التماهي

التماهي
Spread the love

قصة قصيرة* – بقلم: كمال عبد الرحمن** |

كل يوم يرهق قدميه المتعبتين، ليصل الى مقهى (البجاري)، في شارع حلب في الساعة الحادية عشرة تماماً، وعادة لا يكون مع نفسه ولا مع غيرها. لكنه يقف على باب المقهى، منتظراً أن ينتبه (أبو صالح) صاحب المقهى، الذي سرعان ما ينتبه ويضغط على آلة التسجيل، لينطلق الصوت الأثير لدى روحه(حبينا..حبيناكي..حبينا)، وهو لا يرى أحداً من الجالسين في المقهى، ولا يهمه من يكونون، المهم أن تياراً يشبه الكهرباء، يخرج من آلة التسجيل، ليخترم أذنيه، ثم يزلزل جمجمته، فيرقص ما بداخلها، من خلايا وألياف وشرايين، تنزل حمى الرقص رويداً رويداً الى أعماق جسده، فيختض لحظة، ثم يسكن، ويختض مرة أخرى، فتكتنفه رعشة تصعق روحه، فيستجيب الجسد، يرفع يديه الى أعلى ما يستطيع، يبتسم لنفسه، لا لأحد، ويداه مرفوعتان، يدور حول نفسه.. يدور ..يدور، ثم يتوقف، ليصغي بلا وعيه الى فريد الأطرش، وهو يترنم مع ذلك التنسيق الموسيقي العالي(حبينا ..حبينا). لا يشعر بمن حوله، لا يسمع التصفيق الذي التهبت به أكف الجالسين في المقهى، لا يراهم أصلاً، فكيف يحس ويتفاعل مع شيء لا يسمعه ولا يراه، يعود الى الدوران، ولا ينسى أن يجعل جسمه يرتعش مع حركية الرقص، بانسجام يرضيه، ويضحك الحاضرين، لا يسمع الأصوات التي تحيط به، مشجعة أو ساخرة أو مشفقة، لا يعترف بشفقة أحد، لا يعجبه سوى الاندماج برقص يفترض أنه متناسق ومتوازن مع صوت فريد، لذلك لا يسمع في هذا الكون، سوى (حبيناكي..حبينا)، وأغنية أخرى من روائع فريد.
يبقى هكذا حتى لو انتهت الأغنية، تأخذه استمرارية الرقص، ربما لا يحس أو يدري أن الأغنية انتهت، لكنه يبالغ في اظهار التماهي بهذه الأغنية، لا شيء يتماهى به أو معه سوى تينك الأغنيتين، حلمه التماهي إذن؟ لذلك لا يكترث إن كان عارياً في ذلك الشتاء القارس، أو يمشي ورأسه مرفوع في آب اللهاب، ربما لا أحد يعي آلامه، ويشفق عليه سوى (أبو صالح)، والشفقة غناء وليست شيئاً آخر. يكفي أن يُسمعه(حبينا..) حتى تتفطر روحه هياماً، ويضيّع نفسه في غيابة الرقص، وما أن تنتهي(حبينا..) حتى يطلق (أبو صالح) أغنيته الأثيرة حد العظم (زينة..زينة..زينة..زينة والله زينة). هنا يدخل مرحلة جديدة في الرقص، قد تكون غيبوبة، أو هستيريا، أو أي شيء آخر يجعل الأرض لا تحتمل أوجاعه التي يترجمها رقصاً، فيسبح في الفضاء، يرقص قفزاً، يجعل رواد مقهى (البجاري) يغرقون في موجات من الضحك المتواصل، وكسعفة في عاصفة يهتز جسده في جنون. ومن خلال أغنية (زينة) يستطيع رواد (البجاري) أن يروا الدموع واضحة وهي تملأ عينيه، ابتسامته الحزينة لا تنقطع طوال مدة الرقص، وبمفارقة الدمعة والابتسامة تتجلى لديه روح التماهي، فيغيب في كون آخر، لا يرى إلا ما يحلم برؤيته، وكم يحلو له أن يمارس طقوس رقصه، وبيديه سيجارتان لا تنطفئان الا في لحم أصابعه، لا يحس باحتراقهما، لا يدري كيف توصله قدماه يومياً الى مقهى (البجاري)، لا يعرف سر هذا السحر، ولا يشعر بما يصيبه أو يعانيه من أذى الناس خلال مسيرته الطويلة. ولكنّ شيئاً ما يقوده، من يديه الضامرتين بعظامهما البارزة، ولا يتوقف عن جرّه وراءه حتى يصل الى (البجاري). لا يذكر شيئاً من حياته، ولا تهمه التفاصيل، لكنه قد يتألم إذا ضربه أحدهم، أو قذفه بحجارة، أو تعثر وسقط على وجهه، مرات كثيرة كان يأتي مدمى الوجه، أو إحدى الساقين، لا أحد يعرف من ضربه، أو لماذا ضربه؟.
وذات صباح كان وجهه يسبح بالدماء، لكنه لبى نداء الروح، وأرهق خطاه المتعبة، حتى وصل الى باب المقهى، اشتدت غريزة الرقص لديه، فصار يدور حول نفسه بسرعة، وعيناه مغمضتان من الدم الذي ملأ وجهه، فلن يعوق شيء طقوس الرقص اليومية.
رقص.. رقص، حتى خشي عليه رواد المقهى من الاصطدام بالجدار، لكنه توقف فجأة، ابتسم لنفسه، وقفز في الهواء، حينما نشبت بروحه حرائق اللذة العظمى (زينة والله زينة)، وكان واضحاً أن الدموع تنزل من عينيه، مبعدة الدماء عن طريقها، ليدفع بعضها بعضاً، حتى تصل الدمعة الأولى الى الأرض.
ومنذ أن اختفى فجأة قبل سنتين، ومازال (أبو صالح)، يخرج رأسه من باب المقهى، ينظر يمنة ويسرة، يقرأ عقارب ساعته..إنها الحادية عشرة، فيضغط على آلة التسجيل، وتشتعل مقهاه باللحن الأثيري(زينة والله زينة)، برغم إدراكه أنه لن يعود الى المقهى أبداً..!

*القصة فازت في المرتبة الثالثة من مسابقة القصة القصيرة لمجلة “شجون عربية”.

**روائي وناقد أدبي عراقي.