التطبيع.. دوافعه وأسبابه

التطبيع.. دوافعه وأسبابه
Spread the love

بقلم: محمود موسى مصطفى |
كل إشكالات التطبيع مع العدو الصهيوني سواءً كانت سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو غير ذلك هي خيانة عظمى لا مبرر لها، بعد عصور طويلة من الصراع الدموي العربي ـ الإسرائيلي سقط خلاله الملايين من الشهداء والجرحى والمعاقين، واغتصبت أراضي وأوطان وهجروا سكانها العرب قسراً لدول الشتات، فلماذا يهرولون بعض قادة العرب للتطبيع مع العدو الصهيوني؟
لاشك أن هناك ثغرات دفعت ضعفاء النفوس بقيادة أنظمتهم نحو عملية التطبيع مع إسرائيل، مع العلم بأن شعوبهم بريئة من أفعالهم الشنيعة، ومن أهم هذه الثغرات: عدم وجود أي مشروع قومي عربي نهضوي يحقق آمال وطموحات الأمة العربية ويلزم جميع الأطراف المعنية بتطبيقه والالتزام بمعاييره الوطنية والقومية، وينهي دور وعمل أصحاب المشاريع الرجعية والامبريالية والاستعمارية، ويحافظ على حدود الدولة العربية وكيانها واستقرارها كدولة واحدة حرة مستقلة، فالأحزاب التقدمية والثورية التي ولدت من رحم الأمة العربية لم ترتقي إلى المستوى النضالي الحقيقي للمجابهة مع أعداء الأمة العربية لا داخلياً ولا خارجياً، وفشلت هذه الأحزاب بعد رحيل قادتها ومؤسسيها وهي عاجزة عن إعادة بناء وإصلاح نفسها بما يتواكب مع التطورات الحالية في جميع المجالات.
وفي نفس السياق عُلقت آمال كثيرة على جامعة الدول العربية وفشلت الأخيرة في جمع العرب على كلمة واحدة ولم يكن باستطاعتها احتواء وحل الخلافات والنزاعات العربية المتجذرة بين أنظمتها، مما أدى إلى المزيد من التجزئة وهرولة تلك الأنظمة باتجاه الدول الاستعمارية القديمة الحديثة، ومن نتائج وتداعيات هذا التشظي الخطير كانت زيارة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إلى إسرائيل في السبعينات من القرن الماضي وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978م وخروج مصر من الصف العربي مما أنعكس سلبياً على وحدة الأمة العربية وتضامنها بشكل عام وعلى القضية الفلسطينية ومسارها الثوري بشكل خاص، ومع ذلك كله مازالت هناك بعض الشخصيات السياسية العربية ومنها الفلسطينية لا تعتبر ما قام به الرئيس السادات بأنه خيانة عظمى، وبخصوص العلاقات السرية بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل كانت موجودة من قبل زيارة السادات لإسرائيل، ولكنها كانت تتم بالسر والكتمان، أو عبر وكلاء ووسطاء لهم.
وفيما بعد أحدثت إسرائيل خرقاً سياسياً وشرخاً كبيراً في الأمة العربية عندما خدعت المجتمع الدولي والعربي في مؤتمر مدريد للسلام الدولي في الشرق الأوسط عام 1991م، والذي دعت له الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في تلك الفترة، حيث فرضت إسرائيل شروطها باستبعاد منظمة التحرير الفلسطينية من المؤتمر المزعوم وعدم الحديث عن أي دولة فلسطينية أو حق تقرير مصير للشعب الفلسطيني، وتم التمثيل الفلسطيني الخجول بدمج شخصيات فلسطينية من الأراضي المحتلة بالوفد الأردني المفاوض، وانتهى المؤتمر وعاد المؤتمرون العرب إلى بلادهم بخف حنين، بعد أن اعترفوا بدولة إسرائيل ورفعوا شعاراتهم الرنانة “إن السلام هو خيار استراتيجي” لدولهم، بينما انفردت إسرائيل بالحلقة الأضعف وشطرت الفصائل الفلسطينية عن بعضها البعض وعقدت اتفاقيات ومشاريع مستقبلية مع منظمة التحرير الفلسطينية ومن أشهر هذه الاتفاقيات “اتفاقية أوسلو” وغيرها. وتخلت منظمة التحرير الفلسطينية فيها عن سلاحها وثورتها، ولم تحقق انتصاراتها المطلوبة بسحق العدو واستعادة جميع الأرضي المغتصبة، وهرول قادتها وراء حلم زائف في بناء دولة على مقياسهم، وفيما بعد خسروا الثورة وخسروا الدولة وضاعت أحلامهم وأحلام الأجيال الصاعدة في مهب الريح.
ودفع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات حياته مقابل موضوع التنازل عن القدس، وحتى تاريخه لم تكشف لنا السلطة الفلسطينية الموقرة عن هوية قاتله ومن الجهة التي وراءه، وفي هذا السياق ظهرت السيدة سهى الطويل أرملة المرحوم عرفات بعد غياب طويل وأجرت حديثاً مع الإعلام الإسرائيلي منذ أيام قليلة وهي تهدد رموز في السلطة الفلسطينية وتعتذر لدولة الإمارات على ما حدث في فلسطين المحتلة من احتجاجات على التطبيع بين البلدين الإمارات وإسرائيل، وهذا الظهور للسيدة سهى له دلائل وخلفيات يجب إعادة التفكير فيه ومعرفة خيوطه.
وعندما استلم مقاليد الحكم الرئيس محمود عباس (أبو مازن) وأصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، كانت أول انجازاته وقف هجمات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل وأمر قوات الأمن الفلسطيني بالتصدي للمخططين والمنفذين لها، ونحج الرئيس عباس بانتزاع وعد من حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية بوقف إطلاق النار، وبعد أسابيع قليلة أجتمع السيد عباس مع آرئيل شارون وأعلنا الهدنة بين الطرفين.
لا شك أن النزاعات الداخلية قد أثرت في البيت الفلسطيني مما أدى إلى أضعاف القضية الفلسطينية وهمشت أمام الشعوب العربية وفي المحافل الدولية، وأفقدها معايير الثورة الحقيقية التي تليق بفلسطين وشعبها، وانهمكت الأكثرية من القيادات الفلسطينية لجمع المال والثروة من خلال المساعدات العربية المقدمة للشعب الفلسطيني، لتذهب إلى جيوبهم ودعم مشاريعهم الخاصة وعيش حياة البذخ والترف والرفاهية على حساب دماء الشعب الفلسطيني الفقير.
وهذا ما أشار له بطل الثورة الفيتنامية المعروف الجنرال جياب عندما زار أحدى العواصم العربية والتقى مع قيادات فصائل ثورية، وشاهد حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها قادة تلك الفصائل، وقارنها بحياته مع ثوار الفيتكونغ في الغابات الفيتنامية، وقال لتلك القيادات الثورجية، “من الصعب أن تنتصر ثورتكم، وسألوه لماذا؟ وكان الجواب: لأن الثورة والثروة لا تلتقيان، والثورة التي لا يقودها الوعي تتحول إلى إرهاب، والثورة التي يغدق عليها المال تتحول إلى لصوص ومجرمين”.
وحول الاتفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي لا يستحق كل هذه الضجة فهو ثالث اتفاق بين الدول العربية وإسرائيل، فكانت البداية مع مصر عام 1978م وثم الأردن عام 1994م، ومن المتوقع أن تكون البحرين الدولة العربية التالية التي ستطبع مع إسرائيل بعد قرار اتخذته السودان برجوع خطوة إلى الوراء، وكل هذه الترتيبات لم تأت من الفراغ بل كانت مدرجة سابقاً من ضمن بنود “صفقة القرن”، وهذا ما أكده وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي بن عبد الله عام 2018، عندما قال: “ربما حان الوقت لمعاملة إسرائيل بنفس معاملة الدول الأخرى”.
كان يجب على الأحزاب والجبهات والحركات الفلسطينية المعنية بالنضال والعمل الثوري أن تتمسك بسلاحها لغاية تحقيق النصر ومن ثم تبدأ بعدها مرحلة بناء دولتهم الحضارية الحديثة، ومع ذلك لم يفت الأوان والعودة إلى الطريق الصحيح وبناء إستراتيجيتهم المستقبلية من جديد لتحقيق الحلم الفلسطيني، وهذه مسؤولية الأجيال الصاعدة المخلصة لقضيتهم ولوطنهم، وبعدها ستعيد الدول التي لجئت إلى التطبيع مع إسرائيل سياستها وستتراجع عن كل خطوة قامت بها، أما القيادات الحالية فأكثرها أصبحت مجرد أوراق محروقة ولا فائدة منها ولا نرجو منها خيراً فإستراتيجيتها معروف ورحيلها أفضل من بقائها.