في ذكرى النكبة

في ذكرى النكبة
Spread the love

بقلم: الأسير الفلسطيني الكاتب والروائي كميل ابو حنيش —

خاص “شجون عربية” – سجن رامون الصهيوني – رغم التداعيات الجسيمة التي احدثتها النكبة والتي لازالت تفعل فعلها في المنطقة إلا ان دولة الكيان لم تحقق مكاسب صافية تؤسس لاستقرار مشروعها النهائي، بل على العكس واجه المشروع الصهيوني مجموعة من التحديات قادت إلى ضرب أهم أسس استراتيجيتها وهي الاستراتيجية التوسعية، لقد قام المشروع الصهيونية على أساس التوسعية العدوانية في الجغرافيا وابتلاع المنطقة والهيمنة عليها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً لتبنى هذه الاستراتيجية على عاملين الأول هو أن إسرائيل بوصفها دولة وضيفية ربطت نفسها ومصيرها بقوى الاستعمار العالمي، اما الثانية بوهم التاريخ اليهودي والدولة اليهودية المُتخيلة منذ ثلاثة آلاف عام، لقد تبنت الصهيونية الرؤى اليهودية التوراتية المستندة بالحق التاريخي بحيث بات الوعد الإلهي الذي اعطي لبني إسرائيل الأرض احد اهم إسنادات الخطاب الصهيوني، ولكن ليُحاط علماً بأن هذا الحيز الجغرافي هو حق طبيعي يقع في مجال الرؤية الصهيونية لدولتها العتيدة سنة حرب عام 67 تحقيقاً لجزء من الرؤية بعد ان شاورت اسرائيل تياراتها القوية الأكثر تطرفاً وهماً بأن الحلم الصهيوني يمضي بنجاح.
لكن بعد ان تمكنت اسرائيل من السيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية وشبه جزيرة سيناء والجولان، والأهم من كل ذلك السيطرة على القدس والتي بدونها لم تكتمل الرؤية الصهيونية المدججة بالأساطير والروايات التلمودية والتوراتية.
إلا ان هذه النشوة التي حققتها اسرائيل بعد حرب 67 سرعان ما تلاشت فور ان اقتنعت ان ما حققته من مكاسب على الأرض يذهب ادراج الرياح، انه لم يكن بمقدورهم التمدد الجغرافي أكثر من ذلك، بل على العكس تماماً فإن اسرائيل مرغمة على اخلاء المناطق التي احتلتها بفعل عدة عوامل، ابرزها انطلاق المقاومة الفلسطينية والحروب التي أعقبت النكسة، ورفض العرب التسليم بهذا الاحتلال، وبالتالي إفقاد اسرائيل القدرة على تحقيق أي نتائج سياسية ذات طبيعية استراتيجية، وأرغمت اسرائيل على الانسحاب من سيناء بعد حرب عام 73 وبصورة مشابهة أرغمت على الانسحاب من لبنان الذي احتلت اجزاء منها عام 1988م، وأرغمت على الاندحار من قطاع غزة عام 2005م بفعل المقاومة الفلسطينية الباسلة، واليوم فإن اسرائيل مطالبة بإخلاء الضفة الغربية والقدس والجولان وهو الأمر الذي ينطوي على عدة نتائج ذات طبيعة استراتيجية:
أولاً: ان التقهقر الذي أجُبرت عليه اسرائيل بعد حرب 67 من انسحابها من ثلاث مراكز هامة تقع في صلب مشروعها الاستيطاني التوسعي تحت ضربات المقاومة، واستعدادها لهذا الانسحاب الدائم من الضفة والجولان والتفاوض حول القدس، هذا يعني ان المشروع الصهيوني الكبير، ضُرب بالصميم وهذه أهم ضربة يتلقاها هذا المشروع القائم على التوسعية والعدوانية.
ثانياً: في حال أخلت اسرائيل الضفة الغربية والجولان وأجزاء من القدس وتوصلت إلى تسوية في موضوع القدس تكون قد وجهت ضربة قاسية ليس لمشروعها الصهيونية الكبير فحسب، فهي قد زعزعت احد أهم الأسس التي بنيت عليها الرواية اليهودية والتوراتية على الدوام لاسيما وان هذه المناطق تعد من الوطن التاريخي المزعوم فالقدس الشرقية التي تمثل قلب اليهودية، وبهذا تكون قد سجلت لحظة فارقة في تاريخ الصراع من الممكن ان يجري التأكيد عليه في تجريد الصهيونية من أقوى سلاح تمتلكه في تاريخها.
ثالثاً: ان تقهقر اسرائيل خلف اسوارها العازلة والإسلاك الشائكة التي أحاطت نفسها بها على حدود الخط الأخضر وفي مصر والأردن وسوريا ولبنان يُفقد اسرائيل القدرة على المناورة وادارة الأزمات التي اتخذتها وسيلة فعالة في اشعال حرائق المنطقة، وهذه من شأنها ان تفاقم عدداً هائلاً من الازمات الكامنة في اسرائيل والتي كان يجري طمسها وتجاهلها وتأجيل حلها والهروب من استحقاقها تحت حجج وذرائع امنية ووجودية لعل ابرز هذه الأزمات هي الديمقراطية المزعومة، هوية الدولة، العلاقة بين الدين والدولة، المسألة الطبقية، الهويات والمذاهب والأعراف، العلاقات مع المحيط، الثروة وكيفية توزيعها، الأمن، المستقبل ..الخ.
رابعاً: ان انطواء اسرائيل خلف جاراتها يعني مزيد من العزلة والانغلاق وبالتالي ستكون امام أكبر “جيتو” يهودي في العالم، الأمر الذي يفرض على اسرائيل مواجهة ازمات غير مسبوقة كتساؤلات عن مستقبل مشروعها في المنطقة، وفي المحصلة فإن التقهقر الصهيوني في الجغرافيا يعني انكماشها التدريجي وانطلاقها من طور الوجود إلى طور الدفاع، ومن مرحلة القوة إلى مرحلة الضعف، ومن حالات التماسك إلى حالة التفتت والتفسخ، ومن الشكل الصاعد إلى الهبوط، ومن حالة الشباب إلى حالة الشيخوخة وحتى لا نكون كمن يحكي بالأمنيات والتعلق بالقدر، نقول ان الطريق مازال طويلاً وينبغي الاستمرار في الصمود والمقاومة بكافة اشكالها، فشعبنا الذي أريد له الاندحار والاندثار بعد النكبة، كان ولايزال حاله الصمود الذي قلص احلام اسرائيل وبدد رؤيتها التوسعية ويكفي شعبنا شرف التجذر بالأرض وثوراته المتنوعة والفريدة التي يشعلها بين مرحلة وأخرى، هذا كفيل بأن يعبد الطريق نحو الحرية والخلاص والهزيمة الحتمية للمشروع الصهيوني.

Optimized by Optimole