كريستيان بونو.. ميتافيزيقا الحضور والعرفانية

كريستيان بونو.. ميتافيزيقا الحضور والعرفانية
Spread the love

بقلم: د. خنجر حمية* — لم يكن هيدغر مبالغًا حين افترض أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية برمّته كان في جوهره تاريخًا لنسيان الكينونة، لكنّه كان عليه، ليحدّد لنا طبيعة دعواه وحججها، أن يتبع مسارات جدّ ملتوية ومعقّدة، وأن يفحص بأناة ورويّة عن الأوجه التي تحقّق من خلالها مثلُ هذا النسيان، وعن أشكال الحجب المتنوعة الملتبسة، التي ما انفكّت ميتافيزيقيات كبرى تمارسها تجاه ما يكونه الوجود حين يعلن عن نفسه باعتباره كشفًا.
ولقد كان رهان فضح الانزياح، الذي أصاب اللغة التي عبّرت بواسطتها الميتافيزيقا التقليدية عن الوجود في العالم وكيفيته، رهانه الجوهري… أنفق عمره وهو يستقصي الدروب المعتمة التي رسمتها الميتافيزيقا لتضلّل، ولتنأى بنفسها عن مواجهة اللحظة التي يصبح فيها الكائن في مواجهة مباشرة مع الوجود في عريه الأكثر صراحة ووضوحًا، مع الوجود كانكشاف. لكنّه لم يكن بمقدوره، وهو الآتي إلى مشروعه من تراث جدّ ملتوٍ ومثقل بتأويلات جذرية، أن يضع يده بوضوح على خطوط المسارات التي افترض للتوّ أنها مضلّلة. لم يكتمل مشروع هيدغر البتّة، وتمَّ تجاوزه باختيال وخفّة وبشيء من الاستهزاء، ولا أمكن له أن يرسم لنا حدودًا واضحةَ الرؤية من غير أن يقع هو نفسه في التضليل. ما النقطة الحاسمة التي عندها وضعت الميتافيزيقا الغربية نفسها وقد أدارت ظهرها للكينونة باعتبارها اللحظة التي يسفر بها الوجود بنفسه عن نفسه بمعزل عن اللغة، ولِمَ اندفعت باتجاه إعادة تشكيل وعينا استنادًا إلى رهان النسيان؟ وكيف يتأتّى لنا أن نعيد وضعها في الدرب الذي كان ينبغي لها أن تسلكه، وهو مواجهة الوجود كما يعبّر هو عن نفسه في امتلاء معناه؟
أوجه التضليل
وبعبارة، كان هيدغر يطمح من خلال الكشف عن أوجه التضليل الذي تمارسه اللغة على وعينا، عبر إعادة اكتشاف دلالاتها الأصلية التي غُيّبت خلف كمٍّ هائل من أشكال الإزاحة، إلى إعادة التفكّر في الوجود في لحظة انبثاقه الأصلية، لكنّه لم يكن بمقدوره أن يلبّي هذا الطموح إلا عبر تأويل فيميائي يشكّ في مصداقيته، كان استقاه من هسرل، أو عبر رؤيوية – نبوئية، تجد في الفن – الشِّعر ميدان توقّدها.
لم يحدث مثل هذا الذهول المتوتّر في سياق ميتافيزيقا الإسلام. حدث باكرًا أن تمَّ استيعاب لحظة التضليل الذي أمكن لميتافيزيقا نسقية أن تمارسه إزاء حدث الوجود…، وقد تمَّ امتلاك مفاتيحها في انبعاثها الأول مع ابن سينا على وجه الدِّقَّة …، وفي التقليد الذي رسّخه في مدى قرون.
لقد كان السهروردي واضحًا – وإن لم يتمكّن من الإضاءة بجدة كافية عليه – في إعلانه أن الميتافيزيقا التقليدية تعمي…، وهي تستبدل الموجود بالوجود، وتنشغل عنه بما يظن أنه يكشفه ويفصح عنه، بما هو حجابه الأسمى على وجه الحقيقة. وكان يعتقد جازمًا أن الوجود لا يُستوعب في نسق مفهومي ولا تمتلكه اللغة أو تقبض عليه. هي بيته الأثير، لكنّها لا تقدّمه إلا في سكونه المريع، وفي رتابته وصمته، وهي تفرغه ممّا يشكّل فيه جوهر حقيقته، أعني استعصاءه على الامتلاك. لكن السهروردي كان له فضل افتتاح النقاش وإعادة اكتشاف اللحظة التي يظهر فيها اللغز كما لو أنه تلاعبٌ لفظي – لغوي، تورية، أو رغبة في الهروب من مواجهة الوجود كتعرية… أعني بوصفه تعرية، في مواجهة الانكشاف التّام للكينونة، وقد أسفرت عن حقيقتها. كان ينبغي أن نبلغ ابن عربي، لنفهم معنى أنه يجب أن نتوقّف عن التدخّل، عن أن نقول شيئًا، وأنه ينبغي أن نمتنع بأن نتبرّع بالحديث نيابة عن الوجود، وأن نتركه وحده يكشف عن مساراته الأكثر أصالة وجدة، في تدفّقه الفريد… وأن نكتفي بسماع صدى توهّجه في مسالك تجليه، وأن نحتفي بمجرّد الانصات. لم تعد الميتافيزيقا التي دشّنها ابن سينا ـ مع السهروردي ـ قابلةً للحياة. ليس لأنها فقط لم تكن كافية لتكشف لنا حقيقة الوجود في تدفّقه وانكشافه، وراء ما يوجد وما يكون، وما يتعيّن موضوعًا للرؤية وللفكر، بل لأنها كذلك لا تقود إلى شيء، توهم، وهي تخطفنا خارج مسارات ما تدّعي رغبة اكتشافه والوصول إليه والعثور عليه والإعلان عنه. لم يعد مذاك وعي الوجود وعيًا لما هو هناك، لموضوع محايث، لشيء يقع في قبال وعينا كذوات، لما يحدث ويزول، ولما يبدو ويختفي، أو لما يظهر ويحتجب.
لقد أصبح الوجود هو (الهنا)، أعني بات وعيًا لما هو الكشف التّام عن حقيقته، حينما يكون وعينا نفسه علامة من علامات إنارته واشتعاله.
صوت الوجود
وظيفة الميتافيزيقا ـ إذن ـ لم تعد المعرفة، ولا الفهم، ولا اكتشاف حدث الكينونة كما يتبدّى في صورة الكائنات التي تقع هناك… ثم تختفي، ولا في الإحاطة النسقية المفهومية بأحوالها ومراتبها. باتت فعل استماع وإنصات لصوت الوجود وهو يتردّد في مسارات حضوره في تدفّقه الحيّ المتّقد، وفي إعلانه السافر عن نفسه، وإشراقه الفريد في مجالي مراتبه وحضراته متنزلًا متصعدًا، شأنه شأن الحياة في تدفّقها الذي لا يلتقط، لكن الذي يضيء ويكشف، في الدروب الممتلئة بفعل حضورها وانبثاقها.
لم تقرأ هذه التجربة للإنصات جيدًا، ولا عرفانها الفريد، مع أنها استغرقت قرونًا من الرؤى والتبصّرات، وولّدت اختبارات روحية لمّا تزل عوالم مجهولة لكثيرين، وغريبة، منذ حيدر الآملي مروراً بمحمود شبستري ومحمد اللاهيجي وحمزة فناري وصولاً إلى العصار ومهدي قمشأي ومهدي الأشتياني. ما الذي أحدثه مثل هذا الانعطاف في الرؤية إلى الوجود وحقيقته في فضاء التأمّلات الميتافيزيقية الكونية، وفي فضائنا المعرفي والروحي؟ كيف تستلهم لإعادة تكوين رؤيتنا في الوجود والعالم والإنسان؟
مع كريستيان بونو (Christian bonaud ) ـ كما مع علي شيدكوفيتش، وقَبْلهما كوربان ـ محاولة جادّة لفحص هذا المنعطف التأمّلي، لإعادة الاعتبار لأهميته ولمجلوباته. وهو يضعنا أمام زاوية نظر جدّ مختلفة وهو يسير ببطء وأناة، لكن بثبات، في منعطفات العرفانية، وفي مسار نمط مختلف من مواجهة الكينونة، كما هي في إعلانها المدهش عن نفسها، مع صوتها الذي يتردّد في حضورها الأبهى، وفي انكشافها لذاتها.
لقد كان الإمام الخميني تجربة مميّزة في مسار يكاد يكون الآن آخر تجلّياته وأبهاها، لقد أُغفلت تجربته هذه في خضمّ الإعلاء من مكانته كمصلح، ثائر، رجل سياسة، زعيم، قائد شجاع، فقيه ولاهوتي. لكنّها في الحقيقة التجربة الأغنى والأكثر ثراء وامتلاءً، إنها جوهره العميق الذي لا تفهم تجربته في كلّيتها إلا بالإحالة إليه. هنا يتبدّى جوهر فرادته، وهو يكمل انعطافة الميتافيزيقا الإسلامية نحو إعادة اكتشاف وظيفتها، إكمالًا يكاد يكون حاسمًا.
كنت قرأت هذا النَّصَّ لبونو بالفرنسية، (L’Imam Khomeyni, un gnostique meconnu du xxe siècle) (فوقفت على جهد كبير لباحث متمرّس في الإسلاميات، وفي ميادين الروحانية الإسلامية، والعرفانيات، محيط بلغتها وبالآفاق التي تعبّر عنها وتختبرها، بمصطلحها وأسلوب تعبيرها، وبالمنطق الداخلي الذي تقوم عليه نصوصها الكبرى. ويبدو من الاطلاع على طبيعة تكوينه أنه أنفق شطرًا كبيرًا من سنوات تحصيله على هذا التراث، يتحرّى بأناة وصبر دروبه المتشعبة المعقّدة، وآفاقه القصيّة الموغلة، ليخرج لنا مثل هذا الحصاد الغني الثرّ والرصين.
ولأنني أعرف صعوبة الإحاطة بميدانٍ من هذا القبيل فإنّني أدرك ما يمكن لباحثٍ أن يعانيه مع بحوث أصيلة كهذه، وهو يحاول نقلها إلى العربية بأمانةٍ ودقَّةٍ، ليستوعب كل مدياتها، وما تعبّر عنه وتقصد إليه. في العربية جاءت الترجمة محكمة، ناصعة ومشرقة…، والمترجم، السيد نواف الموسوي، خبير بميدان ترجمته، متمرّس في الاشتغال عليه، وله في ذلك تجارب غنية، صولات وجولات. كان له مع كوربان – وهو المتبحّر على تراث الروحانية، وفي الإسلام خاصّة – تجربة ممتعة ورائدة بعد زمن طويل من إغفال غير مبرّر لنتاجه منذ نشر بالعربية نصّه تاريخ الفلسفة الإسلامية في 1966م. وها هو يعيد الكرّة هنا، ويتحفنا بترجمة رصينة ومميّزة لعمل يستحقّ أن ننفق لقراءته الكثير من الوقت والجهد.

(]) كريستيان بوتو، الإمام الخميني عارف مغمور من القرن العشرين، تج. نواف الموسوي، بيروت: دار البراق 2016

*أستاذ جامعي وباحث لبناني

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية

Optimized by Optimole