سياسات الاستقطاب الصينية – الأميركية لدول جزر المحيط الهادي

سياسات الاستقطاب الصينية – الأميركية لدول جزر المحيط الهادي
Spread the love

بقلم؛ الأستاذ الدكتور عبد القادر دندن (Abdelkader Dendenne) –
باحث في الشؤون الآسيوية – جامعة عنابة – الجزائر/

مقدمة: تحولت دول جزر المحيط الهادي إلى مواقع حساسة على الخريطة الإقليمية والعالمية، وفضاء جيوستراتيجيا هاما في أجندة كبريات القوى العالمية وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فهي لم تعد مجرد وجهات سياحية بسبب جمالها وتنوع ثقافاتها المحلية، فقد خرجت من عزلتها الطبيعة وها هي تدخل غمار ساحة المنافسة الإستراتيجية إقليميا وعالميا، وهو ما منحها رغم ضآلة المساحة التي تشغلها على الخرائط الجغرافية، أوراق قوة تستطيع اعتمادها في تسيير علاقاتها بالقوى الراغبة في التقرب منها وضمها إلى قائمة حلفائها. فمع تنامي المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة التي تقع تلك الدول الجزرية في صلبها، وتنامي القوة الصينية وسعيها لتوسيع رقعة نفوذها نحو تلك الدول، وجعلها مراكز اقتصادية وأمنية وعسكرية على امتداد طرق التجارة الرئيسية التي تعبرها، لم تعد تلك الجزر بعد اليوم مهمشة أو منسية كما كانت من قبل، بل ضمن الفواعل التي تلفت انتباه مختلف القوى وتحظى بموقع هام في السياسات والإستراتيجيات المتبناة من طرف الصين والولايات المتحدة وحلفائها، ودليل ذلك مساعي كل طرف لاستقطاب تلك الدول إلى صالحه، وهو ما اتضح من خلال زيارات كبار المسؤولين الصينيين لها، او من خلال دبلوماسية القمم التي اتبعتها الولايات المتحدة في علاقاتها مع تلك الدول، من خلال قمة واشنطن العام الماضي، ثم القمة الثانية للولايات المتحدة ودول المحيط الهادي في شهر أيلول / سبتمبر هذه السنة، فكيف إذا انتقلت دول جزر المحيط الهادي من حالة الإهمال الإستراتيجي، إلى موضوع تنافس بين القوى الكبرى عالميا وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة الأمريكية؟
1- الخصائص الجغرافية والخلفيات التاريخية لجزر المحيط الهادي: تختلف بلدان جنوب المحيط الهادي من حيث الحجم، بدءاً بأستراليا الأكبر مساحة، وهي سادس أكبر دول العالم بـ 7,617,930 كم2، وعدد سكان قدره 26 مليون نسمة، ثم بابوا غينيا الجديدة، بمساحة تقدر بأكثر من 462 كم2 تسكنها 10 ملايين نسمة، وتليها نيوزيلندا التي يتوزع أكثر من 5 ملايين نسمة على مساحتها ذات الـ 268 كم2، بينما بقية دول المنطقة فهي صغيرة الحجم والسكان بشكل كبير، مثل دول ناورو وتوفالو، حيث يقترب عدد السكان من 10 آلاف نسمة فقط. (1) وتوجد خمس دول جزرية من المحيط الهادي ضمن قائمة العشرين دولة الأصغر حجما في العالم، مثلما يوضح ذلك الجدول الموالي:
دول جزر المحيط الهادي ضمن العشرين دولة الأصغر في العالم
الدولة المساحة الترتيب العالمي
ناورو 21 كم2 الثالثة
توفالو 26 كم2 الرابعة
جزر مارشال 181 كم2 السابعة
بالاو 459 كم2 السادسة عشر
ولايات ميكرونيزيا الموحدة 468 كم2 السابعة عشر
المصدر: ما هي أصغر 20 دولة في العالم؟، https://2u.pw/YFuDz0b
وتقع دول جُزر المحيط الهادي عموما بين الولايات المتحدة والصين وأستراليا فيما يعرف بقارة أوقيانوسيا، وتتمتع بأهمية إستراتيجية أمنية دفاعية، ولا تشكل جزر المحيط الهادي كتلة واحدة، بل هي منطقة متنوعة تتكون من كثير من البلدان والثقافات،(2) وخاصة الثقافات المحلية العريقة التي سبقت ثقافة الرجل الأبيض الوافد لتلك الأراضي بزمن سحيق، ففي أرخبيل فانواتو الصغير جدا لوحده توجد 138 لغة محلية، مما يجعله إحدى أعلى المناطق كثافة لغويا،(3) وتعد بابوا غينيا الجديدة صاحبة أكبر تنوع لغوي في العالم، باحتوائها على العدد الأكبر من اللغات المحكية المقدرة بأكثر من 1800 لغة، ولديها كذلك أعلى مؤشر للتنوع في العالم، وهذا بالضبط أحد الأسباب وراء تحدث العديد من اللغات في تلك المنطقة.(4)
كما تحفل بقية الجزر الصغيرة بزخم ثقافي ولغوي وعرقي متنوع، وهو ما دفع الأمم المتحدة عن طريق اليونيسكو لتأسيس ما يعرف بـ اللجنة الأوقيانوغرافية الحكومية الدولية، وبرنامج نظم المعارف المحلية ومعارف الشعوب الأصلية، وبتكليف من اليونيسكو تم إطلاق تقريرين حول المعرفة التي يفرزها أسلاف سكان جزر المحيط الهادئ، وقد كلفت اليونسكو بإعداد الأعمال التي تقدم لمحة عامة عن تاريخ وتراث وحالة أجداد المحيط الهادي المعاصرة، والتركيز بوجه خاص على معارف ومهارات نساء جزر المحيط الهادئ. والهدف من ذلك هو إشراك أصحاب المعارف من الشعوب الأصلية في المناقشات الوطنية والإقليمية الرئيسية بشأن مستقبل المحيطات، وسبل العيش المستدامة، وتعزيز المعارف التقليدية كجزء من استراتيجية تعزيز عقد الأمم المتحدة للمحيطات.(5) وهذا التنوع الثقافي هو ما جعل الباحث العالمي المتخصص في شؤون المحيط الهادي الأسترالي “نيكولاس توماس” في كتابه “أوقيانوسيا”، يشيد بهذا التنوع في المنطقة ويحطم ما وصفه بأسطورة أن “أوروبا جلبت التاريخ إلى عالم لا تاريخ له”، في إشارة إلى القصة الحزينة للتملك والانهيار الثقافي التي سببها وصول المستعمرين الغربيين البيض لجزر المنطقة.(6)
وعلى الرغم من صغر مساحة أغلبية هذه الدول، إلا أن كل منها تتمتع بصوت متساو في الأمم المتحدة. كما تسيطر على مصايد الأسماك ومعادن قاع البحار على مساحة من المحيط أكبر بثلاث مرات من مساحة الولايات المتحدة القارية. وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية في أي صراع يتعلق بالصين، وتتعدد أنظمة الحكم في هذه المنطقة، من جمهوريات، وديمقراطيات برلمانية، ونظام ملكي في دولة وحيدة هي تونغا، وثلاث دول فقط من جزر المحيط الهادي لديها جيوش.(7)
وتلتئم دول المنطقة الجزرية ضمن تجمع إقليمي معروف باسم “منتدى دول المحيط الهادي” The Pacific Islands Forum (PIF)، الذي تأسس عام 1971 ليكون أول منظمة سياسية دولية في المحيط الهادي. ويضم حاليا 18 دولة، وهي: أستراليا، نيوزيلندا، بابوا غينيا الجديدة، جزر كوك، فيجي، كريباتي، جزر مارشال، ميكرونيزيا، ناورو، نيوي، بالاو، جزر سليمان، ساموا، تونغا، توفالو، فانواتو، بولينيزيا الفرنسية، كاليدونيا الجديدة، بالإضافة إلى 9 أعضاء مراقبين عبارة عن دول ومنظمات إقليمية وعالمية، مثل صاموا الأمريكية، وتيمور الشرقية، والأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها، ويقع مقر المنتدى في سوفا Suva عاصمة جزر فيجي.(8)

الدول الجزرية في المحيط الهادي

