كالخاس الإغريقي

كالخاس الإغريقي
Spread the love

قصة قصيرة* بقلم: إنچي مطاوع** |

“زيوس” العظيم امنحني بركاتك، لمَ لا يراعي الجميع الضغط الواقع على كاهلي اليوم؟!، هلّت بشائر الصباح الأولى مع رياح عنيفة على غير عادة هذه الأيام لتثير الزوابع وتملأ آنية التقتير بالأتربة، مما اضطرنا للتخلص منها، لقد انقلبت أوعية عصر العنب كما لو أنها تتآمر عليّ مع ذلك العراف المجنون، حتى البراميل الخشبية التي عُصِرت وخمرت منذ ثلاثين يومًا وتركت لترقد وتعتق ورغم وزنها الثقيل سكبت، يا آلهة الأوليمب كيف تسمحين بحدوث هذا؟!
كنت أقاوم السقوط مغشيًا عليّ بسبب توقف قلبي عن النبض والجارية تصف هذه الكارثة، لو أردت كتابة مسرحية جديدة ما كنت خططت مثل هذا القدر من الحظ العاثر، جاءت ترتجف ووقفت أمامي تنتظر لحظة انقضاض غضبي عليها، بصوت متلعثم ألقت الخبر، ركض الجواد كما لو كان في سباق خيل، حاول العبيد إيقافه فكسر الحاجز مما تسبب في وقوع البراميل على الأرض ليراق كل ما فيها وتسقى أرض المعمل بدمائي، ليتني تركتهم يخزنوها في القبو بدلاً من عنادي المرضي الذي أوصلني إلى هذه الخسارة الكبيرة.
أفٍ لهذا، قاومت شرودي قبل أن أصرخ في العبيد، بحق آلهة جبال الأولمب أجمعين أسرعوا، أريد هذا العنب معصورًا قبل أن تذهب الشمس إلى مستقرها، لن أموت اليوم يا أغبياء.
ضاع مجهود شهر، طار انتظاري هباءً وذهب أدراج الريح مأسوف عليه، كنت أراقب يوميًا العمال لأتأكد من إجادتهم أعمالهم وألا يتسببوا في كارثة تؤخر لحظة احتفالي بكأسي الأول من نبيذي الخاص، عليّ الانتظار حتى الغد لأكسر النبوءة المشؤومة عن موتي، سأتجرع كأس وراء كأس من نبيذي وسوف أسخر من هذا العراف أمام الجميع، سأمحو اسمك من الوجود “كاليميرو”، سأطوح أمام عينيك بنبوءتك عرض الحائط وأضيع هيبتك وتفاخرك الكاذب بقدرتك على التنجيم والتنبؤ بما سيحدث لأي منا.
سأشوه تاريخك العريق وأظهر كذبك، لن أتواني عن تأليف مسرحية تراجيدية تحكي عني وعن هذا المعتوه الذي تجرأ وحدد يوم وفاتي، تحدى سليل العائلة العريقة والكاتب المسرحي الكبير “كالخاس”، المحمي من قبل “أبوللو” إله الفنون، و”ديونيسيوس” إله الخمر، و”ديميتير” إله الزراعة والحصاد. فمن مثلي حريص على إرضائهم، إنه أنا الإبن البار لجميع آلهة الأولمب، لا يعلم ذلك البائس أنني أقدم القرابين والمنح والعطايا دون حد إلى كل منهم لأنال رضاه وبركاته، كيف يتجرأ هذا الحقير ويرمي شرر شعوذته حولي.
ذلك المتفاخر بلا داعِ يبدو أنه اعتبر الأمر مزحة ثقيلة يرميها، ثم يتركني ويذهب لا أعرف إلى أين؟!، اختفى كي لا أستطيع مراجعته فيما قال ووصلني، سمعت أنه عاد إلى منزله اليوم، ذلك الملعون، ليت “هيدز” يجذبه من عنقه ويسحله على طول الطريق إلى الجحيم، ليته يتكرم عليّ ويأخذه في رحلة طويلة لا نهائية إلى قعر الجحيم هو وطالعه المشؤوم..
لا داعي لذعري سيمر الأمر كما سحابة صيف عابرة، غيمة دنست صفاء السماء فألقت بها الرياح خلف الجبال، نعم لا يجب أن أوتر حالي لأكثر من ذلك وأعطي للأمر أكبر من حجمه، يكفيني شهور الرعب والفزع التي مرت علي منذ الخريف الماضي في انتظار تحقق هذه الأكاذيب، بالتأكيد في البراميل بعض من بقايا النبيذ!!
