من مصلحة طهران التفاوض مع ترامب

من مصلحة طهران التفاوض مع ترامب
Spread the love

بقلم: د. هيثم مزاحم —

قبل سنة، دُعيت إلى ندوة مغلقة مع أحد الدبلوماسيين الإيرانيين في بيروت، جمعت نحو 12 باحثاً وإعلامياً، وذلك للحديث عن آثار وتداعيات العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إيران إثر انسحابه من الاتفاق النووي معها في صيف العام 2015.
كان سؤالي للدبلوماسي الجريء والصريح كالتالي: إن ترامب لديه عقدة سلفه الرئيس باراك أوباما وهو لذلك ألغى جميع الاتفاقات التي أبرمها أوباما، من الاتفاق النووي مع إيران إلى اتفاقية المناخ في باريس، إلى الاتفاقية مع نافتا والاتفاقية مع دول المحيط الهادئ، فضلاً عن قانون الصحة المعروف بـ”أوباما كير”. فهل تفكّر طهران بالتفاوض مع ترامب والتوصل إلى اتفاق تسوية معه تجعله يبدو منتصراً وتخفف من عقدته تجاه أوباما.
كان جواب الدبلوماسي بأن مسألة التفاوض مع ترامب واردة وغير مستبعدة.
اليوم بعد مضي عام على هذا الحديث وعلى عودة العقوبات الأميركية على إيران، وتشديدها إلى حدها الأقصى من خلال السعي إلى تصفير واردات النفط الإيرانية، وبعد تصاعد التهديدات الأميركية لطهران بالحرب في حال قامت بأي اعتداء على القوات الأميركية أو حلفاء أميركا في الخليج والشرق الأوسط، ترك ترامب الباب واسعاً أمام إيران للعودة إلى التفاوض مع إدارته، فأرسل رقم هاتفه إلى المسؤولين الإيرانيين، معرباً عن توقعه بأن الإيرانيين سيتصلون عاجلاً أم أجلاً طلباً للتفاوض.
تصلّب القيادة الإيرانية برفض التفاوض مع واشنطن، وعدم إبدائها أي خوف من التهديدات الإيرانية واستعراضات حاملات طائراتها وقاذفاتها العسكرية في الخليج، وتأكيدها بعدم رغبتها في الحرب واستعدادها لها في الوقت نفسه، كل ذلك جعل ترامب يتراجع في خطابه التهديدي والتصعيدي، بداية من تأكيده أنه لا يريد الحرب ومن ثم أنه لا يريد تغيير النظام الإسلامي في إيران، ولاحقاً بمدحه إيران وقدراتها في أن تكون أمة عظيمة في حال الاتفاق معه.
واضح أن ترامب شعر أن هناك من يريد توريطه في حرب، سواء في إدارته من معسكر الحرب الذي يقوده مستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير خارجيته مايك بومبيو وكذلك نائبه مايك بنس، وكذلك في إسرائيل وبعض الدول الخليجية، أي من أسماهم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف المعسكر “ب” لكون قادة هذا المعسكر تبدأ كنياتهم بحرب “ب” B. وقد قبل ترامب بوساطة عدد من الدول بين بلاده وطهران، من سويسرا إلى سلطنة عمان والكويت والعراق، وصولاً إلى اليابان، على أمل تخفيف التوتر بين الدولتين وتجنب الانزلاق إلى أي مواجهة عسكرية قد تقود إلى حرب شاملة ستضر بالطرفين والمنطقة بأكملها.
ببساطة، ترامب يريد النزول عن الشجرة التي ورّط نفسه أو تم توريطه بالصعود إليها في حملة “الحد الأقصى” ضد إيران وتصفير وارداتها من النفط. أن تمنع دولة تعتمد في أكثر من 70 بالمئة من عائداتها على تصدير النفط والغاز من تصدير هاتين السلعتين فإنك تشّن عليها حرباً اقتصادية ستكون تداعياتها على إيران أكثر إيلاماً وخطورة من الحرب العسكرية. من هنا جاءت الرسالة الإيرانية غير المباشرة في عمليتي الفجيرة وينبع ضد ناقلات ومصافي نفط على البحر الأحمر كي تقول إن منعت من تصدير النفط فلن أكون الوحيدة التي تمنع من تصدير نفطها. ولن أغلق مضيق هرمز والخليج الفارسي فقط وإنما كذلك تصدير النفط الخليجي عبر البحر الأحمر وباب المندب.
لكن الرفض الإيراني المعلن بعدم قبول التفاوض مع واشنطن لا يساعد ترامب ويحرجه، وربما يجعله تحت ضغط معسكر الحرب لتوريطه في مواجهة مع إيران، كان أوباما قد رفض خوضها معتبراً أن على دول الخليج العربية حل مشكلاتها مع إيران بالحوار والتفاهم وتشارك النفوذ في المنطقة وليس المواجهة العسكرية ولا توريط بلاده في حرب مع “الجمهورية الإسلامية”.
