبو زهرة، والشيخ محمد الغزالي، وتلاميذهم من بعدهم وهم كثيرون.
وسبق أن نشرتُ في جريدة «الحياة» (15/4/2016) مقالاً تعريفياً بالجهد الذي بذلناه مع فريق كبير من العلماء والباحثين في مكتبة الإسكندرية لإعادة نشر كتب رواد الاجتهاد والتجديد في القرنين الهجريين الأخيرين. وما تم نشره (خمسة وخمسون كتاباً، من مستهدف مئة كتاب) يُغطي مختلف القضايا والمشكلات التي واجهت، ولا تزال تواجه، مجتمعات الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. ولم نعثر أثناء التنقيب لنشر هذه الكتب والتعريف بها وبمؤلفيها على ما يشيرُ إلى أن أياً منهم قد اجتهد وكتب في هذا الموضوع أو ذاك بناء على طلبٍ سلطوي من هنا أو هناك؛ وإنما كان دافعه الأساسي هو القيام بأداء واجبه في إصلاح شؤون أمته، قدر استطاعته؛ ولهذا عاشت كتبه، وبقي أثره.
ومما كشف عنه مشروعُنا هذا في مكتبة الإسكندرية أن ما يسودُ في الخطاب الفكري المعاصر من أن باب الاجتهاد لابدَّ من أن يُفتح من جديد هو ادعاءٌ لا أصل له؛ اذ إنه لم يثبت ثبوتاً تاريخياً موثقاً أنه تم إغلاقُه. فباب الاجتهاد في الفقه الإسلامي وتجديده لم يتوقف يوماً توقفاً تاماً؛ حتى يأتي اليوم من يدعي أنه الفاتحُ لما أُغلق. وللحكيم المستشار طارق البشري – المؤرخ والفقيه والقاضي المعروف – رأيٌ معتبر في هذا الموضوع مؤداه أن امتناع الفقهاء أحياناً عما يريدُ أن يجبرَهم عليه السلطان، أو يغريهم به،لا يمكن اعتباره غلقاً لباب الاجتهاد؛ بل هو موقف «محافظ»، وأن المحافظة بهذا المعنى في ظروف معينة كانت ولا تزالُ موقفاً إيجابياً، وكانت ولا تزالُ تؤدي وظيفة «مقاومةٍ» لضغوط الانحراف عن الأصول وتبديدها بدعوى التجديد. لا أجادلُ في جدوى الدعوةِ الى تجديد «الخطاب الإسلامي»، ولكن مجادلتي في أن تسييس هذه الدعوة يفسدُها ويعطلها، وقد يقضي عليها ويأتي بعكس ما هو منشود منها. ذلك لأن من أهم شروط نجاحها هو: أن تكونَ حرةً، وغير مرهونة بمطالب سلطوية آمرة، ولا مضغوطة بترهيب فكري مضاد ومعاند.
ما أجادلُ فيه هنا هو: أن نمو المطلبِ السياسي لتجديد الخطاب الديني/الإسلامي ضرره أكبر من نفعه، ومآله إلى تعزيز النزعة المحافظة كما أوضحتُ آنفاً. ويساعد على نمو هذه النزعة ما درج على ترديده «الوضعيون» والسلطويون معاً من أن الخطاب الإسلامي له مجال «مقدس» خاص به، وأن للسياسة مجالها «المدنس» الخاص بها. ومثل هذا القول(الزعم) عندما يسمعه العالِمُ الراسخُ في علمه الأصيل، المعدودُ من ورثة الأنبياء، والمنتظرُ منه الإسهام في عملية التجديد؛ يدفعه دفعاً إلى الريبة أكثر فأكثر من الاستجابة لهذا النداء أو المطلب؛ خشيةَ أن يتسرب دنسهم إلى المقدس الذي ينهض هو أميناً عليه.
ثم إن هناك إشكالية أخرى ـ وليست أخيرة – وهي: تناقض المسلمات الفكرية للحداثويين والماديين ولأغلب السلطويينَ في بلادنا مع ندائهم بالتجديد الفقهي والفكري في الخطاب الإسلامي. فدعوة التجديد تفترض – أولَ ما تفترضُ – أن الفكرَ هو مبتدأ الحركةِ والفعل، وهو موجهُ السلوك ودليل التطبيق؛ فإن صحَّ الفكر وكان صواباً؛ صحت الحركةُ، وترشَّد السلوكُ، ونجحَ التطبيق، واستقامت شؤون الأمة في ذاتها وفي علاقاتها بغيرها من الأمم. وإن انحرف أو حاد عن جادة الصواب؛ اضطربت الحركة، وضل السلوك، ونمت ظواهرُ العنف، والفوضى، والانقسام، وعدم الاستقرار، والتخلف؛ وآل أمرُ الأمة إلى الخسران.
وهذا الافتراض يتسببُ في مضاعفة التعقيد والارتباك في شأن عملية تجديد الخطاب الديني/الإسلامي، عندما يتبناهُ أصحاب الاتجاهات الجدلية المادية، وأنصار الفكر الوضعي بعامة، أو «الحداثويون» بخاصة. فهؤلاء في أغلبهم؛ يؤمنون بأسبقية المادة على الفكرة، ويعتقدون أن الفكرةَ نتيجةٌ وليست سبباً لجدليات المادة وتفاعلات قوى الإنتاج وعلاقاته. وعليه: لو أن لمثل هذا الافتراض من رافضين ومعاندين؛ لكانوا هم أولئك الماديين الجدليين أو الوضعيين والسلطويين أنفسهم، لا غيرهم. ولا يدري هؤلاء أن اصطفافهم خلف السياسيين في المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ يضعهم في تناقض معرفي صارخ مع ما يأمرهم به اعتقادهم المادي/الوضعي. وتصل حماسة هؤلاء لهذا المطلب إلى حد أنهم يعتقدون في أنفسهم المقدرة على ممارسة هذا التجديد المنشود في الخطاب الديني الإسلامي، ومن ثم لا يتأخرون عن تقديم قراءات تضحك من لا يضحك، وتبعث على الرثاء من فرط طيشها وعشوائيتها.
مقصد تجديد الخطاب الديني هو: إنتاج معرفة جديدة مرتبطة بالأصل ومتصلة بالعصر وفق التعبير الأثير للشيخ عصام البشير رئيس مجمع الفقه السوداني؛ كي تساهم في حل مشكلات الواقع. والشرط الأول لإنتاج هذه المعرفة هو: الحرية. والسلطة مهما كانت؛ هي «ملذوذة لذاتها» كما قال ابن خلدون، ولا يزعجها شيء أكثر من الحرية؛ فمن أراد تجديد الخطاب الديني فعليه بالحرية أولاً، أو ليصمتْ.

المصدر: الحياة