هزيمة حلف بغداد جديد: حسابات الربح والخسارة في الإنتخابات اللبنانية

هزيمة حلف بغداد جديد: حسابات الربح والخسارة في الإنتخابات اللبنانية
Spread the love

بقلم: عبير بسام* — لم تعد المعركة الانتخابية في لبنان اليوم، معركة تداول السلطات ما بين القوى المعروفة كما في جميع بلدان العالم. إنها معركة للإطاحة بنظام لصالح نظام جديد. أو على الأقل هذا ما يبدو حتى الآن. هذا الصراع لم يولد في العام 2009 ، بل هو نتيجة لتداعيات الصراع الذي ابتدأ إبان الحرب الأهلية في العام 1975 وحتى اليوم. وبالتالي، إذا افترضنا أن الحرب الأهلية في مضمونها الداخلي هي ثورة، فهل من الممكن أننا ما نزال حتى اليوم نشهد تداعيات هذه الثور؟
ولكن: “لا يمكن حساب الربح والخسارة في الثورة إلا بعد مرور وقت من الزمن عليها. والأمر الثاني الذي يتعلق بالثورات، أنها ليست مجرد أفكار تطرح في المقاهي، لأنه في اللحظة التي ينزل الناس فيها إلى الشوارع فإن المرء يضع حياته موضع رهان لا تعرف عواقبه” . هذا الكلام يمكن أن ينطبق تماماً على ما حدث في لبنان إبان الحرب الأهلية. والتي لم تكن تلك المرة الأولى التي يتواجه فيها معسكران ينتميان إلى أفكار سياسية مختلفة في الشارع اللبناني.
فالمواجهة الأولى كانت في العام 1958، حيث نزل التيار العروبي في لبنان في مواجهة اتفاق بغداد 1955، يوم وقفت نيوجرسي مقابل شواطئ بيروت من أجل حماية النظام الداعم لها، والذي تمثل بشخص كميل شمعون أنذاك. اندلعت المواجهات، التي كان وقودها الفئات المهمشه في شمال وجنوب لبنان وسكان أحزمة البؤس في بيروت وخاصة في النبعه. انتهت المواجهة، والتي يمكن قراءتها على أنها ثورة على الأوضاع المزرية، وحملت في مضمونها أبعاداً اجتماعية واقتصادية وجنوحاً نحو الخلاص من الوضع البائس، الذي ترك قسم كبير من اللبنانيين خارج نطاق الدولة. فعلى سبيل المثال لم تدخل الكهرباء إلى قرى الجنوب حتى منتصف الستينات، وذلك بحسب روايات كبار السن من الجنوبيين. استطاع فؤاد شهاب، الذي تنبه إلى خطورة الوضع، أن يؤسس لبعض مؤسسات الدولة مثل: مجلس الخدمة المدنية، وتعاونية الموظفين، ومجلس الإسكان، ومصرف لبنان. وهي مؤسسات مكنت أبناء المناطق المحرومة من الدخول إلى ملاك الدولة بعد أن كانت حكراً على فئه طائفية محددة من اللبنانيين. غير أن شهاب حورب من قبل البورجوازية والنظام الإقطاعي التقليدي، الذي قرأ في شهاب خطراً هداماً للنظام السياسي والمالي الذي تتمتع به سلطة النظام الإقطاعي.
في العام 1975، بعد عشرين عاماً تقريباً من الثورة ضد شمعون، عادت الظروف الدولية والإجتماعية لتعيد نسخ ذاتها من جديد. خاضت كل من سورية ومصر حرباً ضد اسرائيل في العام 1973 محققة انتصارات، من خلال اجتياح مرصد جبل الشيخ، واستعادة القنيطرة على الجانب السوري، واجتياح خط بارليف على الجانب المصري. وابتدأت المواجهات تزداد ضراوة من الجنوب اللبناني ما بين الفدائيين الذين أتوا من مختلف الدول العربية، وبينهم لبنان، وما بين اسرائيل من خلال عمليات نوعية، استخدم فيها الفدائيون حرب العصابات. جاءت المواجهة الثانية في وقت كانت فيه الحاجة لتخفيف الضغط عن اسرائيل. واذا اعتبرت المواجهة الثانية قد جاءت من خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والتي لم تكن الحرب كما هي في الشكل، حرب محلية متمثلة باليمين اللبناني، الكتائب اللبنانية وأنصارها، ضد اليسار اللبناني، أي ضد الوجود الفلسطيني واللبناني المقاوم للمشروع الصهيوني. لقد كانت المواجهة الثانية ثورة أخرى قائمة ضد النظام الذي يحكم في لبنان، والذي عاد من خلال الحرب الأهلية لتشكيل الإصطفافات السياسية السابقة ذاتها: ما بين مقاومة لإسرائيل وللغرب وما بين السلطة التقليدية واصطفافاتها إلى جانب الغرب وأهدافه في لبنان، الذي كان مهملاً لما يتعرض له الجنوب منذ العام 1948.
ولكن لم يكن الصراع الدولي هو السبب الوحيد الذي أجج الحرب الأهلية، لقد مثلت الحرب واصطفافاتها جبهتين: واحدة تمثل النظام السياسي القائم، وآخر يمثل المضطهدون اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، الذين مثلهم من حمل السلاح في مواجهة نظام مستأثر بالسلطة. انتهت الحرب الأهلية في لبنان باتفاق الطائف في العام 1989 والذي ارسى قواعد نظام سياسي جديد وأعاد توزيع السلطات في لبنان. ولكن نعود هنا لكلام “خان”! فحسابات الربح والخسارة لا يمكن قراءتها إلا خلال فترة من الزمن، والذي يبدو من خلال القراءة الأولى، أن نظاماً سياسياً جديداً قد أرسيت قواعده في لبنان، ولكن النظام الإجتماعي والإقتصادي لم يتغير وبقي المواطن يرزخ تحت نفس الضغوط الإقتصادية والإجتماعية، والدولة بعد 29 عاماً من انتهاء الحرب الأهلية، لم تكن قادرة على تقديم الخدمات الأساسية: اذ ليس هناك بنى تحتية، أو نظام تعليمي أو صحي أو اجتماعي يضمن المواطنين، هذا بالإضافة إلى تهجير معظم الكفاءات على مختلف الأعمار.
خلال الـ 29 عاماً الماضيه، شهد لبنان حدثين هامين: الأول هو تحرير الجنوب في العام 2000 وخروج الإسرائيلي دون قيد أو شرط. والثاني، هو الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، والتي كان هدفها القضاء على المقاومة. ولكن أهم حدث ضد السلطة كانت أحداث 7 أيار في العام 2007، والتي جاءت من أجل حماية نظام المواصلات السلكية المتعلق بالمقاومة، والذي أمن لها التواصل الآمن ما بين أفرادها طوال فترة المقاومة ضد الصهيوني. تكرر في مشهد 7 أيار الصراع نفسه ما بين اتجاهين الأول يمثل حلف بغداد “الجديد” في مواجهة حلف “دمشق والمقاومة”، وللمرة الثالثة. ولكن ما اختلف هو أن كلا الطرفين ممثلان في الحكومة وفي مجلس نواب 2009.
وانتخابات العام 2018، التي أتت بعد اعتكاف اجباري لمدة تسع سنوات، والذي أريد منه الحفاظ على نوع من التوازن في لبنان لم يعد مجدياً وبات يهدد ما يسمى بالديمقراطية اللبنانية. غير أن الإنتخابات مثلت صراعاً جديداً ” وعلى المكشوف” ما بين القوى الدولية والإقليمية في لبنان، في مشهد تتكرر أهدافه: الأول معاد لإسرائيل والآخر باحث عن التسوية. وعلى المستوى الدولي يبدو أن إعلان ترامب حول الخروج من الإتفاق النووي مع إيران كان ينتظر نتائج الإنتخابات اللبنانية. والتي كانت اذا ما فاز حلف بغداد مرة أخرى، فإن ذلك يعني تغير المزاج اللبناني حول اهمية المقاومة في الصراع مع الإسرائيلي. عندئذ يمكن للحلف الذي يمتد من طهران إلى دمشق إلى الجنوب ليصل إلى المقاومة الفلسطينية أن يتضعضع. وعندها ستأخذ دائرة الصراع منحى جديد تنتظره كل من اسرائيل وأمريكا على حد سواء. وهو صراع له علاقة بوقع انتصارات دمشق على الأمريكي وبإعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل وبنقل السفارة الأميريكية إلى القدس. ولكن اليوم ازداد المشهد تعقيدأ بالنسبة للأمريكي وبالتالي لإسرائيل. فلبنان أعلن مجدداً سقوط حلف بغداد، وأن البلد بأغلبيته قد حدد مساراً سياساً جديداً وواضحاً.
وأما في الداخل اللبناني وبحسب الوعود الإنتخابية فيفترض أن تتبع سياسة مالية جديدة، توقف الإقتصاد والنظام المالي العالمي. وإلا فإن عودة الخطط الإقتصادية ذاتها ستعود وتستنزف المواطن المقهور، والذي كان يهدف إلى خصخصة مرافق الدولة ويلغي انجازات فؤاد شهاب وخصوصاً الضمان الإجتماعي ومجلس الخدمة المدنية، والذي ينتظر الناجحون في امتحاناته قرارات التوظيف المعلق لأسباب تتعلق بالتوزيع الطائفي. وهو أول تحديات الحكومة القادمة.
ويفترض اليوم أن النتائج لصالح “حلف المقاومة”، الذي سيبقي على المعادلة الذهبية: الجيش والشعب والمقاومة في حماية لبنان. هذا الفريق الذي سيستعين بالخبرات الإيرانية والروسية والصينية في تحسين البنى التحتية، والذي سيؤذن بنهاية السلطة الغربية على لبنان. إن إعادة تركيب توازن القوى في داخل المجلس النيابي، والذي لا يمكنه البناء على توازن يشبه ما ساد من 2009 وحتى اليوم لأنه لم يعد قدراً على ضمان التوازن الذي ساد منذ العام 2009. فالضغط الإقتصادي والإجتماعي بات أكبر من أن يستوعبه الضغط السياسي، فهل نحن على أعتاب ثورة أهلية جديدة. هل ستكون حسابات الربح والخسارة لصالح رأس المال البورجوازي المقعد في لبنان. أم أن لبنان اليوم سيؤسس فعلياً للوجهه النهائي، والذي ناضلت من أجله الفئه الأكبر من أبنائه منذ استقلاله في العام 1943 وحتى اليوم.

*كاتبة لبنانية.

المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتبة ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع.

Optimized by Optimole