لا يعني الرفض الإيراني المعلن بأنه لا توجد قنوات تفاوض خلفية أو غير مباشرة تجري حالياً بين طهران وواشنطن، لكن إحدى مشكلات النظام الإيراني المزمنة أنه رفع شعار “الموت لأميركا” فأصبح عبئاً عليه وأصبحت مسألة العداء للولايات المتحدة مبرراً لوجود النظام أو على الأقل للجناح المتشدد فيه، المتمثل بحرس الثورة الإسلامية. أذكر أن الرئيس الأميركي الأسبق بين كلينتون أراد فتح حوار مع طهران، وقد رتب لقاء صدفة مع الرئيس الإيراني أنذاك محمد خاتمي في الأمم المتحدة كي يتم كسر جليد العلاقات المقطوعة بين البلدين منذ العام 1980 وأزمة الرهائن الأميركيين في طهران. لكن الجناح المحافظ بزعامة المرشد علي خامنئي قد أفشل هذا اللقاء.
وبعد نحو عقد من ذلك، اضطر المحافظون في إيران إلى القبول بالتفاوض مع الولايات المتحدة ضمن مجموعة (5+1) التي تضم الدول الكبرى الخمس + ألمانيا، والتوصل إلى الاتفاق النووي في تموز – يوليو 2015. الاتفاق كان تسوية مرضية للطرفين، إيران تنازلت عن تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية وعن تخزين اليورانيوم المخصب داخل أراضيها بما يضمن عدم سعيها لإنتاج أسلحة نووية، وذلك لمدة عشر سنوات. في المقابل تم رفع العقوبات الدولية والأميركية عن إيران، وهي عقوبات مؤلمة أضرت بالاقتصاد والتنمية في الجمهورية الإسلامية وأذت معظم فئات الشعب الإيراني.
هذا الاتفاق لم يرضِ إسرائيل والسعودية لثلاثة أسباب:
1-انتهاء القيود على برنامج إيران النووي بعد عشر سنوات من توقيعه أي في العام 2025، مما يسمح لها حينها بالعودة إلى التخصيب بنسبة أعلى وبتخزين اليورانيوم داخل البلاد وربما إنتاج قنابل نووية إذا أرادت ذلك.
2-عدم تطرق الاتفاق إلى سلاحها الصاروخي المتطور، أي الصواريخ الباليستية التي أصبح مداها يصل إلى أكثر من ألف كيلومتر وأضحت دقيقة الإصابة، مما يجعلها تشكل تهديداً لإسرائيل.
3-عدم شمول الاتفاق ما سمّي بـ”التدخل” الإيراني في عدد من دول المنطقة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين ودول الخليج العربية.
من هنا تدرك إيران أن التفاوض إذا أعيد فتح أبوابه مع واشنطن فسوف يتم حول هذه القضايا الثلاث، وهي غير مستعدة للتنازل بشأنها. لكن على طهران أن تدرك أن تقديمها بعض التنازلات في إحدى هذه القضايا أو كلها ولو كانت شكلية أو جوهرية، قد يكون أفضل من مواجهة عسكرية مع أميركا قد تعيدها عقوداً إلى الوراء، وكذلك أفضل من عقوبات اقتصادية قد تجوّع الشعب الإيراني وتضعف نظامها. ولنا في حصار العراق منذ عام 1991 وإضعافه وصولاً إلى غزوه عام 2003 مثال ينبغي التفكير فيه.
والكلام الأميركي عن عدم الرغبة في تغيير النظام الإيراني كذب. فخلال لقاءاتي مع عدد من المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية بين عامي 2004 و2005 كانوا يرددون عبارة “لا نريد تغيير النظام السوري، نريد تغيير سلوك النظام”. حسناً، بعد خمس سنوات انطلقت شرارة “الربيع العربي” وأضحى تغيير النظام السوري هدفاً أميركياً معلناً وتم حشد الدول والجهاديين التكفيريين وتمويلهم وتسليحهم للقيام بهذه المهمة.
طبعاً، المقارنة بين إيران وسوريا غير متناسبة من حيث عدد السكان ومساحة البلاد وكذلك القدرات الاقتصادية والعسكرية، والبنى الطائفية والديموغرافية والطبيعة الأيديولوجية لكل منهما. ولا شك أن الحرب مع إيران ليست نزهة وغزوها سيكون مكلفاً ومؤلماً أضعاف غزو العراق، هذا إذا افترضنا إمكانية حصول هذا الغزو من ناحية عملية وعسكرية أساساً، فضلاً عن تماسك النظام الإسلامي وتمتعه بقاعدة شعبية جماهيرية كبيرة قد تصل إلى أكثر من 60 بالمئة من الشعب وقد تصل إلى 80 أو 90 بالمئة في حالة أي عدوان أجنبي على البلاد.
إلا أنه لا ينبغي الاستهانة بالخطط الأميركية وخصوصاً “الحرب الناعمة” الاقتصادية والإعلامية – الدعائية التي دفعت إيران إلى التفاوض على الاتفاق النووي بين عامي 2014 و2015، فهي تهدف اليوم إلى إضعاف إيران اقتصادياً وسياسياً من الداخل كي يسهل الانقضاض عليها من الخارج أو إسقاطها من الداخل.
على القيادة الإيرانية أن تتخلى عن بعض شعاراتها المحافظة في الوقت الراهن وتفكر بواقعية وبراغماتية، وتتجنب البطء في رد الفعل والاستجابة، فلعل التفاوض مع إدارة ترامب لشراء الوقت واتقاء شرّه وشر معسكر الحرب، هو أفضل خيار لها اليوم. أيها الأصدقاء الإيرانيون نحن في عصر “الديجيتال” والـ”5 جي” ولم نعد في عصر حياكة السجاد اليدوي!.

د. هيثم مزاحم رئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط.