التاريخ وصناعة التأريخ من العظماء إلى الهواة ومن الحيادية إلى أتباع الأيدلوجية

التاريخ وصناعة التأريخ من العظماء إلى الهواة ومن الحيادية إلى أتباع الأيدلوجية
Spread the love

عبداللطيف مشرف – باحث وأكاديمي مصر- باحث في التاريخ السياسي – جامعة أولوداغ تركيا/

التاريخ ليس حدث من الماضي وأنتهي، بل هو الحاضر بشكل مختلف وبرؤية صحيحة خالية من عيوب الماضي، ولكن من أخطار التاريخ على الشعوب أن يتم تزويره، ويكتب وينسخ وفقًا للأهواء، ومن خطورة التأريخ أن من يقوم بالتأريخ مشبع بالأيدلوجية العمياء وُيعلم هذه الأيدلوجية للأجيال كأنها هي الحقيقة فقط، والأخطر أن كل يوم يتخرج العديد من الباحثين بدرجات عالية في التخصص وهم عبارة عن ناسخين وتابعين مخلصين لمشرف التخصص، والأصعب أن يتبنى أصحاب التخصص تقسيم التاريخ، ولا يحق للباحث الحديث إلا عن فترة معينة، فيكون الناتج باحث محدود الثقافة والمعرفة فاقد لقضية التاريخ واتساعها، فإذا أردا أن تكون مؤرخ وتجعل لتاريخ قيمة فعليك التالي:
أن تتعلم من الجميع وتقرأ للجميع ولكن عليك أن تكون صاحب رأى ولك رؤية وكلمة، وليس متملق لأستاذك أو متبع لأيدولوجياته وفكره حتى تُرضيه وتأخذ الدرجة أو المساعدة في الوظيفة، فكثر هذا في عهدنا، بل أن الكثير يصفق لأستاذه ويكتب قناعات استاذه وهو يعرف الحقيقة أو له رأى مخالف ولكن لا يريد أن يظهره من أجل جلب منفعة له وكسب ود أستاذه ومن أجل تقصير المدة له وأخذ الدرجة بأي شكل من الأشكال واللقب، فأصبح لدينا جيل من الناسخين وأجيال من التابعين وللأسف الشديد هم من يرضون أصحاب الأمور فتكون لهم الوظائف والأماكن الأكاديمية والثقافية، فأصبح لدينا تابع يسلم لتابع وليس مفكر يسلم الأمر لمفكر، وناسخ ينسخ من ناسخ، فضعف المنهج ومكانة العلم وأصحابه الحقيقيين.

نري الجميع يقول هذا سرق فكرتي وهذا كشفي التاريخي وهذه معلوماتي وأنا صاحب الحقيقة كأنه هو من صنع الحدث وأصحابه، بل وكأنه هو المتحكم في الماضي وواحد منه وصاحب عقول أصحاب الحدث، هنا عليك أن تتمهل يا صديقي، فالمعلومات متاحة للجميع والعلم أجمل صدقة، فأصبحت المعلومات يملكها صاحب التخصص وغير المتخصص والمعلومات ثابتة، وعلمنا نظري وأحداثه في الماضي ثابته ومعروفة وتواريخها معروفة فأنت لم تأتي بجديد، وكما يقول الناس ما فائدة الحديث عن الماضي ونسخه و أضافات رتوش عليها لتجميلها أو تقبيحها كما تريد وكم يريد من يمسك بذمام الأمور، ولكن كيف تصنع من الحدث التاريخي فارق، وتفسير لواقع وأحداث الحاضر وفقًا لحدث الدراسة، هنا دورك، وليس دورك نسخ المعلومات من أجل أخذ الدرجات العلمية، عليك أن يكون لك رأى في كل فقرة تكتب، وتصنع منها حاضراً بل وتجعل حدث الماضي شاهد على حدث الحاضر وعلى حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتُظهر لهم السلبيات والإيجابيات والدروس المستفادة وما يجب أن يفعله الحاكم وما هو دور الشعوب، كي تشاركهم المستقبل والقرار، هنا تصنع التاريخ وتعلقه في أذهان الناس، وليس تلطم وتعُول على من نسخ منك وأنت وأنا ناسخين لماضي متاح ومعروف للجميع ولكن الكل يكتبه بطريقته وفقًا لرغباته أو وفقًا لوظيفته أو ما يريدوه منك أصحاب المقام، فهنا أنت لست مؤرخًا بل موظفًا مأجور وبراتب، وتابع جيد، وناسخ مجتهد.

