إلى صديقي “التنويري”.. لا تنخدع بوَهَج المستنقعات

إلى صديقي “التنويري”.. لا تنخدع بوَهَج المستنقعات
Spread the love

بقلم: د. محمد سعيد المخلافي* |
أخاطبك بالصديق لاحظ هذا. وفوق ذلك، اِعلم بأني أُشايعك المعتقد لكن بالماهية الصحيحة للتنوير الواجب، بمنأى عن البساطة والخطابية الإعلامية أو التسويق الإصطلاحي بمحتوى (تلفيقي) وشيء من تكنيك خيالي رومانسي؛ يُظهر التنوير شكلاً من أشكال التقوى، حاملاً للخلاص التام ومبشراً بفجر التقدم والرخاء.. ومعاني أخرى أقل من حيث الأهمية النظرية داخل الجهاز المفاهيمي الاستهلاكي المرتبك؛ والذي لا يخلو للأسف من ذميم معاني ليس أثقلها المناورة وليس أبعدها التخريب.
ومن الثابت والصحيح يا صديقي، أن لا أحد يستعجل رحلة الخلاص التام إلى السماء أو بالأحرى لا يثق بالنهايات السعيدة داخل أو قبل النجاة فعلياً من الأخطار المحدقة. ومن الخطأ الاعتقاد بكفاية حشد المشاعر والإسراف بالتمويه والخداع كأسلوب للتأثير على القناعات من دون استلزام منطقي. وكذلك الاعتقاد باضمحلال وعي الكافة أو عدم جدارته في إدراك مشتبهات الأمور أو تحري صدق اللافتات، وعجزه عن تقييم كفاءة التوفيق الفلسفي بين العقل والنقل._ بفرض أن هناك نهجاً (توماوياً) يسلكه” التنوير “الذي تعنيه _أدري بأن هذا ما تستوعبه جيداً كتمام وعيك يا عزيزي بأن نفوس الأسوياء لا تُعنى بالبشارات العظمى وحاجاتها الضرورية لم تشبع بعد.
وأكثر من هذا يا صاح، أجد” التنوير” بنسخته الإنشائية التي تدور في مكانها، ووحدته المبنية على أساس غير معقول، يحفل بالعديد من الدلالات السلبية التي تلتقي حول معاني الإيهام، والاستثمار، والتسخير. وتتزاحم مع بعضها لصناعة المستهلِك الفكري “المؤسلب”؛ وبنَفَس تقليدي يماثل الضِد في ادعاء تملك المعرفة والتعلق الرهيب بالحقائق المزعومة؛ ويتحد معه في منهج “الاستمساك” كأساس ليس للمعرفة فقط ولليقين أيضاً! كما يناظره في غياب الرؤية الإصلاحية وبخاصة تلك التي تتمثل الواقع الكارثي ما دام الاستبداد وسُبل تكريسه المتتالي. الحال المتآلِف على الدوام مع تخليق مجتمع القطيع العاجز عن ممارسة التفكير مطلقاً أو بصوت مرتفع في أحسن الفروض بين جموع سدنة الاستبداد المخلصين وعلى مدى الدهر.. الحصيلة التي تظهر لي حاسرة عن إرادة تثبيت “التنوير” الراهن، كدور ومكانة بوجه قطعي(لا برهاني) يناقض المسار التحرري المفترض للتنوير الحق، وبنحو وظيفي(غير ضروري ) يتقاطع مع حساسية الظرف الزمني والمكاني كأدنى مأخذ. هذا مع افتراض حُسن النوايا واستبعاد كونه جزءاً من نشاط كلي “مهماتي”، الأمر الذي أجده يتماثل شكلاً وأسلوباً مع الدور الذي تم ترسيم أبعاده “لرجل الدين الإسلامي”، _ التضليل الذي أتعبد الله بإنكاره ومناهضته _وبذات الروسم المهيمن، وحاصله مرتبة اجتماعية محتلة بلا منافسة وبلا منجزات.
والأدهى من ذلك كله، هو ذاك الاقتران الذي ينكشف لك حال إمعان النظر بين التنوير_ بشكله الأعم الرائج _ وبين من يدعيه خصماً من جميع الجهات والنواحي، حيث يلازم “التنوير” نفس الحيز الأثيولوجي، بالمرافق ذاتها!،_ وذات المنافع ربما _فلا يمكن التماسه خارج الحقل الدلالي (للاهوت المُنزل) ودون أدنى أثر دال على توجه عِلمي يُجَّوز إدراجه في خانة (اللاهوت الطبيعي) أو اعتباره على (حال لاهوتية) متميزة وإن طفيفاً عن خصمه المفترض؛ حيث أنه الآخر تقوم رؤيته على إرجاع الظواهر إلى (علة مفارقة)، متخلفاً بهذا من حيث الخط العام ودرجة المحاكمات العقلية عن (المعتزلة) كفكر اقترب كثيراً من التفسير الوضعي.
إذن لم تسعف “التنوير” الراهن عبارته التراثية الأثيرة “هم رجال ونحن رجال” لمجاراة من يعتبره الأصل التاريخي، وظل قابعاً في دائرة اللاهوت المنزل، لا يختلف عن خصمه المُعلن سوى في درجة قداسة النص. فلا يرى “التنوير” قداسة لغير الذِكر الحكيم. ولا يعد هذا فارقاً داحضاً لتصنيفه على هذا النحو أو تمييزه لُبَاباً خارج المدلول(الأصولي) للنسق البروتستانتي الذي نادى بالعودة إلى النص النقي. وإن كنت غير متأكد من أن هذه المقاربة مثيرة للاهتمام لكل من يقارب “الأسلمة “السلفية بالمعنى الكاثوليكي(التمامي) ويرى فيها تسلطاً إكليريكياً بزِيّ كنائسي يحتفظ في جيوبه جميع(الأسرار) أو بعضاً منها. كما أعلم بأن البعض ينزعج كثيراً من التدبر في السوسيولوجيا الغربية اذا كان الغرض التحذير والاعتبار لا التمجيد والانبهار. لذلك دعك من هذه المقاربة إن شئت، ولنلتفت معاً إلى ما هو حاصل؛ مع أنني لا أظن أحداً يستطيع أن ينكر تمسك التنوير بمسألة نقاء النص دعامة ومُنطلقاً للمحاججة، ومنه تولد الربط الشائع _ غير المنضبط _بين كلمة التنوير وكلمة(القرآنية).
ولمن قد يحدثه قلبه_ المليء بالإيمان والفطِنة _ بفساد الطوية وسوء النية من وراء قولي السابق، أتوقف هنا لأعلنها صراحة، بأنني لا أشكك بنقاء القرآن وأتيقن بكونه محفوظاً من قِبل الله الذي نزّله. كما لا أعيب التنوير البتة بهذا، إذ لا يمكن بالأصل تصور التنوير الديني عبر أمور أخرى غير آليات، وأساليب، ومصادر الدين ذاته. وإنما قصدت بهذا بيان أن” التنوير” وإن كان يفترق شعارات وأطر نظرية جذابة، فإنه ينتظم صميماً مع (التقليدية). وهذا أمر مرفوض بالنسبة لمن يصر على التمسك بصحيح التنوير وبغاية النهضة الذي يحدوها؛ ويدخل في عِداد الأمور المحسوبة على “التنوير” الحاصل؛ والذي من أفدحها_ حسبما أرى جلياً _عرض التنوير بظاهر رفض سيطرة الكهنوت وباطن رفض سيطرة الدين ذاته؛ لا يسلم أصحابه من مظنة دناءة الغرض أو قرينة السقوط في حمأة الشهوات والتفسخ الأخلاقي بذريعة الانضواء تحت السقف الحضاري الغربي العالي والنهائي، الذي متى ما عارضته من منطلق أخلاقي خالص توصم بالجهل وبالرجعية وحتى بالإرهاب، بحسب علو صوتك المعارض ومداه.
