مئةَ خلية

مئةَ خلية
Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: عصمت يوسف عبد علي** |

يعجزُ العالمُ عن نبش الحقيقة، فيقلبها رأساً على عقب، حينها يتحولُ القتلُ إلى حادثةٍ وهمية، وظيفتي هيَ أن أعرفَ ما يعجزُ الآخرين عن معرفته، يقالُ أني أقطنُ في الخيالْ، لكنني أعيشُ خلفَ مئةَ خليةٍ عصبية، الخليةُ رقم مئة تمزقت، فلنبدأ.
أيقظتُها في الخامسةَ فجراً، ألبستها عجلتي عدسةٍ شمسيةٍ مستقطبة، أشعلتُ رداءها ليخمِدَ في جسدِها ولتأكلَ الياقةَ نصفَ شعرها، وصوبتُ الحذاء في شباكِ قدمها، ظنتْ أنَ منظرها إكتمل، لكنها كانتْ ناقصةٍ كليلٍ فقيرِ القمر، وضعتُني فوقَ رأسها، وإبتلعتْ الكافَ وتقيأت التاء فأصبحتُ أنا هيَ، بنسخةٍ أنثوية.

وضعتُ يدها على مقبضَ الباب: الربُ أولاً، ثم شارلوك هولمز، كونوا معي: أوه عزيزتي شارلوت، أنا خمسةٌ وأنتِ واحد، فلتدعي الرب أن يُبقي الواحدَ لتبقي أنتِ، هيا شاحنتكِ العظيمة بأنتظارنا.
إنطلقنا كلانا، إستوقفتنا كلمةُ “النهاية” المنحوتة على نافذة الشاحنة، وبقع الدم الملطخة على الأرض على شكلِ زخاتِ مطرٍ عملاقة.
– هناك من يعاني من نزيف، ولا يمكن أن يكون قد إبتعد كثيراً في واحدَ وأربعون ثانية وخمسينَ ملي ثانية لذا فهو خلف الشاحنة.

إنطلقتُ بجسدَ شارلوت، حيثُ رأينا إمرأة ثلاثينية
– إنها تعاني من تمزق في الشريان الكبدي، شارلوت أخلعي رداءك، غطي بها المرأة، هناكَ إنخفاض في ضغط الدم.
– شارلوت ضعي سبابتكِ والوسطى على الشريان السباتي في رقبتها، يا إلهي ضربات قلبها تحدث بصورة سريعة، إننا نفقدُها.
-سأتصلُ بالنجدة.
– المستشفى على بعد تسعةَ عشرَ كيلومتراً وخمسة وخمسين متر وأربعة وتسعونَ يارداً من هنا، أي أنَ زمن الوصول إلى هنا عشرون دقيقة، والمرأةُ(واحد) على وشك (اثنان) الموت(لقد ماتت) .
-أوووه شارلوك لقد قتلتُها، أنا السبب في ذلك.
– يا إلهي عاطفةَ الفتيات المقززة ستؤدي لتراكم الكلسترول في الجدران الداخلية من شراييني عندئذ سأصاب بالجلطة الدماغية، هيا عزيزتي، هذهِ الجرائم المُملة ليست من تخصصنا، صديقك آستور بإنتظارنا.
قادت شارلوت الشاحنة بينما أنا لقنتُها بعضاً من مهاراتي العظيمة، لا بأسَ بقليلٍ من التفاخر، إنتهت فقرة سرد المهارات، حان وقت تنفيذها، هيا انزلي من الشاحنة، شارلوت إنني أتحدث معك، أوه لا، حمقاء ستضع أحمرَ الشفاه، هذا يعني إنها على إعجابٍ تام مع آستور الغبي.
-لا لست كذلك، إنني فقط، أقصد في النهاية أنا أنثى تحب مستحضرات التجميل.
-شارلوت أنت لم تلطخي شفتيكِ منذُ أن ولدتِ.
-بلى فعلت، لا تنظر إلي هكذا، فعلتها عندما كنتُ في الثامنة.
-لم تكن حقيقية، كانت لعبة.
– تباً لك يا شارلوك.
-لقد أجبرتكِ على أن تمحيها، ههاهاها، كم أنا عظيم، لا تستطيعين إنكار ذلك، حافظي على دقاتَ قلبك سيبدأُ سارقَ قلبكِ بالتذاكي، إنهُ قادم من جهتكِ، لا عجبَ إن أصل الإنسانِ قرد، الفرضية لم تتكون عبثاً، چك بوم قردكَ سيحاول إخافتكِ.