نعم.. نعم، سأرسل جارية لتحضر ما يوجد في البراميل من بقايا، تجمعها في وعاء من الذهب ليلائم هذه المناسبة الكبيرة..
– “هيرا”… “هيرااااااااااااااا”
أسرعت تلك الغانية تهرول كما سلحفاة؛ رغم جسد الغزال الذي تملكه، عندما لمحت وجهي الغاضب وعيوني التي تتقد ناراً، ركعت تعتذر بأنها جاءت مع أول نداء ولكنها كانت بعيدة لذا أخذت بضعة لحظات لتلبي ندائي، تلك الخرقاء لا تعلم أن كل لحظة تمر محسوبة من عمري البائس، هل أطيّب خاطرها وأقول لا عليكِ يا فتاة فغضبي ليس بسببك؟!
ارحمني “زيوس” من هذا العذاب، أمرتها أن تذهب لإحضار بواقي النبيذ من البراميل وألا تعود دونها..
أجابتني وهي مصدومة وكأنما أطلب منها إحضار نجمة من قبة السماء، البراميل كسرت ولم يتبقَّ منها شيء سيدي، في الغد يمكننا فتح البراميل المعتقة داخل قبو الكوخ الصيفي، أثارت جنوني لأطيح فيها بغضب وأنا أتوعدها بعيني، هل ترفضين طلبي وتنصبين نفسك وصية علي لتقولي افعل هذا ولا تفعل ذاك؟! هل جننتِ أيتها المخبولة؟!، اذهبي وأحضري ما طلبت في الحال، إذا عدتِ خالية الوفاض سأفصل رأسك الجميل هذا عن جسدك وأتنازل عن مغامراتي وصولاتي الليلية معه وأشرب من دمائكِ بدلًا من ذلك النبيذ الملعون، فهمتِ؟.
– نعم.. سمعًا وطاعة مولاي فهمت.. فهمت..
أجابت في خنوع وخضوع ثم اختفت من أمامي في الحال بما لا يتناسب مع رقتها المعهودة ولا رزانتها، كانت شغوفة بإثارة غيظ وحنق باقي الجواري ليقينها من مكانتها في قلبي، تعلم أنني ما كنت لأكسر بخاطرها أمام أي من الأخريات، تلك الشهية ملأت ليلي إلهام وإبداع لسنوات فكيف لا أدع لها مجالاً للتفاخر أمام صاحباتها؛ طالما لا تسقط في بحر الغيرة النسائية وأفعال النساء القبيحة بكثرة الحديث وإرهاقي بالطلبات..
تعلم إنني عاشق للنساء ولكنني في النهاية أعود إليها لأستقر داخل مملكة سحرها لأيام أو شهور، أعود لاكتشاف جغرافيتها كطالب انضم جديداً لمدرسة فلسفة عسير عليه استيعاب مقرراتها بسرعة، أدرس نواميس كيان بض يتراقص بحرارة أمام ناظري، أكتشف ألوان قوس قزح من جديد داخل عينيها، أعبر البحور معها وإليها، أزرع الشمس بردًا والقمر دفئًا وبينهما نموت ونولد من جديد، معها أنسى متاعبي وألقي كل ما يتعب كاهلي عليها ثم أعود لممارسة مغامراتي في القنص والصيد من غابة الجميلات، آه يا قطتي الوديعة الجميلة البريئة، حبيبتي ستمر الأزمة وأعوضكِ عن كل هذا الضجيج.
عادت مبتسمة مبتهجة، يبدو أن الحظ قد ابتسم أخيرًا ورضت عني الآلهة، كانت تسير بهدوء تتبختر كما اعتدتها في السابق، يسبقها عطرها الفواح، بدّلت ملابسها بثوب شفاف يثير “زيوس” الجالس في ضجر على عرش جبال الأوليمب، اقتربت وبدأت تحرك النبيذ داخل الإناء الذهبي لأسمع رجرجته فتسقطت على مسامعي كما موج بحر منعش في ليلة صيف قائظ، بعفوية قربت أنفي لأستمتع بعبير يفوق عبير “أفروديت”..
عذرًا “افروديت” مسموح لي اليوم بكل شيء فها أنا على بعض لحظات من تكذيب نبوءة موتي، سأشرب من هذا الإناء حتى أثمل، بل سأشربه كله..
اليوم هو اليوم الموعود!!
لن أبقى مستيقظًا لأتأكد من إشراقة شمس يوم جديد عليّ وأنا على قيد الحياة!!
