​العِلمانيّة العربيّة في ضَوء العِلمانيّة الغربيّة

​العِلمانيّة العربيّة في ضَوء العِلمانيّة الغربيّة
Spread the love

بقلم: صلاح سالِم* —

رافَق الفِكر العِلمانيّ العربيّ نقيضه الدّيني طويلاً، من دون قدرة على حسْم الصراع معه في أوقات مبكّرة، تمتدّ في الربع الثالث من القرن الفائت، وفي ظلّ سياقات مواتية بما لا يُقاس مع ما نعيشه الآن، الأمر الذي يمثّل فرصة ضائعة على الأمّة، انفلتت من قبضة يدها قبل أن تحسم واحدة من أخطر مشكلاتها العمليّة وإشكالاتها النظريّة، تحت ضغط الاستبداد العسكري المتغلغل في ثناياها، والذي طالما نافَق الاستبداد الدّيني بهدف استعماله في كبْح النَّزعات التحرّريّة التي سوف تترتّب على المُجاهَرة بعِلمانيّة ناجزة يُفترض أن تذهب إلي غايتها الطبيعيّة وهي الديمقراطيّة وما تنطوي عليه من مَطالب مجتمعيّة مشروعة لتبادُل السلطة ولكنّها ليست مشروعة أبداً في نظر تلك الجماعات المُسيطِرة، التي بدا وكأنّها وضَعت يدَيها على مجتمعاتنا.

اليوم، بعد المآسي التي خلًّفها الربيع العربي وقد انقلب خريفاً إسلاميّاً، صارت مجتمعاتنا أحْوج ما تكون لإنجاز علمانيّتها خلاصاً من أمراض السلطة الجامدة، وأسئلة الشرعيّة المجمَّدة ناهيك بالواقع المُهترئ، ومن ثمّ يتوجّب على الفكر أن ينتقل من خانة الدّفاع إلى موقع الهجوم. صحيح أنّ الأرض لا تزال محترقة والاستبداد لا يزال مُسيطراً، ولكن تبقى الفرصة مُتاحَة لمثل هذا الهجوم مثلما أنّ الحاجة إليه ماسّة.

على الصعيد النظري يتعيّن التمييز بين مُصطلح العِلماني (بكسر العَين) والعَلماني (بفتحها). فالأوّل هو “العِلموي”، الذي يُمكن أن نصف به الذي يتّخذ من المعرفة العِلميّة الوضعيّة كما تتجسَّد في العلوم الطبيعيّة، نموذجاً لباقي أنساق المعرفة، ما يعني أنّه يُعمِّم المنهجيّة الوضعيّة على المجالات المُختلفة، نافياً إمكان المعرفة الخلقيّة أو الدينيّة؛ لأنّ القضايا المتعلّقة بأيّ منها ميتافيزيقيّة، لا يُمكن إخضاعها لمعايير العِلم التجريبي، ومن ثمّ فهي مزعومة أو زائفة. أمّا الثاني، فهو الشخص المنتمي إلى هذا العالَم، المُنشغل بالملكوت الدنيوي لا المُنتظِر للملكوت الأخروي. العلمانيّة ترادِف إذن النزعة الدنيويّة، والانشغال الإيجابي بحركة التاريخ بعيداً عن حالة الدروشة الصوفيّة أو أشكال الاغتراب الوجوديّة، حيث يَمنح العقل الإنساني، مستقلاً عن الدّين، دَوراً أساسيّاً في مُقارَبة مجالات الحياة المُختلفة، واكتشاف الغايات التي يجدر تحقيقها في هذا العالَم والوسائل المعنيَّة بتحقيقها. ومن ثمّ تصبح العَلمانيّة أقرب إلى موقف إبستيمولوجي/ معرفي، يحترم العقل، ويسعى إلى تنظيم المجال السياسي على أساسه. فالعَلمانيّة السياسيّة هي العقلنة مطبَّقةً على الفضاء السياسي، وبالأحرى على ظواهر من قبيل مُمارَسة السلطة وتداولها، وليست رؤية شاملة للحياة، تفرض على مُعتنقيها نزعة ماديّة أو موقفاً إلحاديّاً. ومن ثمّ فإنّنا لا نربط بين مفهوم العَلمانيّة السياسيّة، وبين المذهب الوضعي المتطرّف، نعم قد يرتبطان معاً في بعض التجارب، ولكنّه ارتباط إيديولوجي يقصد إليه صاحبه، وليس ارتباطاً حتميّاً يفرضه الانتماء للحداثة.

في هذا السياق يُمكن لمفهوم العَلمانيّة (السياسيّة) أن يبقي على احترام المطلقات الأخلاقيّة، ولا يمنع مُمارستها في المجال الخاصّ للفرد، بل يسمح بأن يكون التشريع القانوني متوافقاً مع المبادئ الأساسيّة للدّين حتّى لو أعطى لنفسه الحقّ في تفسيرها تفسيراً عصريّاً؛ وذلك على عكس التيّارات الوضعيّة المتطرّفة التي تصرّ على عَلمنة الأخلاق، وهنا نصبح أمام عَلمنة وجوديّة تنزع المرجعيّة الأخلاقيّة من الإيمان الديني ذاته، وليس من المتحدّثين باسمه فقط، لتصبح القيَم الأخلاقيّة نسبيّة وتاريخيّة، فلا النصّ الديني مُطلَق، ولا القيَم العليا التي يقول بها كونيّة، والفضيلة هي فقط ما يتوافق عليه البشر، حتّى لو كان في الأصل رزيلة، فالاتّفاق البشري هو أصل الخير والشر، الإباحة والتحريم، والإنسان هو المعيار النهائي للفضيلة. وبينما تجعل العلمانيّة المُعتدلة من الإنسان قطباً ثانياً للوجود مع الله، يحاوره ويتلمّسه من دون أن يقصيه عن موقعه، ولذا تبدو مُمكنة في ظلّ الإيمان الروحي، قدر ما هي مطلوبة للحُكم الرشيد والمجتمع الحرّ، فإنّ العلمانيّة الفائقة تضع الإنسان في مركز العالَم بديلاً عن الله، الذي يتمّ إقصاؤه إلى مَوقع الهامِش أو يدفع به إلى مصير كالموت، ومن ثمّ تبدو غير مُمكِنة في ظلّ الإيمان، مثلما هي غير مطلوبة لرشادة الحُكم أو تطوّر المجتمع، بل إنّها ربّما فتحت الباب إلى أمراض اجتماعيّة عديدة، فحيث يتوارى الوازِع الدّيني يَضمُر الضميرُ الأخلاقي عند عموم البشر، وتتمدّد نزعات العبث ومَشاعر العدم في كلّ اتجاه، حتّى لو كانت المجتمعات متقدّمة، بل أحياناً بسبب تقدّمها هذا، ومن ثمّ تنبع بعض روافد أزمة المعنى في عالَمنا المُعاصِر.

وأمّا على الصعيد التاريخي، فيتوجّب البحث عن أكثر التجارب تصالُحاً بين الدّين والعلمانيّة، حيث تندرج نُظم متعدّدة، تفصل جميعها بين الدّين والدولة وإن اختلفت في كيفيّة تحقيق هذا الفصل. فالمبدأ الذي تُجمع عليه تلك النُّظم العلمانيّة إنّما يتمثّل في رفْض الوصاية الكهنوتيّة على المصير البشري، وادّعاءات فئة من الناس بالحقّ في احتكار المعرفة في أيّ شأن دنيوي، وخصوصاً العِلمي أو السياسي، ومن ثمّ توكيد الفصل بين الدّيني بما هو أمر مطلق وبين الزمني بما هو أمر نسبي، ليس تكريساً للعقلانيّة السياسيّة فقط، حيث تؤدّي العلمانيّة إلى أكثر الطُّرق احترافيّة على صعيد إدارة الدول، بل وأيضاً تكريساً للتسامح والتعدّد وقبول الآخر المُختلف، ما يضمن حُسن إدارة التنوّع المجتمعي، الديني والمذهبي، وخصوصاً أنّ معظم الدول الوطنيّة المُعاصِرة تنطوي على رعايا لأديان مختلفة، ومن ثمّ تنبع الحاجة إلى جهاز سياسي مُحترف ومُحايد، لا يحمل قيَماً بذاتها ماديّة أو روحيّة، ولا يقف مع دينٍ ضدّ آخر، وإلّا كانت الحروب الدينيّة على منوال القرنَين السادس عشر والسابع عشر، حيث كانت المَعارك الصغرى بين الطوائف والمذاهب، ولاسيّما الهوجونت واليسوعيّين، تكاد تنشب كلّ يوم، ناهيك بالحروب الكبرى التي لم يخلُ منها عقدٌ من الزمن طيلة نحو القرن ونصف القرن وبالذّات بين فرنسا وألمانيا، حتّى أنّ بعضها قد استمرّ ثلاثين عاماً وهي التي انتهت بصلح وستفاليا الذي وُلد من رحمه مفهوم الدولة القوميّة ذات السيادة، ما كان إيذاناً بميلاد الحداثة السياسيّة ومُثُلها العليا.

لكنْ، وعلى الرّغم من اتّفاق تلك النّظم على هذا المبدأ، فإنّها تختلف على كيفيّة تطبيقه بهذه الدرجة من الخشونة والحدّة أو النعومة والسلاسة. فمثلاً قام النموذج الفرنسي/ اليعقوبي في القرن الثامن عشر على قاعدة الفصل الخشن، وإقامة التناقض الجذري الحادّ بين الدّين والعلمانيّة، حيث تمّ الهجوم على الكنيسة وقنص أغلب ممتلكاتها، وحصار دَورها ليس في المجال السياسي فقط بل وأيضاً في المجال الاجتماعي/ المدني، بل كثيراً ما تمّ تحويل الكنائس إلى مَعارض للرسم ومَصانع للكحوليّات وبارات للرقص، وخصوصاً في مناطق الريف الجنوبي والغربي، ولم يخفِّف من غلواء هذا الهجوم طيلة سنوات الثورة الفرنسيّة، ولاسيّما في عهد الإرهاب، إلّا مرسوم “نانت” الذي رعاه الجنرال نابليون بونابرت، حيث أدرك الرجل بنافذ بصيرته حاجة المجتمع الفرنسي إلى نَوع من الاستقرار، لن يتأتّى إلّا عبر تبريد حرارة الاحتقان بين الكنيسة والدولة، بين المُحافظين والثوريّين، فأعاد للكنيسة جزءاً كبيراً من ممتلكاتها ومن احترامها، وأعاد إلى العمل عدداً هائلاً من رجالها الذين كانوا قد تركوا العمل فيها. وعلى الرّغم من ذلك، ظلّ الدّين المسيحي مُحاصَراً في نظام التعليم الفرنسي، حيث كان يواجهه نوعٌ من التعليم المدني يتحدّث عن قيَم الجمهوريّة والعلمانيّة بما يشبه القداسة، حيث تحوّلت هذه القيَم إلى ما يشبه ديانة مدنيّة، حاصَرت الكنيسة والإيمان المسيحي معنويّاً حتّى اضطرّت الكنيسة الكاثوليكيّة في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) إلى الاعتراف قانونيّاً بالمبدأ العِلماني كأساس دستوري لعلاقتها بالدولة، بعد أن كان هذا الاعتراف مجرّد اعتراف عملي بالأمر الواقع منذ هبّت رياح الثورة السياسيّة والتنوير الفلسفي.

لكنْ، في المُقابل، ثمّة تجارب أخرى نهضت منذ البداية على قاعدة التصالُح والتسامح ومن ثمّ الفصل النّاعم بين المجالَين بهذه الدرجة أو تلك. فالنموذج البريطاني، على سبيل المثال، يختلف تماماً عن النموذج الفرنسي، حيث رأس الدولة هي نفسها رأس الكنيسة، وحيث الملكيّة دستوريّة ومدنيّة وليبراليّة على النمط البرلماني الذي يمثّل تجسيداً للتراث البريطاني التالي على ثورة كرومويل التي أفضت إلى إعدام الملك شارل الأوّل في العام (1649)، وشرَّعت لدَور البرلمان في مُواجَهة المؤسّسة الملكيّة. وعلى الرّغم من سقوط جمهوريّة كرومويل وعودة بريطانيا إلى النظام المَلكي مع الملك الابن شارل الثاني في العام 1660، ثمّ جيمس الأوّل حتّى العام 1689، فإنّ دَور البرلمان ازداد وترسَّخ نهائيّاً وفرض نفسه على التطوّر السياسي لبريطانيا، التي غادرت مَوقع الثورة ولزمت طريق الإصلاح التدريجي على طريق الملكيّة الدستوريّة منذ ثلاثة قرون ونصف القرن لتعطينا درساً بليغاً في كيفيّة التطوّر من داخل الاستمرار، وفي كيفيّة الدَّمج بين الدّين والعلمانيّة وفي الفصل النّاعِم بين الدّين والدولة. أمّا النموذج الألماني فيقدِّم خبرة ثالثة يُمكن القول إنّها وسيطة بين الخبرة الفرنسيّة ونقيضتها البريطانيّة، حيث يمثِّل الحزب الحاكِم في ألمانيا اليوم، والأكثر سيطرة على مقاليد الأمور منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية (الديمقراطي المسيحي) حزباً مدنيّاً إلى أبعد مدى، لا يُكفِّر مُنافسيه، الاشتراكيّين تحديداً، بل يحترم نِظام الحكم العلماني للدولة، ويَعكس ديمقراطيّة سياسيّة ربما اتّسمت فقط بنَوعٍ من المحافظة التي تحترم المُطلقات الأخلاقيّة المسيحيّة من قبيل رفض الإجهاض والمثليّة الجنسيّة على سبيل المثال، فهو أقرب إلى التعبير عن مسيحيّة حضاريّة لا تمتّ بصلة إلى المسيحيّة السياسيّة القروسطويّة، ولا إلى الإسلام السياسي من قريب أو بعيد. ومن ثم فإنّ النموذجَين الأخيرَين يعطيان العالَم العربي أملاً في حلّ الإشكاليّة وأفقاً للتطوّر السياسي عبر بناء نظام حكم علماني ودول مدنيّة لا تتناقض مع العقيدة الدينيّة ولا مع القيَم الأخلاقيّة الإسلاميّة، ومن ثمّ لا تتصادم مع مَشاعر الجماهير العريضة بل فقط مع الادّعاءات السياسيّة للإسلاميّين.

*كاتب وباحث من مصر

Optimized by Optimole