د.لبانة مشوح: المبدع هو نتاج تراكمي.. وعلى المبدع أن يجد نفسه

Spread the love


دمشق – خاص “شجون عربية” – حوار فاطمة الموسى|


العطاء الثقافي لا يزدهر إلا في مناخ اجتماعي وفكري وأدبي مناسب. ويبدأ الإعداد لخلق هذا المناخ وتهيئته في البيئة التي ينشأ فيها الفرد.
كيف تؤثر البيئة الثقافية على دور الفرد وعطاءه؟ ماهو الدور الثقافي الذي تهدف إليه وزارة الثقافة؟ أسئلة تختلف الإجابات عنها والمقاربات لها، في حوار مع فكر ثقافي وذهن منفتح على العالم، من بيئة ثقافية وأسرة أديبة نشأت منها الدّكتورة لبانة مشوح الأستاذةُ في جامعةِ دمشق وعضوُ مَجْمَعِ اللُّغَةِ العربية، أجرت معها مراسلة مجلة “شجون عربية” هذا الحوار:

بداية حدثينا عن مسيرتك الثقافية، وماتأثير البيئة الثقافية التي نشأتي بها؟ الحقيقة أن البيئة التي ينشأ فيها المرء والعادات التي يكتسبها ممن حوله، والقيم التي تمنحه إياها الأسرة أولاً والمدرسة ثانياً لها أكبر الأثر في تنمية شخصيته، هذا أمر أصبح متعارفاً عليه. لكني أستطيع أن أنقل لك تجربتي الشخصية، أنا والدي أديب وعمل في الإعلام وكان من مؤسسي قسم اللغة العبرية في الإذاعات الأجنبية لإذاعة دمشق، وكان يكتب يومياً للبرنامج العبري الذي يبث إلى الأراضي المحتلة، فيخاطب الآخر ليس بلغة خشبية، وإنما بلغة يفهمها الآخر. هذه كانت بداياتي مع اللغة وأهميتها في الخطاب وفي التواصل، والدي كان مديرالثقافة والإعلام في وزارة السياحة لفترة طويلة من الزمن، وأيضاً كان من مؤسسي وزارة الثقافة. كان كل يوم يذهب إلى عمله في وقت محدّد ويعود في الوقت نفسه، ويتناول طعامه في ساعات محدّدة، حياة مثال للدقة والالتزام والتنظيم. نشأتُ في أسرة تقدّس قيم الواجب والعمل والعطاء. هذا طبع شخصيتي ولازمني في كل الظروف. وأنا سعيدة بذلك. النظام والالتزام من مقوّمات النجاح في الحياة. مما أثّر في شخصيتي أيضاً ما اكتسبته مع بنات جيلي من طالبات راهبات دار السلام. أمضيت كل فترة دراستي في المدرسة نفسها، تسع سنوات منها كانت راهبات الفرانسيسكان هن المسؤولات عن إدارة المدرسة وعن العمليتين التربوية والتعليمية فيها، قبل فترة التأميم. ولك أن تتخيلي التربية التي نشأنا عليها… تصوّري أن دخولنا إلى الصفوف كان يخضع لقواعد محدّدة، منها ضرورة الالتزام بالسير في الأروقة على خط رفيع أسود مستقيم يحدّ جانبيّ البلاط الأبيض ولا يُسمح لنا بتجاوزه. أمور كثيرة علمّتنا احترام القوانين والالتزام بها، فأصبح هذا نهج حياة. فضلاً عن الفكر الديكارتي الذي وسّع أفقي وجعلني أُخضِع كلّ شيء للمحاكمة العقلية، وساعدني على تنظيم أفكاري وعلاقتي مع الآخرين. نقلت لك جانباً بسيطاً من تجربة شخصية كانت ربما سببا لبعض النجاح الذي حققته في حياتي العملية، وأرى أنها مفيدة تربوياً كما على الصعيد الشخصي. أما عن الثقافة وحب اللغة فأنا كما ذكرت لك نشأت في بيت ثقافي بإمتياز، كان الشعراء يأتون إلى بيتنا لأن والدي كان ناقدًا أدبياً يحسب له حساب، فيأتون ليعرضوا عليه نتاجهم الشعري قبل أن يُنشر. كان رحمه الله يأتي كل يوم متأبطاً كتاباً جديداً على الأقل. تلك كانت أجمل هدية. كنت وأنا طفلة أراقبه وأعجب به وهو يمضي ساعات طوال في القراءة والكتابة. نشأ لدي شغف بمعرفة ما يقرأ، وما يكتب… المؤلفات التي كان يجمعها أكثر من أن يجد متّسعاً من الوقت لقراءتها. فضولي كان كبيراً لأكتشف ما فيها. كنت أقرأها بنهم، فتكوّن بذلك زادي اللغوي، واغتنى فكري، وامتلكتُ سليقة لغوية لم تكن عند غيري ممن هم في مثل سني. التأثر في البيئة الثقافية