لن أخرج من سريري الدافئ كل ليلة، لأتجول في الطرقات كما المجاذيب؛ كي لا أعطي الموت فرصة قنص روحي وأنا نائم على غفلة مني، الآن سأشرب من هذه اليد البيضاء الرقيقة كوردة “ليليت”، الناعمة كما الحرير.
سأعب عباً من الشراب ثم أدعو أصدقائي لقضاء ليلة صاخبة، سأقدم لهم النبيذ والجواري والعبيد والغلمان، ستكون ليلة تساوي ألف ليلة، بعد قليل سأشرب ثم أبدأ في مسرحية جديدة بطلها، الإله “كالخاس” قاهر الموت، لكن لحظة..
ربما عليّ الانتظار قليلًا..
ناديت غاليتي “هيرا” لترسل في طلب ذلك المعتوه الذي تنبأ بموتي، لن أقترب من هذا النبيذ حتى يأتي وأجعله يموت قهرًا أمامي وأنا أتجرعه على مهل، اشرب منه بتلذذ وأرتشف منه بمنتهى اللذة.
لمحتها واقفة تراقبني في صمت فصرخت فيها ووجهي باش متفاءل بدعم كل آلهة السماء، “هيا حبيبتي أسرعي”..
اِنْحَنَت في دلال ومشت بخطوات مسرعة لتلبي طلبي، ما يعجبني في “هيرا” أكثر من جسدها الرخامي الناعم، ذكاؤها الحاد وتقديرها الجيد للمواقف، لم تنتصف الشمس في السماء إلا وهذا المأفون جالس أمامي داخل منزلي، يفصل بيننا طاولة لا تحتوي إلا على إناء النبيذ الذهبي وكأس واحد فضي، رحبت به مظهرًا شماتتي فيه، الغريب أنه أصر على عناده ونبوءته الملعونة، أعادها على مسامعي بشموخ جاموس بري.
بادلني نظرات الشماتة بنظرات شفقة واستهزاء، طلبت كأسا آخر وصببت له ثم لي، قربته من فمي، هذا اللون المميز..
الإحساس بالراحة للخلاص من بشاعة مطاردة النبوءة لي..
تلك الرائحة تأخذ بيدي لتجلسني وسط الآلهة في جبال الأولمب..
انتصرت على قدري!!
نعم لقد انتصرت على قدري إنه أنا “كالخاس”..
سيسمع الجميع عن أسطورة، الفنان والعبقري “كالخاس” بل الإله “كالخاس” إله الحياة الوحيد الذي انتصر على إله الموت ووأد محاولاته في سلبه روحه، يا لها من قصة لمسرحية جديدة، تلك الرائحة أعشقها، تناديني تعال “كالخاس” وأغرق فيّ حتى أذنيك..
تعال وذُب في طعمي وغُص بين أمواج سكري..
انظر “كاليميرو” لمَ وجهك أصفر هكذا، هل أنت غاضب لفشل نبوءتك؟! سأشرب كأسي، وتموت أنت ونبوءتك وطالعك كمدًا، فلنعترف سوية أن الأمر مثير للسخرية حد الضحك، هيا اضحكوا جميعًا، الأمر يستحق، يا للجحيم، عليك اللعنة “كالميرو”..
بيدي سأسطر نهايتك الآن وأتركك تتخبط في بحر ظنون مخاوفك..
سيختفي مريدوك من حولك وسيلعنون فيك صباحًا ومساءً،
سيرقصون على جثتك المتعفنة المصلوبة على رماح نبوءاتك العمياء، سأشاركهم الرقص والغناء وسألعنك معهم، لا تغضب مني ولكنك تستحق مني هذا بعد الرعب الذي أحطتني به لشهور، يبدو الأمر سخيفاً أعرف..
لم أضحك هكذا منذ سنوات طوال، لا أستطيع التوقف حتى عن الضحك..
يثيرني الأمر منذ البداية، يا إلهي العظيم، بعد لحظة أشرب كأسي وأنهيك للأبد “كالميرو” ألا يدعو الأمر للسخرية؟!، ستكون أضحوكة بين الناس، سيؤلفون قصصاً وأساطير عني وعنك وكيف خابت توقعاتك، وكذبت نجومك..
قلبي سيقف من كثرة الضحك، لا أستطيع أن أرفع كأسي..
“هيرا” ساعديني، هناك شيء متلفع بالسواد يجذبني صوبه،
قلبي سيتوقـ….

*قاصة وروائية مصرية.
**القصة فازت في المرتبة الخامسة مشاركة في مشابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة.