الجامعات في العصر الرقميّ

الجامعات في العصر الرقميّ
Spread the love

بقلم د. نديم منصوري* —

شهد العالَم خلال العقدَين الأخيرَين من القرن الحادي والعشرين تغيّراً كبيراً انعكَس على المجتمعات الإنسانيّة، وعلى المَعارف والعلوم المُختلفة. كما طاول مفاهيم القوّة والعمل والتقدّم والرفاهيّة، التي باتت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتكنولوجيا الرقميّة. وأدّى تشابُك ظاهرتَي تكنولوجيا المعلومات والانفجار المعلوماتيّ أيضاً إلى ظهور اقتصاد المعرفة القائم على الابتكار والإبداع وعلى اعتبار المعرفة المصدر الأساس للثروة ولتحقيق الميزة التنافسيّة.

إلّا أنّ تحقيق هذا الهدف مرتبط بإمكانيّة القدرة على الاستثمار في المَوارد البشريّة (الرأسمال الفكريّ والمَعرفيّ)، وفي تعليم القوى العامِلة المتخصّصة وتدريبها باستمرار، وفي توظيف تقنيّات تكنولوجيا المعلومات والاتّصال بشكلٍ فعّال، وفي تفعيل عمليّات البحث والتطوير كمحرّك للتغيير والتنمية الشاملة لقطاعات المجتمع كافّة.

فَرَض هذا الواقع متطلّبات جديدة للتعليم العالي للانتقال إلى الاقتصاد المعرفي، وهي متطلّبات تعليميّة، إداريّة بشريّة، تقنيّة، ماليّة، اجتماعيّة وثقافيّة. ما يَستدعي من أيّ جامعة في العالَم إعادة النَّظر في الأطر الكيفيّة التي تعمل بها لتقوم بوضع استراتيجيّة تأخذ بعَين الاعتبار أهميّة اقتصاد المعرفة في النظام التربوي والتعليمي الذي تعتمده.

هذا ما دفَع بعددٍ من الجامعات العالميّة إلى تطوير بنيتها وأنظمتها لتُواكب تحدّيات هذا العصر، وإلى أن تسعى لتكون بيئة ذكيّة ورقميّة عالَميّة من خلال بعض الخطوات، كتدريب مَهارات الموظّفين والطلّاب وتنويعها، وتعميق القدرة على التعامل مع الرقميّة، وتطوير البنية التحتيّة لتكنولوجيا المعلومات لدعم التعليم الرقمي وتعزيزها، وإعداد البحوث وتوسيع نطاق إدارة المجموعات الرقميّة والعمل على توفير العناصر الخمسة التي تقوم عليها الجامعة الذكيّة وهي: أشخاص أذكياء- بيئة ذكيّة- إدارة وحكُم ذكيّ- أبنية ذكيّة- شبكة معرفة.

لكن إذا ما نظرنا إلى واقع الجامعات في العالَم العربي، نجد أنّ معظمها يفتقر إلى توظيف التكنولوجيّة الرقميّة بالشكل الأمثل الذي يساعدها على تطوير العمليّة التعليميّة وتحسين جودة التعليم والمخرجات والارتقاء للتنافس مع الجامعات العالميّة، وعدم القدرة على الاستفادة منها ضمن أُطر التنمية المُستدامة من أجل الانتقال من مفهوم التنمية القائم على المَوارِد المادّية والطبيعيّة إلى تنمية ذكيّة قائمة على المَوارِد المعرفيّة.

وكي لا نقع في التعميم، فإنّ واقع التعليم العالي العربي ليس على درجة واحدة لجهة هضم التكنولوجيا الرقميّة أو لجهة رؤية حكوماته لكيفيّة التعاطي مع هذه التغيّرات.

يحتاج تطوير الجامعات إلى بناء مَوارِد معرفيّة جديدة تستند إلى بيئات تنظيميّة وإبداعيّة، وبنية معلوماتيّة وشبكيّة، ومهارات وقدرات من قِبل المُستخدِمين، ورؤية حكوميّة رشيدة تضع هذه المَوارد في صلب اهتماماتها. وهذا ما لم يكُن على مستوى واحد في معظم الدول العربيّة مُقارنةً بالدول التي تبنَّت ديناميّات التحوّل المعرفي منذ بداياته. كيف؟

يشير “تقرير التنافسيّة العالميّة The Global Competitiveness Report”، الصادر في العام 2018 عن المنتدى الاقتصادي العالَمي World Economic Forum، إلى تفوّق بلدان الخليج على صعيد القدرة التنافسيّة على الدول العربيّة الأخرى؛ حيث تحتلّ هذه البلدان على التوالي وفق التصنيف العالَمي بين 137 دولة المَواقع التالية: الإمارات في المَوقِع 17 عالَميّاً، قطر 25، السعوديّة 30، البحرين 44، الكويت 52، سلطنة عُمان 62، لتأتي بعدها الأردن 65، المغرب 71، الجزائر 86، تونس 95، مصر 100، لبنان 105، اليمن 137، الأمر الذي يشير إلى ضعف الترتيب العربي نسبيّاً، وإلى التفاوت بين البلدان العربيّة نفسها.

ولمّا كانت بعض المؤشّرات التي يعرضها التقرير مثل نوعيّة نظام التعليم، وتوافر أحدث التكنولوجيّات والقدرة على الابتكار، تشكِّل أحد أبرز مكوّنات التنافس وأحد مخرجات التعليم في الجامعات، حاولنا أن نتعمّق في هذه المؤشّرات ليتبيّن لنا أنّه كلّما تركَّز الاهتمام بنظام التعليم، ترتفع القدرة على الابتكار وبالتالي القدرة على التنافس والتمايز، وذلك على الرّغم من غياب المؤشّرات الاقتصاديّة الأخرى المهمّة.

فلبنان مثلاً الذي يقع ترتيبه العالَمي في المرتبة 105 كما ذكرنا، يحتلّ وفق التقرير، المَوقِع 18 عالَميّاً كنظام تعليمي، ما وضعه في المَوقِع 41 عالَميّاً في قدرته على التنافس. علماً أنّه يحتلّ المَوقِع 108 في إمكانيّة توفير التكنولوجيّات الحديثة وتعميمها على القطاعات العامّة. وهو الأمر الذي يؤكّد أنّ الاستثمار البشري هو الرصيد الأكبر في عمليّة التنافس، وأنّ ضعف الدولة ومؤسّساتها يعيق وصول العامل البشري إلى المَراتِب العليا ما يعطي صورة عن غياب تأثيره.

هذا لا يعني حتماً أنّ القدرة البشريّة هي عامل وحيد للتنافس، ولا أنّ النظام التعليمي الجامعي في لبنان أو في غيره من بلدان العالَم العربي لا يعاني من صعوبات للتكيُّف مع العصر الرقمي؛ فمِن المسائل التي بات على الجامعات الالتفات إليها في العصر الرقمي مسألة تصنيف حضورها العِلمي من خلال شبكة الإنترنت، أو ما يُعرف بـ “الحضور العِلمي عبر الويب” Webometrics Ranking.

يقوم بهذا التصنيف مختبر القياس الافتراضي Cyber Metris Lab التّابع للمركز الأعلى للبحث العِلمي CISC The Spanish National Research Council الذي يُعتبر أكبر مؤسّسة بحث في إسبانيا، والتّابع بَدوره لوزارة التعليم الإسبانيّة. ويتمّ من خلاله التحليل الكمّي للنشاط العِلمي للجامعات عبر الإنترنت في العالم، وذلك من خلال قياس حجم الصفحات الإلكترونيّة ووضوحها، والقدرة على الوصول الحرّ Open Access أي مدى إتاحة المقالات الأكاديميّة من دون قيود على المُستخدِمين، والتركيز على المُخرجات العِلميّة ومَكانة الجامعة واختصاصاتها، والخدمات التي تقدّمها للارتقاء بالعِلم والمعرفة.

ما هي المؤشّرات المُعتمَدة في قياس الحضور الرقمي؟

1- الوضوح Visibility: يتمّ التأكّد من جودة المحتوى الرقمي للمَوقِع الإلكتروني للجامعة. ويتمّ احتساب عدد الروابط الخارجيّة التي يستقبلها المَوقِع الإلكتروني من المَواقِع الأخرى. ويمثِّل هذا التفاعل اعترافاً عِلميّاً بمَكانة المؤسّسة ودَورها الأكاديمي في نقل المعلومات في الفضاء الرقمي.

يتمّ التحقّق من هذا المؤشّر من خلال أهمّ مَوقعَين إلكترونيَّين في جمْع بيانات هما:

http://www.majesticseo.com وهو أكبر قاعدة بيانات في العالَم، ويسعى إلى مَعرفة كيف ترتبط جميع المَواقع الإلكترونيّة على الإنترنت في ما بينها.
http://www.ahrefs.com وهو مؤشّر ضخم، يتمّ تحديثه كلّ 15 دقيقة، ويقدِّم تحليلاً غنيّاً للبيانات وفحصاً دقيقاً للروابط.
2- الفعاليّة Impact: يتمّ احتساب هذا المؤشّر استناداً إلى ثلاثة مؤشّرات فرعيّة هي:

الحضور Presence: يحدِّد هذا المؤشّر العدد الإجمالي لصفحات الويب webpages المُستضافَة في النطاق الإلكتروني web domain التابع للجامعة.
الانفتاح Openness: يحدِّد هذا المؤشّر عدد الملفّات مثل (Pdf- doc- docs- ppt) في المَواقِع المخصَّصة بحسب محرِّك غوغل العِلمي Goggle Scholar.
الجودة Excellence: يحدِّد هذا المؤشّر عدد الأوراق الأكاديميّة المنشورة في المجلّات الدوليّة الأكثر شهرة في العالَم، والتي تُسهِم في تصنيف الجامعات، وكذلك في تحديد درجة الاستناد والاستشهاد بهذه الدراسات المنشورة في مجالات تخصّصها العِلميّة.
تحتلّ الجامعات الأميركيّة مَوقِع الصدارة بحسب حضورها الرقمي في العالَم. فنجِدُ من خلال قراءة مفصَّلة لتصنيف مُختبر القياس الافتراضي، أنّ الجامعات الأميركيّة حازت على 41 مركزاً من أصل 50 من ضمن قائمة الجامعات العالَميّة الأكثر حضوراً في الفضاء الرقمي. هذا ما يعكس شكلاً أساسيّاً في ميزان التفوّق، لأنّ الإنتاجات المعرفيّة لم تعُد مجرّد معلومات، بل صارت اقتصاداً وسلطةً ومستقبلاً.

تقع جامعة هارفارد الأميركيّة University Harvard في المركز الأوّل في العالَم، فيما حازت بريطانيا على الموقع الثاني من خلال 4 جامعات من أصل الجامعات الـ 50 التي أدرجت من ضمن قائمة الجامعات العالميّة الأكثر حضوراً في الفضاء الرقمي، وذلك بعد الولايات المتّحدة الأميركيّة التي حصدت 41 جامعة من أصل 50، تليها كندا من خلال جامعتَين من أصل 50، ثمّ الصين عبر جامعة واحدة وهونغ كونغ عبر جامعة واحدة أيضاً.

اللّافت أنّ سنغافورة هي التي احتلّت المَوقع 51 بدلاً من أن تحتلّه اليابان أو كوريا الجنوبيّة – المتفوّقتان تكنولوجيّاً – اللّتان وقع ترتيبهما على التوالي في الموقع 58 و104 عالَميّاً! ما يُظهر أهمّية الحضور العِلمي عبر الإنترنت في تصنيف الجامعات في العصر الرقمي.

عربيّاً، تَظهر الفجوة الكبرى؛ حيث لم تَندرج أيّ جامعة عربيّة في التصنيفات سوى بعد مرور أكثر من 400 جامعة في العالَم! لتحلّ المَملكة العربيّة السعوديّة في المَوقع 419 عالَميّاً.

وبحسب جدول تصنيف الجامعات العربيّة للعام 2018، بحسب حضورها الرقميّ (راجِع: http://www.webometrics.info/en/Arab_world July, 2018.)، تقع السعوديّة في الترتيب الأوّل من خلال 4 جامعات، يليها لبنان (جامعة واحدة)، مصر (جامعتان)، قطر (جامعة واحدة)، الإمارات (جامعة واحدة)، الأردن (جامعة واحدة).

أمّا عن المؤشّرات المذكورة في هذا التصنيف (الحضور، الانفتاح، الجودة)، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّها قد تلعب دَوراً أساسيّاً في عمليّة التصنيف على المستويَين العالَمي والعربي. فعلى سبيل المثال لا الحصر تحتلّ جامعة أكسفورد العالَميّة الترتيب الثالث عالَميّاً وفق مؤشّر الجودة، وتحتلّ جامعة هونغ كونغ الترتيب الخامس، عِلماً أنّ تصنيفهما العالَمي هو 7 و51 على التوالي.

عربيّاً أيضاً، فإنّ الجامعة الأردنيّة التي تصنَّف العاشرة عربيّاً وفي الترتيب 1198 عالَميّاً، تحتلّ الترتيب 131 على الصعيد العالَمي بحسب مؤشّر الحضور، وبالتالي المَوقِع الأوّل عربيّاً. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجامعة اللبنانيّة التي تحتلّ الترتيب 46 عربيّاً، والترتيب 2193 عالَميّاً، حيث نجدها تتقدَّم وفْق مؤشّر الحضور إلى الترتيب السادس عربيّاً والترتيب 289 عالَميّاً.

نخلص إلى القول إنّ الحضور الرقمي هو مسألة مُتكاملة تحتاج إلى دراسات دقيقة واستراتيجيّات مستقبليّة تَكشف مَكامِن الضعف لتحسينها؛ حيث لا يُمكن من وجهة نظرنا امتلاك التفوّق العِلمي في هذا العصر، ما لم يكُن الحضور الرقمي واعِداً ويخطو خطوات متصاعدة في المستقبل القريب.

فالجامعات العربيّة على وجه الخصوص تحتاج إلى مُواكَبة العصر الرقمي: تعزيز أنظمة التعليم، تعزيز القدرات الإبداعيّة والإنتاجيّة، توفير البيئة الرقميّة، تعزيز النشر الإلكتروني عبر الإنترنت، تبنّي سياسات الانتقال إلى مجتمع المعرفة.

*أستاذ عِلم الاجتماع في الجامعة اللّبنانيّة

عن مؤسسة الفكر العربي.

Optimized by Optimole