الفكر السياسي في الدولة الإسلامية الأولى

الفكر السياسي في الدولة الإسلامية الأولى
Spread the love

بقلم: عبداللطيف مشرف* — تعيش الأمة الإسلامية والعربية، حالة من الضعف والمرض، بين الأمم والشعوب، فحقيقة مؤلمة، ليس لنا في السياسة العالمية كلمة، ولا على مستوى القضية التى تهمنا وتخصنا، فدوماً تملى علينا القرارات والاتفاقيات، ونحن ضيوف شرف، ومن المفروض أن نكون نحن أصحاب القضية، فلا سياسة قوية، ولا اقتصاد قوي، ولا ثقافة مؤثرة، ولا جيل ومجتمع بناء ذا خلق وقيم، وأصحاب مسؤولية، فلنسأل جميعاً، ما الذى أصابنا؟، ما هي حالة النوم العميق التي أصابتنا جميعاً؟
فنحن نمتلك القوة الحضارية من لغة وعرق وعقيدة، ونحن نمتلك جميع الموارد الطبيعية والثروات المعدنية، ونحن نمتلك البحار والمحيطات، والموقع المتوسط، فما الذي حدث؟، كانت لنا عزة، والآن لا نمتلك قرارنا، ولا حتى غذاءنا ودواءنا ولا حتى سلاحنا، وفي وقت من الأوقات كنا أمة تركع ملوك الأرض أمام شبابها قبل كبرائها، نمتلك الأرض من مشارقها إلي مغاربها، فكانت أمتنا من الصين شرقاً إلى الأطلسي غرباً، ومن الأندلس شمالاً إلي المحيط الهندى جنوباً…
فالسؤال يبقى، ما هو السبب فى تراجعنا وضعفنا؟ هل هو الدين كما يقول البعض؟؛ هل لا تمتلك الأمة فكراً سياسياً، هل ليس لدى الأمة الإسلامية مفكر ومؤسس أول لمنهج وفكر سياسي؟
الحقيقة أن الإسلام يمتلك مناهج كاملة فكرية لصناعة الدول، سواء اقتصادية او علمية أو سياسية، ولعل أبرز تلك الأمثلة هو فكر المؤسس الأول للدولة الإسلامية الأولى الرسول الكريم(ص)، حيث وضع لنا النهج والطريق لكي نسيّر أمور الدولة، ووضح لنا كيف نبنيها ونتخطي حالات الضعف التي تصيبها؟.
إذ أن تشكيل الأُمّة الإسلاميَّة في ذلك الوقت كان صعباً، ولكن بفضل الله وفكر الرسول الكريم، وانتشار السلوك المعنويّ والاجتماعيّ الإسلاميّ، وببركة الإسلام والإيمان، في أوساط العرب المشتَّتين والمتفرِّقين، جعل هذه الأُمّة تتمتع بحكومة مركزيَّة. فليس هناك من يسعه إنكار أنّ النبيّ صلىى الله عليه وآله وسلم صنع أُمّة واحدة من تلك القبائل المتعدِّدة والمشتَّتة، حيث أن تلك الأُمّة لم تكن فاقدة للسلطة السِّياسيَّة. والواضح أن عنصر الحكومة كان موجوداً في تلك الأُمّة، وكانت تلك السلطة السِّياسيَّة وزعامة الأُمّة بيد النبيّ الأكرم صلىى الله عليه وآله وسلم.
والسبب وراء ذلك البساطة السائدة آنذاك في مجتمع الجزيرة العربيَّة، لم تكن تسمح بنظام دقيق ومعقَّد. ولقد اعتمد النبيّ صلىى الله عليه وآله وسلم ما أمكنه ـ أفضل نظام سائد على عهده وأحسنه، خالٍ من كلّ عيب. وإن افتقرت حكومته للنظام المعقَّد السائد اليوم لدى الحكومات المعاصرة، فذلك لأنّ هذا النظام لم يكن مناسباً لذلك المجتمع الّذي عاش فيه النبيّ صلىى الله عليه وآله وسلم. ومع هذا، فقد ابتكر نظاماً للدولة الإسلامية الأولى يناسبها، ووضع قانوناً مدنياً، ودستوراً يناسب هذا المجتمع ويحدد العلاقة بين كل فئات سكان المدينة مسلمين وغير مسلمين، وأوجد تنظيمات إداريَّة وعسكريَّة في دولته الإسلاميَّة.
النبيّ صلىى الله عليه وآله وسلم أقام سلطةً سياسيَّةً، وكيان حكومة مركزيَّة، تقوم بإدارة شؤون الدولة وتنظيمها، والعمل على حل مشاكلها، وكون مجلساً استشارياً له، وكان وزيران هما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، لم تكن سلطات متدرجة وواضحة كما هو في عهدنا الحالي، وذلك الأمر طبيعي، لأن لكل شيء بداية، فوضع النبي البداية الصحيحة القوية، وجعل هذه البداية مجالاً للتطور بما يفيد الدولة والأمة، وفتح باب الاجتهاد من أجل مصلىحة الدولة والأمة والعقيدة،. ولعل الدليل على هذا الكلام حديث الاجتهاد المنسوب في الصحيحين إلى النبي صلىى الله عليه وسلم إذ قال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر))، فهنا جمال الفكر النبوي بأعمال العقول وفتح الاجتهاد لصالح العباد ومصالحهم، وليس الوقوف فقط على المنهج في الكتاب والسنة.
