في نتائج الانتخابات التونسية

في نتائج الانتخابات التونسية
Spread the love

بقلم: توفيق المديني* — جرت الانتخابات البلدية في تونس يوم6مايو/آيار الجاري، وهي أول انتخابات بلدية في تاريخها منذ العام1957، لاختيار الحُكّام الذين سيتولون تسيير شؤون السلطة المحلية والجهوية،أو إدارة الحكم المحلي الديمقراطي واللامركزي المعني بإدارة شؤون المواطنين المحلية بطريقة تشاركية، تقوم على نضج المنتخبين والمتساكنين . فكانت انتخابات تعدديّة حرّة ونزيهة وشفّافة بشهادة جميع المراقبين التونسيين والأجانب، بصرف النظر عن ما شابها من توترات ومخالفات في بعض المناطق، لكنها لا ترتقي إلى مستوى المخالفات الكبيرة أو التزوير.فقد أكّد التونسيون مرّة أخرى تمسّكهم بخيار الانتقال الديمقراطي دون سواه، في سبيل بناء ركائز ومؤسسات الديمقراطية الناشئة ،وفي ذلك وعي مجتمعي عميق راسخ ممتد في تاريخ البلد.
المتابعون للشأن السياسي التونسي على اختلاف انتماءاتهم الفكرية و الثقافية والسياسية ، أجمعوا على أنّ نسبة الاقبال على التصويت في الانتخابات البلدية التونسية كانت ضعيفة، إذ بلغت 33.7في المئة من أصوات الناخبين ، لكنها ليست كارثية، أوبعيد ة عن النسب العامة المسجلة في عديد الدول..بينما كانت نسب المشاركة في انتخابات 2011 52 في المئة ،وانتخابات 2014 التي بلغت في دورتها الأولى 69 في المئة و64% في دورة الإعادة للرئاسية. ووبلغة الأرقام، بلغ عدد التونسيين المسجلين في هذه الانتخابات 5ملايين و369ألف ناخب من أصل جسم انتخابي يمثل ثماني ملايين ونصف من يحق لهم الانتخاب ،لم يشارك منهم في التصويت سوى مليون و800 ألف ناخب,أي أقل من مليونين ،وهذا ما يؤكد أنّ نسبة المقاطعة كانت كبيرة ، بدلالة أنّ ثلثي الناخبين لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع.فالذين قاطعوا هذه الانتخابات، ولا سيما من الشباب ، استندوا إلى الرأي القائل أنّ هذه الانتخابات لن تضيف شيئا إلى البلاد وللشعب في ظل وضع عام متأزم اقتصاديًا واجتماعيًا لا يمكن الخروج منه إلا عبر جهود عديدة يجب أن تبذلها الدولة على المستوى المركزي في أسرع وقت ودون انتظار منظومة الحكم المحلي لتحقيق ذلك.
كما يرى هؤلاء المتابعون أنّ الشباب “العازف” عن الانتخابات هو الحزب الأكبر في تونس،إذ قاطع الشباب التونسي بنحو 90% من النسبة الإجمالية للمقاطعين،وهي نتيجة يجب أن تُقلق الطبقة السياسية الحاكمة والأحزابَ معاً،لا سيما أن الشباب يمثل الفئة الاجتماعية الكبيرة في المجتمع التونسي ،وبعزوف هذه الأخيرة القياسي،توجه رسالة قوية إلى الأحزاب الماسكة بالسلطة التونسية اليوم ،و للأحزاب السياسية المعارضة على حدٍّ سواءٍ، التي أخفقت في إقناعها للإستجابة إلى المشاركة القوية في الانتخابات،مفادها أنها ليست راضية عن الأوضاع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في تونس،وأنها أُصِيبَتْ بخيبة أمل بعد أن أخفق السياسيون في كسب الثقة التي منحها لهم التونسيون في انتخابات 2011 وانتخابات 2014. وفضلاً عن ذلك، يبرّر المقاطعون للانتخابات إلى سبب آخر، وهو خوفهم من أن يتحول الحكم المحلي واللامركزية إلى أداة لتقسيم الدولة وإضعافها وإضعاف القانون وإرساء ديكتاتورية جديدة في المنطق (الجهات )، لا سيما في ظل ما ستسمح به هذه المنظومة الجديدة من استقلالية وحرية للحكّام المحلّيين.
الحزب المنتصر في الانتخابات البلدية التونسية،هوحزب “العزوف ” الانتخابي، الذي فقد الثقة الكلية في أحزاب الطبقة السياسية الحاكمة، التي تداولت على السلطة في تونس منذ سنة 2011، وسنة 2014، حيث أخفقت إخفاقًا ذريعًا في إدارة الشأن العام وفي معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية،وعجزت في تحقيق ماكان ينتظره التونسيون من الثورة،لا سيما تحسين وضعهم المعيشي،وتقليص نسب البطالة المرتفعة التي مثلت اكبر مسألة معقدة بعد الثورة وتسببت في وصول شرائح هامة من المجتمع التونسي إلى حالة من اليأس والإحباط،وأوصلت الكثير من الشباب إلى الموت إمّا حَرْقًا أو غَرقًا في المتوسط أو دفعته إلى الانتماء للجماعات الإرهابية. فالشباب الذين قاطعوا الانتخابات البلدية اصبح حلمهم الهجرة ومغادرة تونس لذلك لا تهمهم الحياة السياسية فيها ولاتهمهم البلديات…وهذا الأمر غير خاف إذ أكدته استطلاعات الرأي التي رصدت انطباعات الشباب التونسي في هذا الشأن .
نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى ،على التراجع الكبير في أحزاب الطبقة السياسية الحاكمة، إذ إنّ المستقلين في هذه الانتخابات المحلية حصلوا على ثلث الأصوات ما جعلهم في المقدمة ،وبذلك كسروا شوكة الأحزاب الكبيرة وهزموها في أوّل انتخابات محلية ،فيما انحصرت المنافسة الجدية في حزبين فقط، هما: حزب النهضة الذي حلّ في المرتبة الأولى بنسبة 29.68 بالمائة ،وحصل على 450 ألف صوت(تراجع بنحو450ألف صوت)عن انتخابات 2014، بل إنّه خسر مليون صوت منذ انتخابات 2011.أمّا حزب نداء تونس الذي حلّ ثانيًا بنسبة 22.17 بالمائة ،فقدحصل على 350ألف صوت (تراجع بنحو 950ألف صوت) عن انتخابات 2014،الذي حصل فيها على نسبةمليونو300ألف صوت.. ويذكر في هذا الصدد أنّ إئتلاف الجبهة الشعبية (تحالف يجمع أحزابا من اليسار التونسي والتيارات القومية) تحصّل على 71150 صوتا خلال الإنتخابات البلدية (3.95بالمائة)،علمًا أنّ الجبهة الشعبية كانت تضخم حجمها، وتعتبر نفسها «حكومة الظل» الحقيقية ، وتؤكد أحقيتها في الحكم وتقدم نفسها بديلاً جديًا للنهضة أو للنداء أو للحركتين معا. ويرى المحللون في تونس أنّ الحزب الوحيد الذي حقق تقدما واضحا في الانتخابات البلدية هو حزب “التيار الديمقراطي” الذي حصل على ما نسبته 4.19 في المئة من الأصوات، وأصبح يحتل المرتبةالثالثة من حيث الأهمية الانتخابية بعد “النهضة” و”نداء تونس”. وليحقق تقدما على حساب الجبهة الشعبية وباقي القوى السياسية الأخرى.
وتعكس نتائج هذه المحطة الانتخابية نوعًا من العقاب الانتخابي من جانب الشعب للحزبين الحاكمين في تونس،اللذين فشلا في إدارة حكم البلاد وتسيير شؤون العباد،وعجزا عن تحقيق وضع أفضل لانتظارات التونسيين ،وكيف لها أن ينجحا في الشأن المحلّي ! كما تجسد هذه النتائج حالة القطيعة بين المواطنين والطبقة السياسية الحاكمة التي تداولت على حكم البلاد ،والتي بقيت في برجها العاجي ولم تنجح ببرامجها وبرؤاها وبخطبائها في استقطاب المواطن، الذي أصبح يئن تحت وطأة الفقر والتهميش والمكتوي بنيران الأسعار،والمتخبط في الاحباط واليأس والتشاؤم، والمتخوف من المستقبل المجهول والمعلوم. ويحتمةهذا الواقع المرير على الأحزاب لأن تراجع خطابها وكل برامجها وأن تدرك أنها فقدت فعلا ثقة التونسيين فيها وتعي جيدًا أنّها ستكون في مواجهة جيش من المستقلين نجحوا في كسب ثقة الناخبين واكتسحوا كل البلديات…
إنّ المجالس البلدية التي ستفرزها هذه الانتخابات البلدية ستبقى عاجزة عن التغيير الحقيقي في واقع المواطنين التونسيين،لاعتبارات عديدة ذات علاقة بالجانب القانوني وتحديدا مجلة الجماعات المحلية التي لم تدخل بعد حيز النفاذ ،وكذلك لاعتبارات ذات علاقة بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وجميعها تعيش وضعا متأزما منذ سنة 2011 و لغاية الآن.فالأحزاب السياسية الحاكمة رغم اجتماعاتها في قصر قرطاج لم تقدم خريطة طريق واضحة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الرّاهنة ، لا سيما بلورة وثيقة قرطاج2 ، تكون قادرة على تقديم أجوبة عقلانية وواقعية حول منوال تنمية جديد غير خاضع بالكامل لاشتراطات اقتصاد السوق ، وإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي، التي غيبت وفككت تدريجيا مقوّمات منظومة الدولة الوطنية من ناحية تقديم الخدمات الأساسية،وخصخصة مؤسسات القطاع العام، كما ألحقت ضررا فادحا بأقوى محرّك للدورة الاستهلاكية، أي الطبقة المتوسطة،أولاً. ومحاربة الفساد الذي ينخر كل مفاصل الدولة ، وتحقيق النهوض بالفئات الضعيفة في مرحلة اتسعت فيها رقعة الفقر، ومنها معضلة الصناديق الاجتماعية وضرورة تفادي عجزها المالي، ثانيًا.
بعد هذه الانتخابات البلدية، من الضروري أن تدرك الأحزاب السياسية الحاكمة، أنّ الديموقراطية في تونس لم تعد تجدي معها توفيقية باتت مستهلكة ومستنفدة، وأنّها لن تتبلور إلا عبر الصراع والتناقض لاعبر توافق طوباوي مفترض، أو تسويات سياسية تعيد إنتاج المحاصصة الحزبية .وباتت القوى الديمقراطية التونسية في حاجة الى اجتراح مشروع مجتمعي جديد وخارج عن الاستقطاب الثنائي(النهضة ونداء تونس) يكسر البنى التونسية التاريخية المتكلسة ويمهد لفكر ديمقراطي جديد وإنسان تونسي جديد.

المصدر: صحيفة العربي الجديد