أن لا تتأثر بأيدولوجيات وأفكار أستاذك أو جماعتك أو فريقك وحزبك وتقاتل من أجل اظهار عيوب الغير والمضاد لك بالفكرة، وتنشر الأكاذيب وتحور التاريخ لتجعله يتوافق مع فكر ورغبة أستاذك وفكرك وأيدولوجياتك، فالحق يجب أن تخلع كل هذا فعل وليس قولًا، فأكثر ما أستغرب منه، أن جميع من درسوا لنا التاريخ يقولون لنا هذا، بل ويؤكدون علينا تكرارًا ومرارًا هذا الكلام، ولكن الأعجب أنهم هم أنفسهم من يفعلون هذا بل ويقاتلون من أجل ذلك ومن أجل جعل التاريخ وفقًا لأفكارهم وأيدولوجياتهم ولا يدرسون التاريخ كما يجب أن يدرس، بل يجعلون ما يؤمنون به هو الحدث التاريخي المنفرد وأصحاب هذه الأحداث الملائكة التي لا تخطأ وغيرهم حزب الشيطان والعدو اللدود، بل والأكثر عجبًا أن هؤلاء هم شوامخ التاريخ، بل وأساتذته ولهم طلاب كٌثر مع الأسف، وهم يقولوا ويُدرسوا ما لا يفعلون وهذا من أكثر الأشياء التي تغضب الله قبل العباد، بل وتولد النفاق في النفوس، يقول الله تعالي ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ – كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ- الصف – 2-3 “.
بل والأعجب أنهم من الممكن أن يزورا الحقائق من أجل رضاء الحاكم وإعطاء الحق لغير أهله ويتقاضون على ذلك أموال طائلة ويكسبون الرضا من السلطة ورضا النفس بالأموال، وأعرف منهم الكثير بل شهدوا في برلمانات دولهم أن أجزاء من أراضي وطنهم لا حق للوطن فيها، وذلك من أجل كسب ود السلطة والمال، الأعجب أن هؤلاء قمم وشوامخ في المجال، ففي كل بلاد الشرق للأسف نري مثل هؤلاء الشوامخ في طول الأرض وعرضها، بل الأكثر عجبًا أن لهؤلاء طلاب يمدحون هؤلاء ويجعلون منهم شوامخ حقيقة، بل هؤلاء الشوامخ فسدة الأرض ومنافقي الزمان وعرائس المسرح، ويتاجرون بالتاريخ وأحداثه، ولم نسمع منهم الحيادية مرة، بأن أظهروا السلبيات والإيجابيات في الحدث التاريخي، ولا قدموا تفسير مرة للأيدلوجية التي يتبعونها تحمل الإيجابيات والسلبيات لهذه الفكرة والدروس المستفادة، أنما يفسرونه وفقًا لما يروه ويكسبون منه وما يؤمنون به، فهؤلاء ليسوا بشوامخ بل هم موظفي المهنة، بل المحظوظون بنفاقهم.

أقول لك أنسخ ما تريد من أحداث الماضي، فأصبحت المعلومات متاحة وبوفرة ومشاع للجميع، ولكن أكتب المعلومات بعد أن تطلع عليها من صاحب الحدث ومن المخالف لصاحب الحدث، ومن يؤيد ومن يخالف، ومن ثم أستفتي عقلك وأذكر من الحاضر ما يشابه تلك المعلومة والحدث، وقول رأيك بكل بصدق دون خوف، سواء كان رأى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي حتى ولو مخالف لنظام الدولة وفكر الأستاذ والمشرف، ما دام يحمل الصدق وشواهد الحدث التاريخي الموثقة، ويحمل رأى علمي سليم وواقع تعيشه، فلا تخاف أن تجعل من التاريخ قضية الحاضر؛ لأن الماضي إذا نسخ لا يفيد واقع شعوب الحاضر فأصبح قصة ورواية بعض الوقت تقرأ وبعض الوقت تصبح بلا فائدة ويمل منها، فخلاصة القول أجعل من نسخ الماضي حدثًا تاريخيًا واقعًا، ميت تحيه من خلال الحاضر ورأيك وواقع الناس ومشاكلهم، فأحي الحدث التاريخي بروح حدث العصر وبوعي المفكر صاحب الفكر لا صاحب الأيدلوجية.
أجعل من التاريخ قضية، لا تنساق وراء الكثير بأن التاريخ ماضي وعلم لا يثمن ولا يغنى من جوع، فالناس محقة لأن من على رأس هذا المجال يجعلون التاريخ هكذا، ويوظفونه وفقًا لما يريدوه، ويعطون الدرجات العلمية لمن يرضون عنه ومن يتبعهم في فكرهم وهواهم من الباحثين وغيرهم، أجعل التاريخ قضية أمة وقضية شعوب، ميراث حقيقي بعيوبه ومميزاته، موروث لا نخجل منه بل موروث نتعلم منه وتتعلم الأجيال من أخطاء الماضي لتفسر حاضرها وتصنع مستقبل بوعي وفهم، فمن ليس له ماضي ليسه له حاضر ومستقبل.
فمثًلا من متابع لدراسات المستشرقين يجيدهم يبحثون ليل نهار في دراسة الشرق وتاريخه بل تزويره، وبث الافتراءات عليه وعلى أحداثه العظيمة، وذلك ليضعفوا قيمة هذه الأحداث في عيون أجيال الشرق فيقتلوا القدوات ويصنعوا مادة الجدال بينهم، ويقدمون دراسات حقيقية لقادة السياسة والاقتصاد حتى يعرفون مداخل ومخارج الغرب وما هي الأمور التي تؤثر عليهم في فكرهم وحياتهم، فيأخذون القرار الصحيح في الزمن الصحيح، فأين نحن من هؤلاء وأين هؤلاء الشوامخ من الرد على هؤلاء المستشرقين وافتراءاتهم، بل الأعجب أن هؤلاء الشوامخ يأخذون مصادر كتاباتهم من هؤلاء المستشرقين ويفتخرون بذلك، ويساعدهم في ضعف تاريخ الشعوب وخلق قضايا جدلية تزيد الشعوب عدائية وتضعف الأمم، وذلك من خلال ماضي لا يعود، لا يقدمون مواد التقارب بل يتفننون هم والمستشرقين في كشف كل ضعف والغطاء على كل فخر وعظمة الأحداث ونتائجها العظيمة.
فأصبح التاريخ الآن يكتبه الهواة والناسخين والموظفين والتابعين، فأصبح عديم الفائدة إلا في أن يستخدمه أصحاب المصالح العليا ومن في يدهم زمام أمور الشعوب، في تجهيل الناس وتضليل الشعوب، وذم الأحداث العظيمة في تاريخ الأمم، وبالأخص تاريخ المسلمين، بل يضربون مكانة القادة العظماء في تاريخ الأمة، حتى تضييع القدوات ويظلون على العروش، يستخدمون التاريخ ليس لوعي الشعوب وتقاربهم بل من أجل خلق العداء والتباعد والتفرقة بين الشعوب، لا يستخدمونه لتوحيد الأمة بكافة طوائفها كما كان في تاريخ الأمة بل يستخدموه لخلق عصبية الجاهلية الأولي، فتضيع على أيديهم وحدة الأمة وفكرة اعتصموا بحبل الله جميعًا، وتضيع معانى الوحدة في أن جعلنا الله أمة واحدة، ليكون لنا العلو ولهم الخزي، ولكن نجحوا بمساعدة الشوامخ والحكام، بأن يخلقوا إعلام يفرق، ودراما تزور وتضل فكر الناس، بل مستعدون أن ينفقوا ملايين الدولارات من أجل تزوير الحقائق وسحر أعين الناس بأحداث تاريخية ملفقة بمساعدة الهواة والشوامخ، فعليك أن تستفيد من الاستشراق وتتعلم، بأن ضرب أي أمة يكمن في تزوير تاريخها وأضعاف قيمة قداوتها وإبراز الجوانب السيئة من تاريخها وطمس الحقائق والأحداث العظيمة من تواريخ الأمم، فهذه أصعب الحروب ولكن الأصعب أن من يدير هذه الحروب منتفعي الداخل من حكام وأكاديميين وهواة يكتبون التاريخ.
الآن تصطبغ فترة طويلة من تاريخ المنطقة العربية بصبغة أيديولوجية، في إطار صراعات بين التيارات الفكرية والسياسية التي ما فتئت تترك الحاضر والمستقبل لتنقب في الماضي باحثةً عن ساحات للخلاف والصراع، وكأن خلافات وصراعات الحاضر لا تكفيها.

Optimized by Optimole