آستر: بووووم، شاااارلووت
قاطعَ الاتصال مفاجأة آستر، يبدو أنَ هناكَ خبراً فجّرَ أرضُ إنجلترا، ضعف الانفجار على وجهِ آستر.
بعدَ نصفَ ساعة من وصولنا إلى ساحةَ الجريمة، قتلَ الهدوء ضجيج المدرسة، توقفَ الزمن للحظات، لا أحد سواي يرقصُ في كومة الدخان، بين تلكَ الوجوه المضطربة والأعينَ التي أوقفَ فقسها الزمن، وبين مئاتِ الجثث الملائكية الصغيرة التي أكلَ السوادُ نصفها، أخترقَ صوتُ أقدام شارلوت هذا الهدوء، وكأنني أعرفها للتو، تسيرُ بين الجثث وكأنها قطعٌ من الخردة تسبحَ تحتها. لأولِ مرة لا تنجبُ أسئلتي جواباً، كيفَ يمكِنُ لمخلوقٍ يقيمُ العزاء إن خدشت إصبعهُ ورقة، أن يضحكَ في وجه فأسٍ مزقتهُ كالورقة؟، فالتهدأ عاصفةُ العاطفةُ بداخلي، لا بد من سببً لهذا الحريق، شارلوت! شارلوت!، إنها لن تنصتْ إلا إذا عضيتُ خليةُ عقلها لتعود إلى وعيها،
-آاه شارلوك لقد آلمتني.
-شارلوت إنهُ دوركِ.
-آستر، أحضر لي خطة البناء لهذه المدرسة.

