فراشات الحديقة العامة

فراشات الحديقة العامة
Spread the love

بقلم: محمد اعفير |

رن المنبه كعادته في الساعة المعهودة، فقذفني صوت جرسه المزعج من سريري الضيق مرقع الثوب، مريح الوسادة. كانت لدي مهمة كل يوم لا بد من إنجازها قبل أن تشير عقارب الساعة إلى السابعة. انتصبت من مكاني، وصعدت مباشرة إلى الدور الثاني من المبنى، هناك وجدت حمامتي المطوقة تنتظر فطورها (الحبوب والذرة).
وكان من عادتي فتح نافذة الدور الزجاجية، وإلقاء نظرة متبصر على جمالية الطبيعة أسفل المنبى. كانت هناك حديقة عامة في الجهة اليمنى -بيني وبينها خمسون أمتارا- اكتفيت بالتجوال وسط أشجارها بعيناي الثاقبتان. وفي الجهة الأمامية يقع منزل فخم لعائلة شرقية بني على الطراز الإطالي، تتقابل نوافذ شقته الثانية مع الدور الثاني لمنزلنا كأن خطة هندستهما وضعت من قبل نفس المهندس..
أردت حث حمامتي على الطيران، وبصوت عجوز متعبة حاولت تقليد هديلها كي تستجيب لي لكن.. حبالي الصوتية كانت خارج هامش توقعاتي. كان الصوت الذي ذهبت معه إلى النوم مختلفا بشكل ملحوظ عن الذي استيقظت معه. بذلت ما في وسعي مرة أخرى عسى أن تخرج الحمامة وتذهب في جولة مع رفيقاتها، وأنعم أنا النظر في السكون الخارجي، وتتنعم هي بحرية مقيدة، إلى حين إتيان الآوان كي تعود في المساء لسيدها المجنون.
وأنا أنظر من النافذة ونسمات الجو الباريسي تلامس وجهي المفعم، وتنسمت الريح عند الأصيل موقظة كل إحساس جميل بداخلي، وتغريدة العصافير تتعالى في أرجاء الحديقة -التي تملأ الخضرة أمتارها- معلنة عن ظهور أول ألوان الصباح الجميلة.
الشمس تسلط ضوءها الساطع على فيالج دود القز، فتبدو وكأنها لؤلؤ منثور فوق أغصان شجيرات الحديقة العامة؛ فوق أوراق شجر التوت الأبيض.. وفوق أشجار البرتقال.
كانت العصافير تردد بهستيرية كنت أتخيلها : “حديقة إميليا العامة خضرة تطهر الروح ومتنفس يبعث الأمل في المشاعر”، وكانت الأشجار الساحرة تستطرد في كل دقيقة، وتقول : ” لقد خاب من لم يعش كل لحظة وسط خضرتي “.
كان الجو هناك مريحا للأعصاب، هادئا وساكنا للغاية. والنوم تتاح له الفرص كثيرا في أخذ عشاقه حتى وقت الظهيرة، سواء كانوا في منازلهم أو داخل أسوار الحديقة العامة يلاعبون أطفالهم الصغار فيصبحون هم الصغار لكثرة المرات التي يستسلمون فيها للنوم وسط خضرة الحديقة، ونسيمها العليل الذي يهب كل مرة في الأفق، مداعبا سماء الأرض فيرقص أزهارها الفتية.
حقا إن الجو هادئ هنا..! وفي الحديقة العامة على وجه الخصوص.
طيور كثيرة .. كثيرة جدا، ومن مختلف أنواعها كانت تحيط بتلك الحديقة العامة، ولم تكن تعتدي على ممتلكاتها كما تفعل الغربان الثائرة في زمانها، وكما يفعل بني البشر في..الحق أنها تهرب من الأسوء إلى الأفضل ! ..هممم
لم أتجرأ قط على مساءلة نفسي عن السبب الحقيقي وراء توافد ذلك العدد الهائل من الطيور الجميلة إلى تلك البقعة الخضراء، ولا يخفى على الذي فطرني أنني احتفظت بأجوبة لهذا الاستفهام إلى حين تفتق جرأتي النادرة. كنت سأخجل من “إميليا” بلا أدنى شك إن تجرأت على المساءلة.. لا، بل وسأخجل من نفسي كذلك، إن ذكرتها على لساني وأسأت الظن بها.
هذا اسم حديقتنا العامة التي كانت في الماضي مستطيلا يابسا. حديقة “إميليا” يحكى أنها عمل منسق، متقن لعجوز اسمها “إميليا” قدمت من فرنسا وأقامت في أرض هذه المدينة البطحاء الصغيرة بقية عمرها. وهكذا أعيدت لها الحياة بفضل إنسانة تكاد الحياة تنعدم في محياها الذي غزته التجاعيد. فقد استحيت العجوز من الوضع، وقررت زرع نبتة كل يوم في مربعات الحديقة حتى صارت كما هي عليه اليوم، ساحرة وجميلة تستقطب عشاق الفراشات.. والفراشات أنواع..