للغة العربية سحرها. عندما نقرأ الشعر العربي نشعر بأن هناك شيئاً وجدانياً مشتركاً، لغةتلامس الروح والوجدان، أكثر مما تخاطب العقل. ربما تكون المعاناة مشتركة، أو ربما هي الثقافة التي توحّدنا، أو لعلّها البيئة أحياناً، أو أنها اللغة بكل حواملها ومكوّناتها وما تنضح به هي ما يحرّك فينا تلك المشاعر. هناك دون شك هوية ثقافية تجمعنا بالرغم من كلّ اختلافاتنا ربما الدينية والثقافية والعقائدية والفكرية… ولعلّ لغتنا العربية هي من أهمّ مكوّنات هذه الهوية الثقافية، وهي الحامل لفكرنا، وصونها وتطويرها لتستوعب علوم العصر بكل فروعها إنما هو حجر الأساس في توطين هذه العلوم، ومن ثم الانتقال بالفكر من مرحلة النقل إلى مرحلة الابتكار..


ماهو سبب عشقك للغة العربية؟*
ربما لأنني نشأت وقد ترسّخت في نفسي مبادئ القومية العربية، العروبة أساس ثقافتنا، واللغة العربية هي أحد مكونات هذه الهوية القومية، ولا نستطيع أن نكون عروبيين دون أن نعشق اللغة العربية.
*هدف وزارة الثقافة السورية إيصال الثقافة إلى كل ركن من أركان سورية
عندما نقول هدفنا أن نصل إلى كل ركن من أركان سورية، وكل نقطة من سورية هذا واجب علينا أن نضطلع به. أحدثت وزارة الثقافة في هيكليتها العامة وأهدافها الحالية في الستينيات لتحقيق عدة أهداف من بينها نشر الثقافة وتعزيز الهوية الوطنية والانتماء الوطني والقومي. لست الآن في وزارة الثقافة، لكنني لا أزال في قلب العمل الثقافي. لذا سأسمح لنفسي بأن أجيبك استناداً لما كنت أفكر فيه عندما كنت وزيرة ثقافة…
من الطبيعي أن يعمل من في الوزارة على تحقق الأهداف التي وجدت من أجلها. نعم، أحد الأهداف التي نسعى لتحقيقها نشر الثقافة في كل ركن من أركان الوطن. أمّا عن كيفية تحقيق ذلك، فلكلّ أسلوبه وأدواته. لكن هل الأدوات التي نتبعها تفيد فعلاً في تحقيق هذا الهدف؟ هذا أمر آخر..ماهي خططنا الاستراتيجية وخططنا المنظورة وخططنا المتوسطة المدى لتحقيق هذا الهدف.. هل هناك خطط أصلاً أيضاً هذا أمر آخر. فضلاً عن أنّ لكل مرحلة ظروفها وهذه الظروف لا خيار أمامنا إلا أن نتكيف معها، وعلى هذا الأساس تعدّل الخطط وتُستبدل الأدوات، لكن الخطط الاستراتيجية التي تهدف إلى تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية فتبقى، طالما ظلت الأهداف الاستراتيجية واحدة.
وزارة الثقافة في سورية تدعم تجلّيات الفن الهادف، ولا أعني به الفن الموجه لخدمة حزب أو تيار عقائدي محدّد… بل لخدمة وطن حاضراً ومستقبلاً. ويكون ذلك بتنشئة أجيال تملك حسّ الانتماء، والقدرة على المحاكمة العقلية، منفتحة على الثقافات الأخرى، متذوقة للجمال، مهيّأة للإبداع. نشر الثقافة الهدف منه إذن بناء وطن على أسس متينة، تطوير الشخصية الوطنية، والحفاظ على التراث الأثري، والتراث المادي واللامادي، وتنمية الحس الفني، والحس الجمالي لدى أوسع شريحة من الناس. كيف نفعل ذلك وهل فشلنا أم لم نفشل؟ في الظروف الحالية من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، أولاً في مرحلة ما الدولة فقدت سيطرتها على كثير من أراضي الجمهورية العربية السورية، عندما نقول فقدت السيطرة لا نعني فقط السيطرة العسكرية وإنما نعني سيطرة مؤسسات الدولة على فروعها وعلى أدواتها، في هذه الحالة لا نستطيع أن نتحدث عن الوصول إلى كل نقطة لكن الهدف الأسمى هو الوصول إلى كل نقطة، وإلا فكيف نعزز الانتماء الوطني للفرد المتميّز في مجتمع التنوّع.
لا شك في أن للإعلام والمؤسسات التربوية دور كبير في تحقيق هذا الهدف.
ربما على المثقفين مراجعة أساليبهم وتطوير خطابهم، الأسلوب الفج المباشر لم يعد ينفع في الوصول إلى القلوب، التواصل يجب أن يكون بأساليب أخرى. وربما على المثقف ابتكار أساليب جديدة أكثر نجاعة وطرح رؤى عملية للوصول إلى المتلقي. وهنا يأتي دور زارة الثقافة والمؤسسات الثقافية التي، إلى جانب دورها في تأهيل الكوادر المسرحية والموسيقية، والحفاظ على الآثار وتوثيق التراث الشعبي وتطويره، تتعامل مع المنتج الثقافي المعاصر وتحتضن المشاريع الثقافية التي تحتاج إلى دعم لتنطلق وتصل إلى المتلقي أينما كان، وذلك عبر المؤسسة العامة للسينما، والهيئة العامة للكتاب، ومديرية المسارح والموسيقا، ومديرية ثقافة الطفل، ومديرية الفن التشكيلي، ودار الأسد للثقافة والفنون، وشبكة المراكز الثقافية المنتشرة في كل أرجاء الوطن، والمعاهد الموسيقية، والمعهد العالي للموسيقى، والمعهد العالي… .
المؤسسات الثقافية ترعى الإبداع وتهيء البيئة المواتية لتنميته. المبدع هو نتاج تراكمي للطفولة وللشباب، نتاج تراكمي لثقافة تراكمية، الثقافة بالأساس هي فعل تراكمي لا يأتي من قراءة كتاب أو من مشاهدة مسرحية أو من زيارة معرض فن تشكيلي، أو حضور حفل موسيقيّ. هي كل هذا معاً. الثقافة فعل تراكميّ، وليس فعلاً إبداعياً. على المثقف في مرحلة ما أن إنتاج ما اكتسبه ليتحوّل إلى مبتكر، ولم لا إلى مبدع.

*الدور الثقافي
الدور الثقافي يختلف من فترة إلى أخرى أو من مرحلة إلى أخرى ماهو الدور الثقافي اليوم وخاصة بعد الانتهاء من مرحلة الحرب التي أثقلت فئة الشباب؟ وكيف لنا أن نغني ثقافة هذه الفئة؟
كما سبق وذكرت، عملية التثقيف ليست مهمة وزارة الثقافة وحدها، أول مؤسسة يجب أن تقوم بهذه المهمة هي المؤسسة التربوية (وزارة التربية ووزارة التعليم العالي). على هاتين المؤسستين أن تدركا أن مهمتهما ليست تعليمية فقط، هي تعليمية تثقيفية، هي بناء عقول أجيال على أسس علمية وأخلاقية ووطنية سليمة، وليس مجرّد تعليم مهنة، أو تدريس مبادئ علم، أو نقل مهارات. ووزارة الثقافة تدعم المؤسسات التربوية بما يلزم لإغناء مكتباتها، وتزويد نواديها الثقافية ومنتدياتها ومسارحها بما يلزم من كوادر بشرية وأدوات تثقيفية.
*الثقافة في الحرب
الجيل الذي نشأ في فترة الحرب ظلم في كل شيء وليس فقط في الجانب الثقافي. البعض نشأ في زمن الحرب والآن يتحمل تداعياتها. لا شك في أن الشباب شريحة تتحمل العبء الأكبر، عليهم أن يعلموا أن بناء الوطن مهمتهم، الشريحة مابعد الخمسين قدمت ماعليها كل في مجاله، اليوم الوطن بحاجة إلى إعادة بناء وإعادة البناء ليس فقط بالأبنية، هذا جزء إعادة بناء فكر إعادة بناء نفسي، إعادة بناء مستقبل، هؤلاء هم المستقبل.
سيقدم لهم الوطن مايستطيع ولكن أيضاً عليهم أن يبادلوه العطاء أ،ن يشعروا أن هذا وطنهم، وأنهم بالعلم والعمل ينقذوه. المواطنة هي المبدأ الأساسي الذي يجب أن نتعامل على أساسه اليوم. قد نكون مختلفين في كثير من الأمور لكننا نشكل وطناً. هذا هو قاسمنا المشترك.
المواطنة فعل متبادل، هي أخذ وعطاء، واجبات وحقوق، واجب الدولة عموماً والمؤسسات الثقافية بوجه خاص أن تدعم الشباب وعليهم أن يبادلوها بما عليهم من واجبات، وأوّلها تحصيل العلم والتسلّح بالمعرفة.
ليس الشباب وحدهم هم الذين ظلموا حتى من تجاوز الستين ظلم، لأن من تجاوز الستين أعطى كل مالديه وهو اليوم بحاجة لأن يقطف ثمار ما جنى، لكن الوضع صعب على الجميع. نحن محاصرون ويراد لنا أن نركع. لكنّ شعباً صنع الحضارات، وأبدع الأبجدية، وكتب أوّل نوطة موسيقية في تاريخ البشرية… لن يستسلم للإحباط. بل يلملم آلامه وينهض
*هل لي أن أسالك إن قرأت كتب عن فكر أنطون سعادة؟
طبعاً.. عندما أقرأ للقوميين السوريين أشعر بالفخر أن هناك فكراً نيراً حريصاً على الهوية السورية .. أكثر مايعجبني بالقوميين السوريين ثقافتهم الواسعة… شباب مثقف وملتزم .. أتمنى أن يبقوا على التزامهم الفكري والوجداني والأخلاقي.
بالنسبة لي الفكر القومي السوري فكر جميل لكنه مرحلي. لا أظن بأن هناك قومية سورية .. نعم هناك سوريا الطبيعية وإنكار وجودها يعني إنكار حقائق التاريخ والجغرافيا. لكن لم يكن هناك يوماً قومية سورية، لا قبل الإسلام ولا بعده. وسوريا الجغرافية لم تكن في يوم من الأيام قومية مستقلة حتى قبل الإسلام وقبل الفتوحات الاسلامية، بل كانت عبارة عن دولة، ثقافتها عربية وإلا لماذا نتحدث العربية لا السورية، وتراثنا الأدبي عربي في مجمله؟ لغة السوريين هي اللغة العربية. حتى اللغة الآرامية والسريانية، هي جزء من المكون اللغوي السوري المتعدّد المشارب. تاريخياً، كان هناك وجود للسوريين الفينيقيين والآراميين والسريان، كما كان هناك أيضاً العرب القيسيين، لكن هل شكلوا قومية في ذاك الوقت؟ سوريا الكبرى شكلت دولة تشرذمت بفعل سايكس بيكو والأطماع الاستعمارية. لكنها لم تشكل يوماً قومية. زلا نستطيع الحديث عن وجود “لغة سورية”. الحديث عن سوريا الكبرى مشروع توحيدي لا ينبغي في رأيي الوقوف عند حدوده، بل التطلع إلى مشروع أوسع هو المشروع القومي سبيلنا الوحيد للمواجهة والنهضة الحقيقية. وفشل هذا المشروع حتى الآن وانعدام وسائل تحقيقه لا يعني عدم جدواه.
• ما هو مدى تأثير جائزة الدولة التقديرية في مجال النقد والدراسات والترجمة على مسيرتك الثقافية؟
الجائزة لا شك لها قيمة معنوية كبيرة، وهي مميزة جداً بتوقيت إحداثها، فقد أحدثت في العام 2012، أي في عزّ الأزمة والحرب كانت في أوجها. كما لو أن السيد الرئيس يقول في أحلك الظروف: علينا أن نهتم بالمبدعين والباحثين والمفكرين، وأن ندعمهم، لأن لهم دور أساسي وبخاصة في المراحل الأكثر حرجاً في تاريخ الأوطان. لأن عطاءهم ينبغي أن يستمر وأن يكونوا قدوة لغيرهم. هذه رسالة كبيرة، وأنا أعتز بهذه الجائزة التي أعتبرها تقدير من وطن بكلّ ما يُمثّل، وهي حافز لي على الاستمرار في العطاء.