مُعضِلَة تشكيل الحكومة المغربية

مُعضِلَة تشكيل الحكومة المغربية
Spread the love
عبد الإله بنكيران
عبد الإله بنكيران

بقلم: عبد الفتاح نعوم* — مرّ ما يُقارب الأربعين يوماً على انتخابات السابع من أكتوبر والتي فاز فيها حزب العدالة والتنمية بأكبر عدد ٍمن مقاعد مجلس النواب المغربي، ما نتجَ منه تعيين الملك لأمينه العام رئيساً مُكلّفاً بتشكيل الحكومة تطبيقاً للفصل 47 من دستور المملكة الجديد. وإلى حدود الساعة مازال السيّد عبد الإله بنكيران لن ينجح في كل مساعيه الرامية إلى تشكيل الحكومة، ما جعل البلاد تدخل في أزمةٍ سياسيةٍ هي الأولى من نوعها منذ السنوات التي تلت استقلال البلاد.

ولعلّ السلبية التي لاقت بها بعض الأحزاب مثل حزب التجمّع الوطني للأحرار، تلك المساعي تكشف عن ميل ٍمُمَنهَج لعرقلة أيّة إمكانية لتشكيل الحكومة في أقرب الآجال، ما يفتح الباب على مِصراعيه أمام مُختلَف التساؤلات حول الجذور والأبعاد التي حوّلت مهمة تشكيل حكومة في بلد ٍيشهد استقراراً سياسياً إلى مُعضِلة أثارت نقاشات طويلة عريضة في الفقه الدستوري وفي ساحة الجَدَل السياسي والإعلامي. وهي كلها تحوم حول مسألة الشرعية الانتخابية الممنوحة لحزب العدالة والتنمية والمخاطر التي تُهدّدها.

فالحزب الذي يحاول أمينه العام تشكيل حكومة بقيادته ليكون أول حزب في التاريخ السياسي المغربي الحديث يقود عهدتين حكوميتين مُتتاليتين. لا يني عن التشكيك في طموحات بعض الأشخاص والأحزاب القريبة من المُحيط المَلَكي، والرامية إلى إفشال تشكيل الحكومة، ما حدا به إلى القول بأن الأمر مُحاولة لـ”الانقلاب على نتائج السابع من أكتوبر”. ذلك أن أيّ تكليف لأيّ شخص آخر سواء من حزب العدالة والتنمية أو من غيره، هو تناقُض صريح مع مُقتضيات دستور سنة 2011، والذي يوجِب على الملك تعيين رئيس الحزب الفائِز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية، ليكون هو المُكلّف بتشكيل الحكومة ومن ثمّ رئاستها.

كان مُمكناً حل الأزمة بتشكيل الحكومة عبر تحالف أحزاب “العدالة والتنمية” (125 مقعداً في مجلس النواب)، و”الاستقلال” (46 مقعداً)، و”التقدّم والاشتراكية” (12 مقعداً)، “الاتحاد الاشتراكي” (20 مقعداً). ذلك أن التحالف في حاجة إلى أغلبية نيابية عتبتها هي 198 مقعداً من أصل 395، لكن اشتراط السيّد إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي الحصول على رئاسة مجلس النواب للدخول إلى التحالف الحكومي، وثنائه على عزيز أخنوش وزير الفلاحة في الحكومة السابقة، والذي انتُخِب رئيساً لحزب التجمّع الوطني للأحرار عقب استقالة صلاح الدين مزوار وزير الخارجية في الحكومة نفسها من رئاسته بعد انتخابات السابع من أكتوبر. ما أشار إلى أن ثمّة ميلاً من الاتحاد الاشتراكي نحو الاصطفاف مع التجمّع.

وحزب التجمّع الوطني للأحرار أضحى بالتالي هو الذي بيده حل أزمة تشكيل الحكومة لامتلاكه 37 مقعداً في مجلس النواب، ما يُمكّنه من أن يضمن أغلبية مُرِيحة للحكومة، لولا اشتراط أخنوش إخراج حزب الاستقلال من الحكومة وتعويضه بحزب الاتحاد الدستوري (19 مقعداً)، وتلزيم بنكيران بتغيير خطابه ولهجته، والتراجُع عن سياسة رَفع الدعم عن المواد الأساسية، ما اعتبره بنكيران تطفّلاً على اختصاصات رئيس الحكومة، وفتحَ الأمر الباب على مِصراعيه أمام كمٍ من المُلاسنات وحديث زعماء الأحزاب عن مؤامرات يُحيكها نظراؤهم في أحزاب أخرى لعرقلة تشكيل الحكومة، كما هو الشأن بالنسبة إلى تصريحات السيّد حميد شباط أمين عام حزب الاستقلال الذي يتشّبث بنكيران بوجوده في الحكومة، رغم أنه كان من أشرس مُعارضيه في النسخة الثانية من الحكومة السابقة.