-المدرسة مكونة من ثلاثةُ طوابق، إذاً من المفترض أن يحوي كل طابق على جرسِ إنذار، هيا لنتفقدها.
-لقد تمَ إطلاق جرسَ الإنذار من الطابق الثالث، لذا تم تغيير نقطة التجمع إلى الطابق السفلي بدلاً من سطح بنايةَ المدرسة.
-شارلوت تفقدي ، زمن إطلاق جهاز إنذار الحريق.
-الساعة الخامسة وثلاثة وثلاثون دقيقة.
-حصلت عليهااااا.
-ماذا شارلوك.
-انذار الحريق لم يكُن إلا غايةً للتجمع، الحريق بدأ بعد خمسة دقائق من إطلاق صفارة الإنذار، نظراً لحرارة جسم طفلٍ تفقدتهُ عندما كنا في الأسفل.
-شارلوك، أُنظر إنها آثار أقدامٍ ملطخة بالرماد، لا بدُ أنَ هناكَ طفلاً على قيد الحياة.
-خطأ، لا ينجو من هذا الحريق إلا الجاني.
تبعنا آثار الأقدام إلى أن توقفت، رفعنا كلا رأسينا وكانت الصدمةُ طفل يقفُ على حافةِ النافذة.
-لم أفعل ذلك.
-صحيح أنت لستَ الفاعل، إنزل للأسفل أيها الولدُ المطيع.
– أرجوكِ جودي، لا تفعلي ذلك لا أريدُ الموت.
– من هي جودي ؟
-إنها صديقتي.
-أين هي؟
– هي لا تسمحُ لي بالإجابة.
-نحن نريد التحدثَ معها فقط، لن نؤذيها.
-حسناً ستتحدث إليكم.
فجأة تغيرت ملامح الطفل البريئة إلى ردةُ فعلً شيطانية،
-أنا جودي
– يبدو أن الطفلَ ممسوسٌ بروحٍ شريرة، شارلوت حاولي أن لا تغضبيها وتجنبي الخوف.
-حسناً جودي، هل إحراق الأطفال كان غايتك.
– نعم وأنا سعيدة جداً.
– إذا يجب عليكِ أن تحرري صديقك.
-لا لن أفعل، إنه صديقي الوحيد الذي وثقتُ به لكن يبدو أن الخوف تغلب عليه وإن حررته سيشي بمكاني.
-أرجوكِ…
-حسناً سيطرحُ آرثر أحجية، أن حللتيها في دقيقتين سوف أحرره وإن لم تفعلي سيموت هو، بينما أنا سأعيشُ بأحدٍ آخر: ماتت ولم تمت، تعانِق عيناها السقف لكن لم تلمسه قط، تحركني ولا تتحرك، تقولُ لي لكن لا أحدَ يسمع، هي هنا على بعد أغنيةَ القمر.
-ما هي أغنية القمر شارلوت.
– لقد سمعت بهذه الأغنية لكن لا اتذكر.
-إضغطي على عقلك الباطن واسترجعي هياااا .
– قمرٌ قمرٌ قمرٌ في عش السماء.
-حصلت عليهااا، ارجعي ثلاثة خطواتٍ للوراء.
خطوة، خطوتان، في الثالثة اصطدمت شارلوت بالجدار، إذا بالجدارِ يستدير، لم تكُن هذه المفاجأة فقط، كان أعظمها ما وراءه، طفلةً طريحةُ الفراش حولها مئات الأجهزةُ الطبية والإلكترونية.
-لقد حللنا اللغز، أنتِ الميتةُ التي لم تمت، تعانقُ عيناكِ السقف لأن لا مفرَ لها سواه، تحركين صديقكِ بالاختراعات الذي حولكِ لأنكِ عاجزة عن الحركة، والآن دعي آرثر ينزل وإلا أزلتُ كل تلكَ الأجهزة حولك، حينها لن تعيشي بغيرك قط.
– حسناً سأفعل.
-والآن قولي لما فعلتِ ذلك ومن الذي يساعدكِ في كل هذا غير آرثر.
-فعلتُ، لأنهم يستحقون ذلك، كنتُ الفتاة المفضلة في هذه المدرسة، الكل يصفقُ لي فور إنتهائي من العروض المسرحية، إلا آخر واحدة، عندما إنقطع بي الحبل فسقطت، الكل بدأ بالضحك، كان هذا آخر ما سمعت بعدَ أن أصبت بالشلل الرباعي، إلى أن أتت الراهبة ماري وأعطتني الفرصةُ لأعيش مجدداً.
-الراهبةُ ماري؟
نطقت شارلوت بهذا وسقطت أرضاً، إنها تفقد الوعي، تحاولُ النطق… : جودي أنقذي صديقكِ آرثر، كان هذا آخر ما قالتهُ بعدها تدفقت الدماء من رأسها.
إستيقظَ يومٌ جديد، لم أكُن بهِ في عقلَ شارلوت، كانت هناكَ وجهتان لها، إما القبرُ أو المشفى، لأول مرةٍ أتبرأُ من عقلي الذي يتلذذ بالموت، لذا توجهت للمشفى، كانت هناك غارقةٌ في سباتٍ عميق وبجانبها آستر الغبي يعانقُ يدها.
-استيقظي شارلوت ، هيا.
فتحت عينيها، هذا يعني إنها استجابت لي لكنها لا تراني، حينها أيقنتُ أني تدفقتُ مع الدم، شارلوت فقدت جزءاً من ذاكرتها، هي لم تختر إلا الخليةُ التي كنتُ أعيشُ بها.

-لا بأس ، لما أحزنُ الآن كانت هذه ستكون وجهتها حتى و إن لم تتقيأني من ذاكرتها، إنها في علاقةَ حب وهذا لا يناسبني، ما يناسبني هو إكمال المهمة بعد أن توقفت عندَ إنقاذ جودي لآرثر عندما طلبت منهُ أن يخلعَ جهاز التحكم، وعند الراهبةَ التي أزالت أجهزة التنفسَ من جودي، فماتت، وماتَ الدليلُ معها، لكن شارلوك ما زالَ هنا، هذا يعني إحياءٌ لخليةٍ أُخرى.
الخلية رقمَ مئةَ تمزقت، فلنبدأ.

**وصلت القصة إلى القائمة القصيرة لمسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة.
**قاص بحريني.