المصدر: أيمن سمير، صراع في جزر المحيط الهادي، صحيفة الخليج، 23 يونيو 2023. في:
https://2u.pw/zQmioCU
2- توجه الصين نحو الدول الجزرية للمحيط الهادي: أفاد تقرير صادر في سبتمبر/ أيلول 2023، عن مؤسسة «فردريش إيبرت» الألمانية للدراسات السياسية، أن تلاشي الاهتمام الدبلوماسي الغربي بمنطقة المحيط الهادي بعد الحرب الباردة، وفي فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، كان بداية تنامي المصالح الصينية في النمو بالمنطقة، حيث دعمت الصين مجموعة من الاقتصادات النامية من خلال مبادرة الحزام والطريق، بتقديم قروض للبنى التحتية منخفضة الفائدة لهذه الدول التي تعاني من ضعف في هذا الجانب، وقد سمح ذلك بتوسيع النفوذ الصيني في المحيط الهادي.. فوفقاً لأرقام الحكومة الصينية، توسعت تجارة بيجين مع المنطقة، لتصل إلى 5.3 مليار دولار في عام 2021، مقابل 153 مليون دولار فقط في عام 1992.. ويرجح خبراء أن تستخدم الصين نفوذها المتزايد هناك لعزل تايوان عن الدعم الدبلوماسي الذي تتلقاه من المنطقة، حيث تعترف كثير من دول المحيط الهادي (مثل جزر مارشال، وناورو، وبالاو، وتوفالو) بتايوان بوصفها دولة ذات سيادة.(9)
وبالفعل كانت جزر سليمان قاطرة التغلغل الصيني في المنطقة، فقد حققت الصين هناك خرقا إستراتيجيا لافتا، حين تمكنت من إقناع الأرخبيل المكون من حوالي 1000 جزيرة، بنقل اعترافه من تايوان نحو الصين عام 2019.(10)
وفي شهر نيسان/ أبريل 2022، راجت أنباء عن اتفاق بين الصين وجزر سليمان، يتضمن بنودا تتعلق بالجانب الأمني والشرطي، ومع من أن الصين صرحت بأن الاتفاقية ستساعد جزر سليمان في الحفاظ على النظام الاجتماعي والتعامل مع الكوارث الطبيعية والإغاثة الإنسانية، وأنها لا تشكل أي خطر على الولايات المتحدة، إلا أنه ساد تخوف من طرف الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، من أن تكون الصين تخطط للرد على اتفاق أوكوس الثلاثي، ولطالما عبرت أستراليا ونيوزيلندا عن خشيتهما من اتفاق بكين مع أي من الدول الجزرية المجاورة لهما لإنشاء قاعدة عسكرية لها هناك، وصرح نائب رئيس الوزراء الأسترالي “بارنابي جويس”: “لا نريد كوبا صغيرة قبالة سواحلنا”، وفي 22 نيسان/ أبريل حذرت واشنطن من أنها سترد إذا أقدمت الصين على إقامة قاعدة عسكرية هناك، مما سينجر عنه تداعيات أمنية على الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ورغم عدم وجود تأكيد صيني علني مع جزر سليمان لإقامة القاعدة، إلا أن مجرد الشكوك حول إقامتها كان كافيا لتوتر الأجواء في المنطقة.(11)
وفي إطار عمل بيجين على توسيع هامش مناورتها في المنطقة، قام وزير خارجيتها “وانغ يي” بدءا من 26 أيار/ مايو إلى غاية 4 حزيران/ يونيو 2022، بزيارة لسبع دول جزرية صغيرة وهي: جزر سليمان، وكيريباتي، وساموا، وفيجي، وتونغا، وفانواتو، وبابوا غينيا الجديدة، بالإضافة إلى تيمور الشرقية، واستغل الوزير الصيني الجولة للتأكيد على “التمسكات أو المبادئ الأربعة”، المتبعة من طرف بلاده في تعاملها مع تلك الدول، وهي:(12)
– التمسك بالتعامل على قدم المساواة: تؤمن الصين دائما بأن الدول كبيرة كانت أم صغيرة، تقف على قدم المساواة، وتعتبر الدول الجزرية في المحيط الهادي جزءا هاما من التعاون والشراكة في المنطقة.