وسواء أتشكلّت الحكومة نتيجة توافقات أو صفقات فإن هذه الأزمة أماطت اللِثام عن مساوئ نَمَط الاقتراع النسبي على قاعدة الكسر الأكبر المعمول بها في المغرب، حيث اقترانها بنمَط تعدّدية حزبية غير مُنضبطة جعل كل الحكومات التي تتشكّل تكون حكومات ائتلافية بين أحزاب عدّة، ما يؤثّر على البرامج والأولويات ويشوّه التمثيل ويُعرّض إرادة الناخبين إلى الاضمحلال، ولو أنه هو نمط الاقتراع الوحيد الذي يُعطي معنى للتعدّدية الحزبية.

كما أن الأزمة نفسها كشفّت عن إشكالات قانونية وفُقهية دستورية لا حصرَ لها، حيث أن الدستور المغربي الحالي لا يُشير من قريب أو بعيد إلى ما الذي ينبغي القيام به في حال حدوث أزمة كهذه، ولا يُحدّد المُهلَة الممنوحة لرئيس الحكومة المُعيّن لكي يقوم بتشكيل حكومته، كما لا يُحدّد مَهام وحدود مسؤوليات حكومة تصريف الأعمال، سيما وأن طول الأزمة سيُصدم بمواعيد صوغ قانون المالية، ومهام حكومة تصريف الأعمال توجد خارج أية رقابة برلمانية لأن البرلمان مازال لم يشهد تشكيلاً للجانه وفِرَقه البرلمانية.

صحيح أن أغلب دساتير العالم لا تتضمّن التفاصيل لحالات مُماثِلة، لكن عراقة التجربة في البلدان الديمقراطية تكرّس أعرافاً دستورية تنمو على هوامش النصوص، كما أن مساحة الفقه والاجتهاد الدستوريين تُمكّن من إيجاد مخارِج من هكذا أزمات. والمغرب لم يتوفّر على تجربة من هذا النوع، بسبب طبيعة المؤسسات وحدود أدوارها، والتي رسَت عليها منذ غلَبَة كفّة القصر في صِراعه مع النُخبة السياسية غَدَاة الاستقلال، وصولاً إلى حكومة التناوب التي قادها حزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1998.

وهكذا فدَور القصر يُعتَبر حاسِماً في حلّ أزمةٍ من هذا النوع، هذا إن لم يكن صحيحاً ما يُروّج له بعض الأصوات القريبة من حزب العدالة والتنمية، والذي مفاده أن بعض الفاعلين في المُحيط المَلَكي والمُقرّبين الحزبيين منهم هم مَن يُطيل الأزمة، سيما وأن حميد شباط أمين عام حزب الاستقلال كان قد صرّح بأن السيّد إلياس العماري أمين عام حزب الأصالة والمُعاصرة الذي أسّسه صديق الملك السيّد فؤاد عالي الهمة، كان قد دعا في اجتماع مع قيادات حزبية غَداة إعلان نتائج 7 أكتوبر إلى مُقاطعة حكومة برئاسة العدالة والتنمية الأمر الذي نفاه العماري.

يُشدّد بعض الأكاديميين على أن الحل هو العودة إلى الفصل 42 من الدستور، حيث الملك هو الساهِر على صون سير المؤسسات الدستورية لتعيين رئيس حكومة آخر أو حكومة تكنوقراط، ما سيُشكّل خروجاً على المنهجية الديمقراطية، كما حدث عند تعيين السيّد إدريس جطو وزيراً أول سنة2002. أو إعادة الانتخابات وتكبيد الدولة مصاريف جديدة قد تُنتِج الخريطة نفسها في ظلّ احتقان اجتماعي تعيشه البلاد، وموجات احتجاجية لا تتوقّف بين الحين والآخر، وفي ظلّ طموحات مغربية للَعب أدوارٍ مُتقدّمة في الفضاء الإفريقي، عبر تحرّكات نشيطة للعاهل المغربي في إفريقيا واحتضان المغرب لقمّة “كوب 22” للمناخ والبيئة.

صحيح أن عبد الإله بنكيران شخص صِدامي ولا يُدير التحالفات والصِراعات بشكل ٍجيّد، لكن هذا لا يعني بتاتاً بأن باقي الفُرقاء مُتعاونين بخصوص مساعيه. حيث أن جَذر المشكلة يمكن أن يكون هو رِهان حزب العدالة والتنمية على تجذير نفسه في المؤسسات عبر الاستمرار في التجارب الحكومية، ومن ثم اختراق المُحيط المَلَكي، في حين رهان المُحيط المَلَكي على هَضم العدالة والتنمية وتليينه وتطويعه أكثر، وربطه بمُعادلة الحِرص على مغانم السلطة، وفي الوقت نفسه الإقرار بمحدوديّة مُناوراته التي يُمكن أن تنتهي مع إعطاء كلمة سرّ لتأزيم مسعى تشكيل حكومة، وتحميل مسؤولية الفشل لمن تم تعيينه في النهاية.

*باحث مغربي في العلوم السياسية.

Optimized by Optimole