مهلا ! ..مهلا! .. ألم يكن ذلك المكان آنذاك مكتظا بأناس أقوياء جسام، يداعبون الفراشات الحلوة، ويهممونهن، منحنون عليهن بصوت رقيق تحت ظل الشجر ؟! لماذا لم يفنوا بعضا من أعمارهم في إعادة الحياة للحديقة بدلا من الركض وراء الحشرات ؟! .. هممم .. لنستحضر كلام بطل نسيت اسمه (( إن الأبطال لا يصنعون في صالات التدريب، بل يصنعون من أشياء عميقة في داخلهم هي: الإرادة والحلم والرؤية )).
الرؤية ! .. إن رؤية “إميليا” فريدة من نوعها حقا، ولهذه البقعة الخضراء الشرف في حمل اسم إنسانة عظيمة مثلها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
كنت كلما سألني امرؤ عن السر وراء وقوفي مدة طويلة من الزمان أطل عبر النافذة الزجاجية، مثبتا بصري على اللوحة الملونة (الحديقة العامة)، أجيبه بعفوية مصطنعة، وأقول : أتخيل أنني أنتظر فراشة تصطحبني إلى ظل شجرة من أشجارها، ونقضي النهار كله هناك تاركين الدنيا وراءنا.
في يوم آخر من صنع الزمان وحبكه، استيقظت قبل استيقاظ حمامتي بقليل وقبل نباح منبهي بكثير. لم يكن نومي تلك المرة عميقا للغاية، بل أحسست أنني طويت ظلمة الليل في طرفة عين. قيلولة الظهيرة في الليل أو ما شابه ذلك .. قصدت النافذة من جديد لألقي التحية على الطبيعة في أبهى صورها.
استقبلت أذناي أول تموج صوتي، وسمعت صوتا رقيقا يثير الانتباه ويجذب القلب : ” ألوو..ألووو..رد علي يا ابن الفاسقة..رد علي..”. نسيت أمر الطبيعة الخلابة يسارا، وأدرت وجهي إلى الجهة اليمنى بسرعة. بعيني المجردة رأيت فتاة شقراء تطل عبر النافذة. سددت إليها نظرة خاطفة فوجدتها جامدة كتمثال منتصب لا تتحرك سوى يدها.. وعلى سبيل الفضول، اقتلعت منظارا في جيب جاكيطتي المعلقة في معلاق الملابس، ولعنت -في مخيلتي- المسافة الشاغرة التي تفصلني عن النجم، وحسبت المنظار تكلم فقال : ” كان الأجدر بك أن تستعمل منظارا فلكيا بما أنك ذاهب لاستطلاع النجوم “.
كنت مستعدا للتعرض للسب إن اكتشف النجم أنني أتلصص به. كانت كلما سقطت خصلة من خصلها فوق عينيها -اللوزتين العسليتين- تبعدها بيدها المملوءة الطرية، مصبوغة الأظافر ويدها الأخرى تمسك ورقة بقبضة محكمة.. محكمة جدا..
وفجأة، رأيت من خلال المنظار هاتفا مشتتا على سجادة الغرفة، وعلبة دواء فوق مائدة منقوشة..كلا، لم يكن دواء بل سم الفئران..لم يكن المنظار يكذب أبدا.. أبدا. انقسم دماغي إلى توءم؛ كل شق يعارض فكرة الشق الآخر ( النجوم تموت.. كلا، بل النيازك .. قلت النجوم..كلا بل النيازك هي التي تموت). استعذت بالله وأخرجت نفسا مصحوبا بآهات فقلت: ” تموت جميعها بأمر من ربها “.
تنحيت جانبا لكي لا تشعر الشقراء المتهورة بتواجدي. كانت علامات التعب واضحة على وجهها المستدير. مسكين كنت!..بدت وكأنها لا تكترث للعالم الخارجي فكيف ستشعر بتواجدي أنا..!؟
أرجعت المنظار إلى مكانه الأصلي بعد أن شكرته، وخاطبته كالمجنون قائلا : “تشكراتي لك. أنت فعلت ما لا يقدر على فعله الجني في الفانوس، لقد سافرت بي إلى النجوم”. لم أنتهي من قول ذلك حتى سمعت كتلة تصطدم بالأرض أيما اصطدام. شعرت برعشة ألم تصعق جسدي. هنا سألت نفسي: “هل يعقل أن يكون منزل راق كذاك مأوى للجرذان ؟”. أحسست بحدوث شيء فظيع راجيا حدوث عكسه. كانت النافذة فارغة كما توقعت، وصراخ الجيران يتعالى تحت النافذة مكونين حلقة حول شيء أجهل ماهيته. هرولت خارجا من باب منزلنا مسرعا، مندفعا كالثور كي أتفقد ما حدث. اخترقت الحشد ماسكا أنفاسي، محتفظا بهدوء أعصابي، ووجدت الشقراء جثة هامدة مستلقية على بلاط الرصيف ماسكتا ورقة بإحكام مكتوب عليها : “ح..حبيب..حبيبتي السابقة..أدعوك لحضور حفلة خطوبتي يوم الخميس المقبل لأنني سأتشرف بحضورك وانهيارك أمام الواقع المؤلم”.
ارتفعت أصوات الجيران واتصل أحدهم بالبوليس، وجاؤوا إلى عين المكان حالا، وظلت التحريات جارية نهارا كاملا، أما أنا فكنت عائدا إلى مأواي بينما ظل سؤال يتردد إلي أكثر من مرة : ما ذنب النجوم لتسقط ؟ وما بال أقوام يستمتعون بسقوطها..!؟