ثلثا رجل ورأس امرأة

ثلثا رجل ورأس امرأة
Spread the love

قصة قصيرة بقلم: جابر خمدن** |

استبدلت رأسي في أحد محلات العناية بالرؤوس، اخترت رأس امرأة. في طريق العودة إلى البيت، لم أستطع تمييز الطريق، كانت رجلاي تعرفان درب الرجوع ولكن عينيّ اتجهتا إلى شارع آخر. توقفت عند تقاطع، لا أدري في أي اتجاه أمشي. تحركت يميناً ولكن أوامر أخرى من الأعلى غيّرت مساري. مشيت في شوارع وطرق لم أرَها في حياتي ويبدو أنها بعيدة عن محلّ سكني. أخيراً وصلت إلى بيت لا أعرفه ولكنّ رأسي الجديد يحتفظ بخريطة مفصّلة له. دخلت ثم قادني إلى غرفة علوية.
أدرت عينيّ/عينيها في الغرفة لم أتعرف على شيء؛ هذه ليست حجرتي، وإنما غرفتها وسط جدران لا أعرفها. إنه بيتها الصغير ويبدو أنها تعيش فيه لوحدها. لقد أضعت مكاني لأول مرة في حياتي. في غرفتها كان كل شيء يخصّها. السرير الواسع، طاولة الزينة بمرآتها على شكل قلب، خزانة الملابس ذات الأبواب البيضاوية. وعندما فتحتها قفزت الصدرية الصفراء وتعلّقت بإصبعي الأيمن، ثم تبعها الكيلوت حيث تدلّى فوق يدي. باقي الملابس أيضاً كلها تخصّها وحدها، ليس لي فيها نصيب. لقد تركت ثيابي في غرفتي هناك حيث منزلي. ويبدو أنّ ذكرياتي كلها تركتها هناك في ذلك المحلّ في رأسي الأول. لكن جسدي ظل محتفظاً برجولته وعنفوانه وكذلك بذكرياته. شعرت بالحزن والضياع. كأني أقتلعت من جذوري هناك وألقيت هنا في هذا المكان. في المرآة العاشقة رأيت نفسي بذلك الوجه الجميل، الشعر المنسدل إلى الكتفين، العينين الكبيرتين الواسعتين، الأنف الدقيق. صورة رائعة. لكن صدري وكتفيّ وكذلك يديّ لا تنسجمان مع الأنوثة. عندما تعرّيت من ملابسي بان كل شيء. كأن جمارة نخلة قد ركبت على جذع شجرة عريضة فبدت غريبة. لبست ثيابها الأنيقة، توارت التفاصيل. الآن أبدو كامرأة ويجب علي التخفي تحت الألوان النسائية.
تذكرت الآن أن رجليّ تعرفان ذلك الفناء الذي ألفت أرضيته والسلالم الحجرية المتعبة. لا تزال آثار السقوط منه محفورة في ركبتي. لكن هنا بدأت أتعلّم كلّ شيء من جديد. بحثت عن ذاكرتي فلم أجدها. أصبحت برأس وعقل وذكريات وأحلام امرأة. لم أستطع تلك الليلة أن أنام. كلّ أفكاري الرجولية ظلّت حبيسة هناك وملقاة في ذلك المحلّ. مع مرور الوقت طريقة تفكيري بدأت تتغير. نظرتي للناس كذلك صارت نظرة أنثوية. أشعر أن فتاة تلبستني وبقي ما دون رأسي في جسد رجل. فإن كانت حورية البحر برأس فتاة وجسم سمكة كما تصورها الحكايات؛ فأنا صرت شبيهاً لها ولو كان أعلى جسمي وأسفله من جنس واحد. الآن علي أن ألبس ما تلبسه هي. رفضت في أول الآيام، ثم ما لبثت أن لبست كل ثيابها المدللة في خزانتها. حزن جسمي كثيراً لهذا التغيير الجذري، ظل يتذكر طفولته وصباه ويبكي حاله في صمت. كان رهين القهر وفقير الاختيار. في ظلام الليل بينما كنت أفكّر في الرجال، كان جسدي يشتاق إلى النساء. أنا الآن قد جنيت على نفسي بنفسي، هكذا كان يرتعش الجسد المقهور. ثلث أنثى وثلثا رجل، والعصمة في ثلثها، والقيادة والرئاسة. هل صرت مسخاً منذ ذاك اليوم؟! لا أدري.