– التمسك بالاحترام المتبادل: تحترم الصين دائما سيادة الدول الجزرية في المحيط الهادي وسلامة أراضيها، فضلا عن جهودها لاستكشاف طريق تنمية يناسب ظروفها الوطنية.
– التمسك بالتعاون القائم على الكسب المشترك: ستظل الصين مناصرة وبانية وداعمة لتنمية الدول الجزرية في المحيط الهادي، وتكرس نفسها لتعميق التعاون العملي معها في جميع المجالات.
– التمسك بالانفتاح والشمول: ينبغي أن تكون منطقة جنوب المحيط الهادي ساحة للتعاون، وليس ساحة لمنافسة مدمرة، فتعاون الصين مع تلك الدول لا يستهدف أي دولة، ولا ينبغي لأي دولة أن تعرقله.
وراقبت أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية عن كثب جولة وزير الخارجية الصيني في المنطقة، حيث يخشى البلدان من وضع الصين الأساس لوجود عسكري هناك، من شأنه أن يوسع نفوذها إلى جنوب المحيط الهادي.(13)
وازدادت حالة الشك واللايقين لدى الولايات المتحدة وحلفائها تجاه علاقات الصين بدول جزر المحيط الهادي، على إثر زيارة رئيس وزراء جزر سليمان “ماناسيه سوغافاري” لبيجين في يوليو 2023، وتوقيعه مع رئيس مجلس الدولة الصيني “لي كه تشيانغ”، على اتفاقية لتعزيز التعاون مع الصين في “إنفاذ القانون والقضايا الأمنية”، وجاء في البيان المشترك بين الطرفين: “سيواصل الجانب الصيني تقديم الدعم والمساعدة لجزر سليمان، حسب الحاجة في تعزيز قدرة قوات الشرطة هناك على إنفاذ القانون”. وهي الخطوة التي أثارت مخاوف الشركاء التقليديين لجزر سليمان، لا سيما وأن اتفاقا سريا بين الطرفين يسمح لقوات عسكرية صينية بالتمركز في الجزيرة، رغم نفي رئيس وزرائها أن يكون ذلك منح لموطئ قدم عسكري دائم لبيجين هناك، وتزامن ذلك مع معلومات عن اتفاق أمني مرتقب للصين مع دولة كريباتي، التي أقامت علاقات دبلوماسية مع بيجين منذ عام 2019.(14)
هذه الحركية الإستراتيجية الناجمة عن تزايد أهمية الدول الجزرية في المحيط الهادي، تضع أمام الصين جملة من الفرص التي يجب عليها اقتناصها، وعددا من التحديات كذلك التي ينبغي وضع الاستجابات اللازمة لمواجهتها، فكما بإمكان المنطقة أن تمنح هامش مناورة جديد وواسع للصين، للرد على سياسة الاحتواء الممارسة عليها من طرف الولايات المتحدة وحلفائها، بإمكانها بالمقابل أن تخلق لها قيودا إستراتيجية على تحركاتها في المنطقة، من طرف القوى التقليدية التي تخشى تراجع نفوذها هناك.
3- الولايات المتحدة وسياسة تدارك الوضعية الإستراتيجية في دول جزر المحيط الهادي: في ظل تنامي المد الصيني في دول جزر المحيط الهادي، أشار “كورت كامبل” منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي لشؤون الهندوباسيفيك، إلى أن منطقة جنوب المحيط الهادي، قد تكون البقعة التي تشهد فيها الولايات المتحدة الأمريكية الاحتمال الأكبر لمواجهة “مفاجأة إستراتيجية” من الصين. وهو ما يتطابق مع انشغال الولايات المتحدة العميق من قيام الصين ببناء منشآت عسكرية في الدول الجزرية الصغيرة للمنطقة، مما يقلص من النفوذ الأمريكي، ويهدد وجودها المستقبلي هناك. وينتشر ذلك القلق نحو حلفائها الآخرين في المنطقة مثل أستراليا ونيوزيلندا واليابان والهند وحتى فرنسا، وجميعها تتخوف من تهديد التوسع الصيني متعدد الأبعاد في تلك المناطق لمصالحها، وهو ما يمكن أن يخلق توترات في المنطقة تذكر بأجواء حقبة الحرب الباردة.(15)
وتسارع السعي الأمريكي اتجاه جزر جنوبي المحيط الهادي، مع زيارة سابقة لوزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” في شباط / فبراير 2022 للمنطقة، وإعلانه عن السعي لإعادة افتتاح السفارة الأمريكية في جزر سليمان، والتي أصبح التمثيل الدبلوماسي الأمريكي فيها غير مقيم منذ إغلاق السفارة هناك في العام 1993، وهو ما فسره المراقبون بمحاولة صينية لملء الفراغ الذي تركه الأمريكيون في الجزيرة، رغم أن عمر العلاقات بين الصين وجزر سليمان حديثة، وتعود فقط إلى أيلول/ سبتمبر 2019، غير أن ذلك اصطدم بالإعلان عن الاتفاق الأمني لتلك الجزيرة مع الصين في أبريل من نفس العام.(16)
مثل ذلك الاتفاق إنذار خطر حقيقي للولايات المتحدة الأمريكية، التي أهملت علاقاتها مع دول المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة، وازداد الوضع سوءا مع سياسات الرئيس الأسبق “دونالد ترامب”، التي ركزت على التقوقع داخليا فيما يشبه سياسة عزلة جديدة، فسحت المجال للصين لتوطيد نفوذها هناك بأريحية نسبية.
وفي مواجهة ذلك قادت واشنطن في عهد الرئيس الجديد “جو بايدن” حملة كبرى لتجديد روابطها وتطوير علاقاتها بدول المنطقة، عن طريق آلية دبلوماسية القمم على أعلى مستوى، وهو ما أبرزته القمة الأولى بين واشنطن ودول جزر المحيط الهادي في 28 أيلول/ سبتمبر 2022، التي حضرها 14 رئيس دولة وحكومة من منطقة المحيط الهادي، وأعلن فيها الرئيس الأمريكي “بايدن”، أن “جزر الهادي تمثل صوتا حيويا في تعزيز مستقبلنا”، وتم في القمة الإعلان عن إنشاء صندوق مساعدات جديد لدول المنطقة بقيمة 810 مليون دولار، وافتتاح الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بعثة في فيجي بحلول أيلول / سبتمبر 2023، ونشر أعضاء من برنامج “فيلق السلام” التطوعي الأمريكي في فيجي وتونغا وساموا وفانواتو.(17)
وفي 25 أيلول / سبتمبر 2023، انعقدت القمة الثانية بواشنطن، بمشاركة قياسية لـ 18 دولة من المنطقة، وما ميز القمة هو اعتراف الولايات المتحدة رسميا باستقلال دولتين جديدتين في جنوب الهادي وإقامة علاقات دبلوماسية معهما، وهما جزر كوك ونيوي، اللتان كانتا تحظيان بحكم ذاتي مع ارتباط حر بنيوزيلندا، وذلك في محاولة جديدة لمواجهة النفوذ الصيني هناك.(18)
وصنعت دولة جزر سليمان الحدث مرة أخرى، حين غاب عن القمة رئيس وزرائها، رغم أنه كان قبل أيام قليلة فقط في نيويورك لحضور أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي استغل كلمته أمامها للإشادة بالتعاون التنموي الصيني ووصفه بأنه أقل تقييدا وأكثر استجابة وأكثر توافقا مع احتياجات بلاده الوطنية، وقال إن بكين هي شريكها الرئيسي في البنية التحتية، وهو ما وصفه مسؤولون أمريكيون بالأمر المخيب للآمال.(19)
