لماذا يتعثّر العرب ويتقدّم الآخرون؟

لماذا يتعثّر العرب ويتقدّم الآخرون؟
Spread the love

في العام 1893 كتبَ الشيخ عبد الله النديم (1845-1896) كتاباً أو دراسة معمّقة بعنوان “بِمَ تقدّم الأوربيّون وتأخَّرنا والخلق واحد؟!”؛ وفي بداية القرن العشرين وضع المفكّر الإسلاميّ الأمير شكيب أرسلان (1869-1946) مؤلَّفاً بعنوان: “لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟” وكان يقصد آنذاك الغرب المسيحي، ومن بعدهما توالت الكتابات حول سرّ تخلُّف العرب والمُسلمين وتَقدُّم غيرهم. وتفاوتت المُقاربات من دون يقين أو حسم في الإجابة.

إذا كانت تساؤلات هؤلاء قد تزامنت مع مرحلة الاستعمار الغربي، وبالتالي كانت الإجابات تُرجِع غالباً السبب إلى الاستعمار وعدم تمسُّك المُسلمين بدينهم أو خروجهم عن النهج الإسلامي الصحيح، فإنّ طرْح التساؤلات نفسها بعد مائة عام أو أكثر وفي زمن ما بعد الاستقلال لدول عربيّة وإسلاميّة يتطلّب إعادة النّظر في أغلب التفسيرات أو الإجابات عن التساؤلات السابقة.

أعاد مفكّرون مُعاصرون طرْح إشكال تخلُّفنا وتقدُّم غيرنا بتواضعٍ وواقعيّة مُتسائلين ليس عن سرّ تخلُّف العرب والمُسلمين وتقدُّم الغرب، بل عن سرّ تخلُّف العرب وتقدُّم اليابان والصين وكوريا، وبعض هؤلاء كمحمّد عابد الجابري ومحمّد أركون وجورج طرابيشي وطيّب تيزيني وصادق العظم وعبد الإله بلقزيز وبرهان غليون وهشام شرابي وغسّان سلامة وحامد أبو زيد…إلخ عزوا السبب لبنية العقل العربي، وثقافة البداوة والموروث الثقافي بشكلٍ عامّ، والشطط والانحراف في فهْم الإسلام وتفسيره، والاستبداد السياسي، وغياب الديمقراطيّة، والتبعيّة للغرب…إلخ.

واليوم نتواضع مُكرَهين في طموحاتنا وفي النماذج والقدوة التي نريد الاحتذاء بها، ولم نَعُد نُقارن حال العرب بحال أوروبا والأميركيّتَين أو اليابان وكوريا والصين بل سنُقارن ونضرب المثل بنماذج من مجتمعات كان حالها كحالنا بل أقلّ شأناً في مرحلة ما قبل الاستعمار أو بعده مباشرة كالهند ودول أفريقيا.

ومن دون التقليل من شأن ما تمّ إنجازه في بعض الدول العربيّة والإسلاميّة، ومع الأخذ بعَين الاعتبار الجغرافيا السياسيّة للمنطقة وتأثير وجود إسرائيل في قلب العالَم العربي، نتساءل: لماذا نجحت شعوب العالَم الثالث التي كانت مثلها مثل الشعوب العربيّة تخضع للاستعمار والاستغلال الغربي كالدول الأفريقيّة والهند وغيرها في الخروج من دائرة التخلّف والجهل ودخول عالَم الحداثة والتطوّر والديمقراطيّة، بينما الدول العربيّة، وباستثناء قلّة منها، ما زالت تراوح مكانها، بل وتتراجع مكانتها على سلّم التطوّر الحضاري؟

هل العقل العربي عصيٌّ على الديمقراطيّة، وبنيته وبراغماديّاته وموروثه التاريخي والدّيني مركَّبة بطريقة تجعل دولنا في حالة رفض للديمقراطيّة؟ هل تحتاج بنية العقل العربي، وخصوصاً السياسي، إلى تفكيك ومُراجعة وإعادة بناء؟

لماذا العرب يتصرّفون كالقُصَّر الذين يحتاجون دوماً إلى مَن يوجِّههم ويقودهم، وإن ولجوا المَسار الديمقراطي تكون ديمقراطيّتهم مشوَّهة وأبويّة وموجَّهة من الخارج وسرعان ما تنقلب إلى حُكمٍ استبداديّ أو عسكريّ بواجهة ديمقراطيّة شكليّة؟

لماذا ما تسمّى ثورات الربيع العربي، التي قامت أساساً، كما يزعم مؤيّدوها والمُدافعون عنها، كثورات ضدّ أنظمة استبداديّة ترفض الديمقراطيّة وتنتهك حقوق المُواطنين…إلخ، لماذا آلت إلى الفوضى والحرب الأهليّة والطائفيّة وتقويض مرتكزات الدولة الوطنيّة وإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد وحُكم العسكر؟

سأكتفي بشعبَين كان العرب يتعالون عليهما فأصبحا نموذجَين يُحتذى بهما وهُما الهند وأفريقيا غير العربيّة أو أفريقيا السوداء.

1- الهنديّ الذي تفوَّق على سيّده الأوّل

منذ عقود، وإلى وقتٍ قريب، كان بعض العرب ينعتون كلّ جاهل أو متخلّف بـ “الهندي” من منطلق أنّ الهند بلاد الجهل والتخلُّف من وجهة نظرهم، واليوم أصبحت الهند من الدول العظمى التي يُحسب لها ألف حساب ويُضرب بتقدّمها الاقتصادي المثل ويصل معدّل النموّ فيها إلى نسبة 7.2 في المائة خلال العام المالي الحالي، بينما يصل نموّ الإنتاج الصناعي إلى 8,3 في المائة، وهي تحتلّ الترتيب الخامس عالَميّاً وبالتالي تتجاوز المَملكة المتّحدة – بريطانيا – الدولة التي كانت تستعمرها، ويتوقَّع المختصّون أن تحتلّ الترتيب الثالث بعد سنوات قليلة، وما ساعد الهند على نهضتها اهتمامها بتكنولوجيا المعلومات وما يرتبط بها من صناعات.

وفي مجال التنمية السياسيّة تُعتبَر الهند أكبر الديمقراطيّات في العالَم، من حيث عدد السكّان وأهمّها من حيث مُواجَهة التحدّيات المُعيقة للديمقراطيّة، سواء أكانت ثقافيّة أم اجتماعيّة أم دينيّة، وقد نجحت في بناء نظامٍ ديمقراطي علماني، على الرّغم من أنّ تعداد سكّانها يفوق المليار وربع المليار نسمة يعيش مُعظمهم في الريف ويستعملون مئات اللّغات ودستور الهند يعترف باثنَين وعشرين لغة كلغات رسميّة، كما أنّ السكّان موزّعون على طوائف دينيّة عدّة، فيما العرب، الذين تحرّروا من الاستعمار في المرحلة نفسها من استقلال الهند – استقلّت الهند في العام 1947 – ويتكلّمون لغة واحدة ولهم ثقافة واحدة وتاريخ مشترك ومنَّت عليهم الطبيعة بثروات يُحسدون عليها، يراوحون مكانهم حضاريّاً، بل ويتراجعون، ويستوردون من الهند ما تعجز “العبقريّة” العربيّة عن إنتاجه؟

2- أفريقيا تبيِّض صفحتها

إلى وقتٍ قريب كان العرب ينظرون باستخفاف إلى أفريقيا والأفريقيّين ويعتبرونهم متخلّفين وجهَلة أو مجتمعات ما قبل الدولة والحضارة، وهي نظرة عنصريّة فوقيّة لا تقلّ سوءاً من نظرة الأوروبيّين البيض لغيرهم من الشعوب. كما أنّها تستحضر الماضي، حين كان العرب يتعاملون مع أفريقيا كمَصدر للعبيد، وتستلهمه.

في السنوات القليلة الماضية، وعلى الرّغم من سوء الوضع الاقتصادي، إلّا أنّ دولاً أفريقيّة وَلَجت عالَم الديمقراطيّة حيث اليوم أغلبيّة الدول الأفريقيّة تخوض تجربتها الديمقراطيّة باقتدار وتمرّ بحالة مقبولة من الاستقرار. كما يُراقِب الاتّحاد الأفريقي الحياة السياسيّة في أفريقيا ويتدخّل عندما تنحرف دولة عن المَسار الديمقراطي. وقد تَدَخَّل الاتّحاد في 18 محاولة انقلابيّة في القارّة وأَجبر الانقلابيّين على الانصياع لإرادة الشعب، وكان آخر تدخُّل له عندما قرَّر قبل أسابيع تجميد عضويّة السودان في الاتّحاد حتّى يلتزم المجلس العسكري بتسليم السلطة لحكومة مدنيّة.

أمّا بالنسبة إلى العالَم العربي، وباستثناء بعض الحالات، فإنّ كلّ محاولات الانتقال الديمقراطي والتنمية الشموليّة تتعثّر، بل ويفقد العرب حتّى القليل من الإنجازات التي راكموها في زمن ما قبل فوضى الربيع العربي. وجامعة الدول العربيّة بدلاً من أن تكون الحارس والموجِّه للمَسار الديمقراطي وللوحدة العربيّة أصبحت في مكانٍ بعيد عن هذا الهدف.

لا نريد مُمارَسة جلْد الذّات أو الترويج لليأس وقطع الأمل بإمكانيّة تغيير حال العرب إلى الأفضل، بل نؤمن بأنّ دوام الحال من المحال، ولا بدّ للشعوب العربيّة أن تتغلّب على مشكلاتها وأن تأخذ بناصيّة الحضارة والديمقراطيّة يوماً ما، ولكنّها خواطر وتساؤلات فرضت نفسها ودفعتنا للتفكير بصوتٍ عالٍ عسى ولعلّ أن يصل الصوت ويحدُث التغيير المنشود.

من الجيّد الإحساس بالمشكلة ومن الجيّد أكثر تلمُّس أو وضْع إجابات عن التساؤلات المرتبطة بالمشكلة أو السؤال عن سبب تعثُّر العرب وتقدُّم غيرهم، ولكنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو كيفيّة تحويل الإجابات إلى استراتيجيّات عمل؟ ومَن يأخذ بناصيّة الانتقال والتغيير؟ هل هي الأنظمة والنّخب القائمة نفسها، والتي تماهت مع حالة التخلُّف وأَنتجت التخلُّف والاستبداد، أو أنظمة حُكم ونخب جديدة بثقافة وعقليّة جديدة؟

إبراهيم أبراش/ كاتب من فلسطين
مؤسسة الفكر العربي