يُستغل في ذلك النفور العقلي من نسخة دِين مشوهة مغرضة أوصلت الأمة إلى ما هي عليه اليوم من انحطاط وتخلف، بل واحتراب بصبغة دينية تخبرك بصدق حاد وصراحة مُرة عن مدى الإيغال في الظلامية والسلبية بإزاء المؤامرات المحاكة ضد نقاط القوة. يحدث هذا تحت الشمس يا عزيزي. على بعض رقاعنا الحمقاء المكتظة بالدُّمى التافهة.. فلا يتوجب عليَّ تأكيده ولا يسعك نكرانه. كما لا أخشى احتساب الحديث جملة من الاعتقاد المستهجَن بنظرية المؤامرة. والذي أُجاهر بمعتقد وجودها _ هنا _إذا كان تصريحي هذا يسعدك بالقدر الذي تشقيني الغفلة وإمضاء التآمر بصورته المكثفة والاستراتيجية والذي وجد فينا ميداناً مناسباً لتطبيق النظريات. وفي هذا الإطار، تجدر الاشارة إلى أن علم الاجتماع السياسي يؤكد على أن الحروب والاضطرابات تعد عاملاً فاعلاً لتبديل الأنظمة الفكرية؛ إذ تؤدي إلى ظهور قناعات تنقض بسهولة _لخصوصية الظرف _قناعات قديمة وتحل محلها. والآن ألا يبدو منطقياً من وجهة نظر صديقي، استنتاج القناعات المستهدفة من الحروب الراهنة، بأنها (العقيدة) وكل ما لا يقبل الشك.. أو لنقل الدين بالمعنى الرائج للكلمة بلا توعر إصطلاحي. وهنا استسمح صديقي، بأن أفترض جدالاً من بداية السطر، أي بخصوص فرضية المؤامرة ذاتها. فليكن سأقبل _على مضض _ بأنه لا وجود للمؤامرة إلا في رأسي، ولكن يظل الرأي العلمي السابق بمثابة لازمة منطقية برهنها التاريخ وأيدتها تجاربه، الذي يتعين قراءتها وفقاً (لمنطق العلاقات). ولن يتطلب الأمر منك طويل استقصاء (فحرب الثلاثين) كحدث تاريخي وتجربة إنسانية، تعتبر أكثر من كافية في هذا الصدد بلا عميق تأمل أو تقليب وجوه النظر.
أخالك ستقول معترضاً، بأنه لا محل للمقارنة من أصل دلالة الحدث الأساسية، حيث أن الإسلام لا يمنح أياَ كان (سلطة تعليمية) ولا يوفر بالأصل مناخاً لميلاد (لوثرية) إسلامية. أجل، هذا صحيح تماماً، لكن من زاوية أخرى هناك حروب على وجه الحقيقة، يستعمل فيها الدين كوقود يكفل ببقائها مشتعلة. لا تستهدف توطيد أية أسس قيمية وتتبدى نتائجها الفعلية في الاستغلال العقدي والاسترزاق الديني وأصنافاً منحطة من الانتفاع، في واقع تجذرت فيه المآسي وامتد غصوناً سوداء إلى الأفق المظلم الذي يُراد إنارته على نحو توتولوجي بأناشيد الأسى وترانيم الحزن، وبهالة إيحائية ومعنى إشاري مفاده هزيمة الإسلام كشرع وكمِلّة؛_ ولعل الأخيرة هي المستهدف الرئيس _وبأنه قد آن أوان انسحابه من حياتنا الذي لا شأن له بنظمها وشؤونها. وليفسح المجال بهذا لعهد الرغد والسعادة. وذلك على غرار التجربة و”النموذج “الغربي لزاماً غير مُسلَّم به وقياس ما لا يقاس، حيث لا شيء ينم عن عامل “نهضوي” ولو في طور التشكّل مع حاصل التنافر المعرفي للتغيير بالنسبة لنا كأُمّة واقعة في حبائل الحس المشترك والميل النهائي الدوغمائي للذوق والنظم الاجتماعية. وإن فرضنا جدلاً إمكانية الاستنساخ بعصا سحرية أو بنحو ذلك، صدقني لن يكون الناتج إلا مسخاً مخيباً للآمال وزائد شناعة منظر ترى فيه “قيصرنا” يحتاز كل شيء وليس لله شيء.
ثم إننا يا صديقي نتفق على ضرورة التنوير وكلانا يتابع مجرياته قطعاً؛ وهنا لن أحدثك عن مقابح الميل الانفعالي، والتأملات العابرة، ولا عن مساوئ التصورات المبعثرة، وشتات الآفاق. ولا مزيد من التعليق أيضاً بخصوص الحساسيات والمصالح الخاصة والمآرب الضيقة. لن أفعل هذا، سأسلك فحسب ما قولك في ذلك “التنوير” الراشح بالتزمت والمستميت دفاعاً عن كل اجتهاد خاطئ ما دامه رافعاً شعار “التنوير”. أبمثل هذا يُشق الطريق إلى منتهى التنوير أو أقله يلفت الأنظار إلى ضرورته كبديل رمزي؟!. وأبشع منه، ذلك الحال الذي يضفي فيه أحدهم على نفسه صفة” المتنور “لمجرد أنه يناصب الرميم العداء ويُظهر التحقير لفلان الفاني والتبرؤ من علان الميت.. في مقابل ابتلاع الألسن أمام فظاعات الحاضر وتغوّل الأنظمة الفاسدة المستبدة!.
وبالمناسبة، ألا ترى معي من جهة أخرى، بأن السبيل إلى لملمة شمل الأمة ورأب صدوعها يبدأ من التصالح مع التاريخ والجغرافيا وبعكسه تعمل المواقف العدائية ضد التراث القابل بالأساس للتحوير والتعديل!، والجامع الذي يقوم به معنى الأمة الذي يستحيل على أي منها النهوض من عثراتها، بالاستعاضة عن معاييرها الخلقية والفكرية بأخرى لا تستند إلى قيم صالحة، أو بتنكر أفرادها للطبع والأصالة ومعالم الهوية، واعتبار آلامها مجرد موضوع للتعبير الغوغائي المثير للغثيان.
وما أكثر البلايا في غير وقتها يا صديقي، وقد كف شرها عن بعث الضحك واكتفى فقط بإثارة الغثيان. كحالتي كلما لاح ذلك “التنوير” الدَعِيّ الذي أملته الخصومة_ غير النزيهة _مع مُكوِّن سياسي يدعي اختصاصه بالإسلام “تمصلحاً” ونفعية. وأحسبك يا صديقي أفضل من أن لا يعتريك الغثيان أنت أيضاً عندها وبحيال باقي الصور المنتنة الذي لا يتسع المقام لحصرها جمعاء واقتصرت على ذكر أشدها شيوعاً؛ وما خلاها، فإن سؤالاً منطقياً يفرض نفسه عن جدوى “التنوير” المنشغل بالقضايا الفنية النصوصية، وإن أظهرها على خلاف موروث اقتضاه السياق التاريخي و(السقف الثقافي). فالحقيقة هي أنني لا أهتم بتاتاً بهذا المحصول الذي لا يفيدني بشيء علمي به ولا يمسني الضر إن جهلته، وذلك لكوني مُسلِماً لا غير، وشأن كل توحيدي_ حتى العُصاة منهم _لي أنساقي الغيبية، فلا توجد أية تساؤلات كبرى مصيرية تؤرقني ويهمني الإجابة عنها. كما أنني _ ولله الحمد على العافية _لا أحمل نفساً مرتابة غير مطمئنة على الإسلام وعلى قناعة بأنه أعظم من أن تطاله الشبهات.
ولأن الوقت يضيق عن الحفر الأركيولوجي في التنوير منشأ وعاقبة،_ ومدى صلته (بالعدمية) وليداً واِبناً باراً _لذلك سأكتفي ختاماً بتلخيص قناعتي، وهي أنه لا يمكن قبول التنوير من دون تقييمه بمسطرة النتائج العملية والإيجابية أو أن يُعد على الأقل وبحق مساهمة جادة في حل المشكلات وإزاحة العوائق في سبيل الإصلاح ولو ببعض ما يحيل إليه هذا المصطلح، وبما يقطع خصوصاً مع مظاهر الفساد والتردي السياسي. وهذا مختصر ما أرجو أن تعقله يا صديقي العزيز، لكي لا تجد نفسك بعد أن جذبك الوهج عالقاً في المستنقع الوبيء، مصاباً بحمى التقاعس عن محاربة ما تستطيع تغييره، ومستغرقاً في هذيان الإصرار البليد على أن الدين أساسه العقل، وليس أمراً آخر يسمى الوجدان وللعقل مجال فيه فحسب. وهو الشيء الثابت يقيناً ولكن أكثرهم لا يعقلون.
*كاتب وأكاديمي -اليمن.