وسبق للولايات المتحدة أن وقعت اتفاقيات مع بالاو وبابوا غينيا الجديدة وميكرونيزيا لتعزيز التعاون مع تلك الدول، فبموجب الاتفاق الدفاعية التي تم توقيعها بين الولايات المتحدة وبابوا غينيا الجديدة في مايو 2023، ستقدم واشنطن التدريبات والتمويل لجيش بابوا غينيا الجديدة، لمساعدتها على الاستجابة لمختلف التهديدات، مثل مواجهة الكوارث الطبيعية والتكيف مع تبعاتها، والرد على عمليات تهريب المخدرات، وبالرغم من أن فحوى الاتفاقية لم يُنشَر، فإن هناك تكهنات حول أنها ستسمح للقوات الأمريكية بـ ”الوصول المشروط” إلى الموانئ والقواعد والمطارات داخل البلاد، بما يمثل ميزة نوعية لواشنطن في المنطقة، كما تم تمديد اتفاق الارتباط الحر مع بالاو لمدة 20 عاماً جديدة، وتم التوقيع على اتفاق آخر مع ميكرونيزيا، وهناك مفاوضات مماثلة على اتفاق مماثل مع جزر مارشال، مما سيساعد واشنطن على تمديد نفوذها في المنطقة.(20)
ورغم صغر الدول الجزرية في المحيط الهادي، إلا أنها لجأت لتطوير سياسة للتحوط الإستراتيجي، تقوم على تبني خيارات سياسية متعددة الأطراف، بهدف إحداث موازنة في التعامل مع مختلف الأطراف، وتقليل المخاطر خاصة فيما يتعلق بعلاقاتها بالقوى الكبرى، وتجنب خسارة أو مواجهة أي منها، وهو ما تجلى في سياسة تلك الدول تجاه كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فقد أبدت رغبة في التعاون مع بيجين بما يخدم مصالحها من جهة، وحافظت على تقاربها مع واشنطن من جهة أخرى.(21)
وقد أكد الأمين العام لمنتدى جزر المحيط الهادئ “هنري بونا” مؤخرا، أن منطقة الجزر انتقلت مما أسماها “فترة الإهمال الاستراتيجي” قبل عقد من الزمن فقط، لتصبح موضع اهتمام استراتيجي ومنافسة في الوقت الحاضر، مضيفا أن على دول المنتدى أن تدرك أن الاهتمام الاستراتيجي الذي تتمتع به اليوم لن يدوم إلى الأبد، ولذلك لابد من الاستفادة منه بطريقة تضمن تحقيق مكاسب مستدامة لمنطقة الجزر وشعوبها لعقود قادمة. (22)

الخاتمة: هكذا إذا، وبعد عقود من الانزواء على هامش التطورات الإستراتيجية الإقليمية والعالمية، عادت الدول الجزرية للمحيط الهادي لواجهة الأحداث، مدفوعة بالتحولات التي تشهدها الساحة الآسيوية وخاصة ما تعلق بالصعود الصيني، ورغبة بيجين في توسيع نفوذها نحو مختلف أرجاء القارة ونطاقها الإقليمي البعيد كذلك بما في ذلك منطقة جنوب المحيط الهادي، مستفيدة من نموها الاقتصادي الكبير، ومشاريعها العملاقة مثل الحزام والطريق، وإستراتيجيتها الناعمة للتغلغل بمختلف الوسائل، وأخذ الاعتبارات الأمنية والعسكرية بعين الاعتبار أيضا، وقد كان النجاح الصيني في تسجيل إنجازات هامة في علاقاتها بالدول الجزرية في الهادي وخاصة مع جزر سليمان، مثار قلق أمريكي وحتى لدى القوى الإقليمية المجاورة لتلك الجزر مثل أستراليا ونيوزيلندا، وهو ما دفع واشنطن لتبني إستراتيجية شاملة لاستعادة النفوذ في تلك المنطقة، وما سياسة القمم التي دأبت على عقدها مع الدول الجزرية القابعة هنا سوى إحدى مظاهر تلك الإستراتيجية، وهذا ما يمنح تلك الدول الموصوفة بالصغيرة والمجهرية أهمية خاصة، ويفتح لها المجال للمناورة كذلك وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الطرفين الصيني والأمريكي، مع محاولة تحقيق توازن في العلاقات مع الجانبين قدر الإمكان، وتجنب الدخول في صراع مفتوح أو مباشر مع أي منهما.
الهوامش:
– شادي عبد الساتر، “جزر المحيط الهادي… ساحة حامية للصراع بين واشنطن وبكين”، صحيفة الشرق الأوسط، 25 أيلول 2023. في: https://2u.pw/GdOEHLi
2- المرجع نفسه.
3- فانواتو.. أرخبيل يتحدث 138 لغة، الجزيرة نت، 4 آذار 2018. في:
https://2u.pw/nCw1FkN
4- بابوا غينيا الجديدة.. 800 لغة للتفاهم، صحيفة الوطن الإلكترونية، 5 يناير 2019. في:
https://2u.pw/aFdC6zf
5- معارف الشعوب الأصلية في جزر المحيط الهادي وعقد الأمم المتحدة للمحيطات، منظمة اليونيسكو، 16 تشرين الثاني 2021. في:
https://oceandecade.org/ar/news/indigenous-knowledge-in-the-pacific-islands-and-the-un-ocean-decade/
6- جنان المحيط الهادي.. كيف حوّلت الاستكشافات الغربية جزر أوقيانوسيا لجحيم؟، الجزيرة نت، 30 آذار 2020. في: https://2u.pw/JnRzTtq
7- شادي عبد الساتر، مرجع سابق.
8- The Pacific Islands Forum (PIF), government of New Caledonia, 2022. https://cooperation-regionale.gouv.nc/en/cooperation-pacific-cooperation-instances-and-programs.
9- شادي عبد الساتر، مرجع سابق.
10- الصين توقع اتفاقاً مع جزر سليمان: تعاون في مجالي الأمن وإنفاذ القانون، العربي الجديد، 11 يوليو 2023. في:
https://2u.pw/Bdy4YiU
1 – إيميل أمين، “جزر سليمان.. كوبا ثانية في الجوار”، موقع إندبيندنت عربية، 30 أفريل 2022. في: https://www.independentarabia.com/node/326616
12- “وزير الخارجية الصيني يؤكد على “التمسكات الأربعة” في العلاقات مع الدول الجزرية في المحيط الهادئ”، وكالة تشينخوا الصينية للأنباء بالعربية، 27 ماي 2022. في: http://m.arabic.china.org.cn/orgdoc/doc_1_74175_2246911.html
13- “وزير الخارجية الصيني يزور ساموا لتعميق العلاقات بين البلدين”، تقرير وكالة الأناضول للأنباء، 28 ماي 2022. في: https://www.aa.com.tr/ar/
14- الصين توقع اتفاقاً مع جزر سليمان: تعاون في مجالي الأمن وإنفاذ القانون. مرجع سابق.

15- Darshana M. Baruah,What island nations have to say on Indo-Pacific geopolitics?,(Washington Carnegie Endowment for international peace, March 2022). p. 1.
16- صدقي عابدين، “دلالات الاختراق الصيني في جنوبي المحيط الهادي”، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 28 أفريل 2022. في: https://acpss.ahram.org.eg/News/17475.aspx
17- “واشنطن تتعهد بتعزيز حضورها في جزر المحيط الهادي لمواجهة الصين”، موقع سويس إنفو، 29 سبتمبر 2022، في www.swissinfo.ch/ara/47941658/
18- تحدّ جديد لبكين.. أميركا تعترف بدولتين صغيرتين بالمحيط الهادي، الجزيرة نت، 25 أيلول 2023. في:
https://2u.pw/JpTkMNX
19- تمويل الوعود.. مفتاح النجاح لقمة بايدن مع قادة منتدى جزر المحيط الهادي، وكالة الأنباء القطرية، 25 أيلول 2023. في: https://2u.pw/o53nOQp
20- ياسمين أيمن، تنافس جيوسياسي: لماذا تعزز إدارة بايدن نفوذها في جزر المحيط الهادي؟، إنترريجيونال للتحليلات الإستراتيجية، 1 يونيو 2023. في: https://www.interregional.com
21- “مرونة التحرك: كيف تستفيد جزر الهندوباسيفيك من التنافس الصيني- الأمريكي؟”، تقديرات إنترريجيونال، العدد 108، 16 نوفمبر 2022، في:
https://www.interregional.com/app/uploads/2022/11/1668601704_544_2758791_108.pdf
22- تمويل الوعود.. مفتاح النجاح لقمة بايدن مع قادة منتدى جزر المحيط الهادي. مرجع سابق.