هناك فارق بين الحكم الواضح في الكتاب والسنة، وبين إنشاء حكم، فكلام الكتاب والسنة واضح لا يمكن تعديله. أما عند إنشاء نظام فهنا يقضي الفعل بالشورى والاجتهاد، فالرسول الكريم عندما كان يتصرف بالسياسة هو ينشئ حكماً بالاجتهاد، فعندما يتصرف في مسائل الاقتصاد وإلى آخره فهنا ينشأ حكماً، فمن هنا نجد فارقاً بين قطاعين من الأحكام، قطاع الرسول صلىى الله عليه وآله وسلم يكشف فيه عن حكم الله ولا ينشئ من عنده لأنه يبلغ جزءاً من الرسالة، وقطاع آخر ينشأ فيه أحكام بالاجتهادات حتى لو أخطأ في حكم من الأحكام وقد عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من المواطن وجاء هذا في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى يوحي إليه بالصواب ولا يقره على خطأ لأنه أسوة كي لا يكون أسوة إلا في الصواب الموافق للإرادة الإلهية.
وهنا دليل إلي حكام المسلمين اليوم، فالكل معرض للخطأ في التصرف والحكم، فمن الحكمة الوقوف على هذا الخطأ وتعديله وليس التمادي فيه بما ينفع أمر الدولة ومصالح الشعب، ولا يتأتى ذلك الا بنظام صالح أمين يخاف الله وليس يخاف المنصب ويرد الحاكم ويقومه عند خطئه ولا يساعده في التمادي في هذا الخطأ، حتى لا يضر الصالح العام في مقابل الحفاظ على ماء وجه. فلنا في رسول الله قدوة، حيث أدبه الله فأحسن تأديبه، ورده في خطئه إن أخطأ لأنه بشر، فلا يوجد بشر معصوم من الخطأ، وأخذ نهج النبي صلىى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون من بعده، وأهمهم أبو بكر الذي وضع منهجاً لحكومه وحكومته في خطبة توليه الخلافة بعد بيعة السقيفة فقال: “أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله وإن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.”. فقد جعل أبو بكر نفسه عرضه للصواب والخطأ، وجعل الشعب هو الرقيب الأول في نجاحه في إقامة حكم الله، أو سبباً في معصية الله وتمادي الظلم، وذلك لصمت الشعب عن قول كلمة الحق، وجعل نجاح الحكم بطاعة الله ورسوله، فوضع النبى وخلفاؤه أسس الحكم لحكام أمته، فأن أخذوا به نجوا، وإن لم يطيعوا الله والرسول هلكوا جميعاً.
فنجد أبرز معالم الفكر الإسلامى لبناء الدولة هو الشورى، والعمل على تفعيل هذه الشورى في كل نواحي الحياة، فالشورى أمر عمل به النبى صلى الله عليه وآل وسلم، وطبقه الخلفاء الراشدون من بعده، تطبيق لا يناسب الهوى والأهواء الشخصية لهم، بل تطبيق يفيد الصالح العام للأمة الإسلامية، ويرضي الله ورسوله، فكانوا لا يخافون الا الله، ويعملون بما قال الله وقال الرسول، فنجحوا في بناء دولة امتدت حدودها من الصين شرقاً إلى الأطلسي غرباً. ولكن عندما تبعنا الغرب والهوى، فقدنا الأرض والعرض والكرامة، فعندما بعدنا عن منهج الله ورسوله وصحابته، أصبحنا من الدول التى لا تمتلك قرارها ولا فكرها ولا حل قضاياها، ولا تملك القدرة على تحرير نفسها ومقدساتها، ويزيد المأساة مأساة بأنها تفتخر بأفكار الغرب من أفكار رأسمالية وأفكار اشتراكية، ويفتخرون ليس بفكر نبيهم الكريم بل بفكر لينين وماركس وأدمز سميث.
وعلى سبيل المثال عندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف أو يقول قولاً كان الصحابة يسألونه سؤالاً تقليدياً تجده منتشراً في السيرة النبوية ((يا رسول الله أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟)). ففي غزوة بدر عندما نزل منزلاً سأله الخباب بن المنذر “أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمشورة والمكيدة؟” فقال النبي: هو الرأي والحرب، قال هذا ليس لك بمنزل)). وكذلك اتبع النبي مبدأ الشورى في غزوة الأحزاب.

*باحث مصري

Optimized by Optimole