ذات يوم ذهبت الأنثى المتسلّطة علي لمقابلة صديقاتها؛ لم يكتشفن الأمر لأنّ وجهها قابلهن وجسمي التصق بهن. يداي أخذتهن بالأحضان. وتساءل الجسد الخشن.. ماذا لو اكتشفن أني رجل؟ ما الذي سوف يحصل؟ وهل سيصدّقن صدري ويديّ وبطني ورجليّ؟! وهل سيكذّبن الوجه الجميل، العينين وكحلهما والجبهة الناعمة والشّفاه المتوحّشة.. لا. لا. لا يمكن أبداً أن يعرفن شيئاً مما حصل، ولا حتى الشيطان قد فكّر يوماً في ذلك.
ذات ليلة اشتاق نصفي الأسفل لرؤية صديقه، ولكني لم أعد أستطيع الذهاب إليه. وربما لو قدّر لي الهرب وحظيت بلقائه، فإنه حتماً لن يتعرف علي وسوف يشيح بوجهه عن هذا الكيان الغريب. ولن ألومه على تصرّفه لأنه كان صديقاً لإنسان آخر غير هذا.
عادات النساء وأبجديات حياتهن اليومية المختلفة تماماً عن تفاصيل الرجال وخشونة خطواتهم؛ أكتسحت خجلي ثم كنسته كما تكنس الريح أوراق الخريف الذهبية اليابسة. صرت أذهب إلى صالونات النساء، وهناك كنت أرى أعمق تفاصيل الأنثى، وأسمع الأسرار المكبوتة. كم مرة صافحتني ذرات فرحهن واشتياقهن وعذابهن. هنا ورشة لترميم الهياكل الشاحبة. وضع لمسات من الجمال على أرواح هائمة تبحث عن الحب الضائع. إنها قصور الجمال الباذخة، يدلفها من يستطيع الدفع لأجل نشوة مؤقتة. ذات مرة وأنا/وهي جالسة على المصطبة الرخامية ويد العاملة تدلّكها، تدلّت العينان تلتقطان تفاصيل الأجساد، حتى استوعبت الذاكرة كلّ الأشكال. والأذنان تسجلان الأحاديث والأشواق وحتى التنهّدات.
بعد عدّة زيارات بدأت التأثيرات الناعمة تفرض إيقاعاتها على باقي جسمي، بدءاً من الكتفين وحتى أخمص القدمين. كلّ الكريمات والمرطّبات النسائية مرّت على سطح جلدي حتى أضحى ناعماً. مسامات جلدي تشربت مياه الكلونيا النسوية وحتى العطور الرجالية استبدلتها. مزيلات الشعر، الحلاوة، اللصقات الناعمة كلّها بدأت تهذّب الجسم الخشن وتحوّره إلى نعومة القطن. بعد شهور تغيّر وأصبح ليّنا، ناعم الملمس. هناك في حرم النساء الخاص حيث يأخذن راحتهن بين أيدي العاملات، كان الوجه يخادع الجميع والجسد يشعر بكل أجواء الأنوثة. التوتّرات العميقة تصل إلى القلب فيبدأ في قرع الطبول الوحشية. لم تكن النساء تسمعن إيقاعها لأنها ملتحفة بقطعة القماش الآخيرة كما لو كانت بلون الورود.
رغم نعومة يديّ ورجليّ ورغم اختفاء جحافل الشّعر، بقي جلدي يختزن كل الذكريات القديمة وينبض بها. شيئاً فشيئاً أخذ الجزء الأعلى في ممارسة القمع على باقي الجسم. كان يرغمني على الجلوس مع الفتيات والحديث معهن ومصادقتهن. أجبرت على استخدام المساحيق وأحمر الشفاه، رغم أن هذا من لوازم رأسها الذي أصبح رأسي ولكن لم أكن أحبّذ ذلك. حاولت ذات مرة أن أحتفظ بشنب اصطناعي ولكني لم أتمكن. في إحدى الليالي سهرت صديقتها في البيت حتى تأخّر الوقت. دعتها للنوم معها/معي في الفراش. كنت أشمّ الروائح الحالمة وأستمع إلى الأمنيات الهائمة. كانت ليلة جمعة، توتّر جسدي بشدّة وظلّ مستيقظاً حتى الفجر بينما وجهها غطّ في نوم عميق وهو ملتصق بوجه صاحبتها. كانتا تتنفسان أريج الورود الأولى وزهور الجنّة المشتهاة.
عندما أشرقت الشمس كنت نائماً، قامت مع زميلتها وتركتني وحيداً بلا رأس.
وحدث ذات صباح أنها ذهبت تتسكّع في الشوارع القريبة من ذلك المكان الذي تركت فيه رأسي، وجدت جسمي يتمرّد فجأة، ويدخل إليه ثم بقي يبحث حتى وجد رأسه فتوقّف بقربه. أحسست بارتجافات، رغم أن رأسها كان ينظر نظرة ساذجة، إلا أنني صرت في وضع حرج، فهذه فرصتي في التخلّص من تلك الازدواجية للأبد.
وفي رفّة عين وارتعاشة رمش؛ امتدت يدي وتحسّست الرأس القديم الذي تعرفه وبحركة سريعة تم كلّ شيء. الآن عدت بعقلي وذكرياتي الأولى ولكني في مفترق الطرق كنت قد اتّجهت إلى الطريق المؤدّي لبيتي، هنا أبت رجلاي إلا السير في الطريق الجديد الذي تعودتا عليه. بعد شدّ وجذب تمكّنت من الوصول لزقاق طفولتي. صعدت السلّم قفزاً حتى دخلت صومعتي الحبيبة. كانت غارقة في الغبار ورائحة الرطوبة الطازجة. رأيت الجدران كلها تبتسم في وجهي، بعض الكتب طارت من فوق الرفوف وقبلتني. الكرسي الخشبي الوحيد زحف إلى أن وصل قربي؛ جلست عليه وأنا أبتسم بفرح في عالمي المحبب. لم يتغيّر شيء منذ تركت المكان مرغماً.
غيّرت ملابسي/ملابسها، لبست بنطالي وقميصي. لاحظت أن جسمي قد تحوّل إلى جسم فتاة في أوج فتنته، تحسّست جلدي، نعومته مذهلة. بقيت ذكريات الجسد الأول مختبئة تحت لدونة الجلد المنعّم. حزنت كثيراً على فقدي لتلك الخشونة.
مع مرور الأيام والأسابيع والشهور عاد شكل جسمي لصورته السابقة. سررت لهذا التغيير، تناسق البدن مع أعلاه. ولكن ما حدث بعد ذلك كان شيئاً لا يصدّق فقد تبيّن لي أني الآن لست كما كنت، رغم أن شكلي لا يبدو عليه الشذوذ. تبيّن لي ذلك واضحاً في أحلامي، لأني أصبحت أحلم بحلمين في الوقت نفسه.
ذات ليلة مطيرة رأيت صديقاتي/صديقاتها، كنّ يرقصن تحت المطر فخرجت مسرعاً تتقدّمني أشواقي وصرت معهن. رقصنا حتى شروق الشّمس. في حين أنّ جسمي حلم بتلك اللمّة القديمة عندما كانت تقرع الطبول في وسط الحقول، قفزت على وقع النقرات، أو قل جسمي بكامله من دون الرأس أضحى يهرول حتى صار بينهم يتلّوى منتشياً معهم. الآن وأنا غارق في التفكير والتأمّل بما آلت إليه الأمور أجدني قد أخطأت عندما فكّرت في تلك الخطوة المجنونة. أشعر أني مرتبك في تفكيري ومزدوج المشاعر والأحاسيس. حتى نظرتي للأشياء اختلفت، أصبحت نظرة ذكورية من جانب وأنثوية من ناحية أخرى.
أنظر إلى فتاة فأراها مرة أنثى وأخرى رجلاً والعكس صحيح. يبدو لي أنّ التجربة قد غيّرتني للأبد فصرت أفكّر في الأمور بطريقتين. مرة يهيمن عقل المرأة وأخرى يتسلّط فكر الرجل.
في البيت مع العائلة اعتبروني شبه عاقل وشبه مجنون حتى تأقلموا مع وضعي الجديد.

*القصة فازت مشاركة في المرتبة الخامشة في مسابقة مجلة “شجون عربية” للقصة القصيرة.
**قاص بحريني.

Optimized by Optimole