متطلبات العقيدة العسكرية العمانية في ضوء تحولات القوة والصراع في النظام العالمي المقبل

متطلبات العقيدة العسكرية العمانية في ضوء تحولات القوة والصراع في النظام العالمي المقبل
Spread the love

دراسة من إعداد: محمد بن سعيد الفطيسي* — خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط – بيروت – لبنان – حقوق النشر محفوظة للمركز – 2018.

من هم أعداؤنا؟ من هم حلفاؤنا اليوم وفي الغد القريب والبعيد. كيف نعرفهم؟ وكيف يمكن التأثير عليهم لصالحنا؟ كيف ومتى يمكن أن نقرر الانضمام والاصطفاف مع الآخرين لمواجهة تحديات ومشاكل النظام العالمي؟ وهل نحن مضطرون الى ذلك؟ هل يجب أن ننطلق من الأرضية الصلبة لمصالحنا الوطنية بشكل مادي، أم يمكن أن نأخذ في الحسبان مصالح مجتمع دولي موهوم وواهن كما وصفته مستشارة الأمن القومي الأميركي السابق كوندوليزا رايس؟ هل نحن مستعدون بالفعل للولوج الى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بما يحمله معه من سيناريوهات كارثية تعج بالفوضى والصراعات العابرة للحدود الوطنية، وارتفاع مصادر التهديد وعدم الاستقرار السياسي والأمني والعسكري في البيئة الدولية؟([1])

لقد تطرقت في دراسات سابقة للعديد من تلك التحولات السياسية والعسكرية والأمنية الراهنة والمحتمل وقوعها في المستقبل، والتي أثرت بدورها في جوانب أكثر دقة وعمق كالمتغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الدولية، ما انعكس بدوره على الواقع الإقليمي وكذلك الوطني للعديد من الدول حول العالم، مؤكداً أن النظام العالمي القائم على التشكل اليوم سيحمل في شكله النهائي “النظام العالمي القادم” مظاهر استثنائية للهيمنة والسلطة وتوازن القوى الدولية من جهة، ولأشكال القوة والتسلح واستراتيجيات الصراع والنزاع من جهة أخرى، وخصوصاً في ما يتعلق منها بقضايا التحالفات الدولية وديمومة الصداقات والعداوات.

كل تلك المظاهر حملت في طياتها خليطاً من المخاوف وضرورات التغيير والتحول، وخصوصاً في ما يتعلق بمفاهيم سياسية وقانونية وعسكرية وأمنية بات أكثرها معرض للتفكك والتحلل والتراجع في مواجهة أخرى يحتمل كثيراً أن تحل مكانها بالتدرج مع الوقت كمفهوم الدولة الافتراضية والمواطن العالمي في مقابل مفهوم سيادة الدولة، ومفهوم التسلح الكمي سيستبدل بالتسلح النوعي، والأمن التقليدي في مقابل الأمن السيبراني أو الاستراتيجي في العصر الرقمي على سبيل المثال لا الحصر. وهذا ما يرفع من سقف مخاوف العديد من أنظمة العالم السياسية وحكوماتها بمختلف أحجامها وأشكالها وتوجهاتها، وخصوصاً في جانب الأمن والاستقرار ومقدرة تلك الحكومات على تحقيق تلك المتطلبات الأصيلة للدولة والمواطن فيها.

على ضوء ذلك ستجد أغلب الدول نفسها خلال السنوات القادمة ومن ضمنها سلطنة عمان بكل تأكيد في مواجهة العديد من المتغيرات السياسية والتحولات الجيوسياسية في البيئة الدولية، والتي ستنعكس سلباً بدورها على البيئة الأمنية الداخلية والخارجية، لتصنع نوعاً متطوراً ومتقدماً من التهديدات والمخاطر الأمنية والعسكرية التي لم تعهدها الكثير من الدول، وخصوصاً أن تلك التهديدات ستنطلق من (بيئة أمنية استراتيجية أشد خطورة وأكثر غموضاً وتعقيداً وإثارة للهواجس الأمنية من البيئة التي واجهها أسلافهم في القرن العشرين)([2]).

هذا الامر يدفع بدوره الى أهمية بناء استراتيجيات أمنية وعسكرية متقدمة ومتطورة  قادرة على احتواء تلك التحولات في النظام العالمي القادم، بما يحقق للدول القدرة على مواجهة ما يمكن أن يعترض سبيل أمنها وسيادتها واستقرار أراضيها ومواطنيها من مخاطر وتهديدات مختلفة ومتنوعة. وكذلك يحقق لها القدرة على التطور في منظومتها العسكرية الاستراتيجية للاحتواء والردع أو الدفاع والهجوم، وخصوصاً أن النظام العالمي القادم سيدفع، إن لم يكن قد فعل بالفعل ذلك، أكثر دول العالم وحكوماته، وحتى تلك التي نجحت الى حد ما في الابتعاد والنأي بالنفس عن الصراعات والنزاعات الدولية كما هو حال سلطنة عمان، الى الدخول في دائرة الصراع والنزاع العابر للحدود الوطنية، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر انطلاقاً من نظرية التأثير المتبادل للأحداث العابرة للحدود الوطنية.

فلا شك أن هناك (تبادلاً في التأثير وردود الأفعال والمواقف السياسية والعسكرية والأمنية الرسمية في ما بين أعضاء المنظومة الدولية “العلاقات الدولية والسياسات الدولية” داخل إطار علاقة تغذية راجعة وتبادلية بخصوص تلك الأساليب والاستراتيجيات وجملة المتغيرات والتوجهات المتعلقة بإدارة تلك الصراعات والنزاعات والتوازنات من جهة أخرى)([3]).

ويعود ذلك إلى أسباب عديدة ومختلفة (فقد نكون نحن أنفسنا منخرطين في نزاع ما، وجميعنا في الواقع مشاركون في نزاع عالمي ونرغب بالفوز بالمعنى الأصلي للكلمة. وقد نرغب في فهم كيف يتصرف المشاركون فعلياً في حالات النزاع، حيث يمكن أن يصبح فهم أسلوب اللعب “الصحيح” مقياساً لدراسة السلوك الفعلي. وأما السبب الثالث فهو أننا في السيطرة والتأثير في سلوك الآخرين في نزاع ما، ونود لهذا أن نعرف كيف يمكن للمتغيرات التي نملك السيطرة عليها أن تؤثر في سلوكياتهم)([4]).

من جانب آخر، فإن الإلمام المسبق بتلك التغيرات والتحولات القائمة على التشكل والمحتمل حدوثها في النظام العالمي القادم وخصوصاً في ما يتعلق منها بتأثير النظرية الواقعية في العلاقات الدولية وانعكاسها على جانب الشؤون الأمنية والعسكرية للدول سيرسم لكل من المنظر والمقرر الوطني خارطة طريق مستقبلية. بل وسيحقق لهما التمكين في الرؤية الاستشرافية وبالتالي القدرة والإمكانية على بناء عقيدة عسكرية وأمنية واقعية قادرة على تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن والاستقرار الوطني.

وهذا الأمر لم يكن بخافٍ على القيادة السياسية العمانية منذ عقود طويلة، فقد تنبه له السلطان قابوس بن سعيد المعظم منذ بواكير النهضة المباركة، وعمل بكل واقعية وجدية على بناء منظومة استراتيجية أمنية وعسكرية وطنية قادرة على مواكبة جملة المتغيرات السياسية والتحولات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الدولية والإقليمية القائمة حينها والمحتمل وقوعها منذ ذلك الوقت، بما يكفل لسلطنة عمان أقصى قدر ممكن من الأمن والاستقرار في البيئة الدولية والإقليمية.

ويتأكد لنا ذلك من جملة الحقائق والممارسات ذات الطابع الاستراتيجي سواء ما تعلق منها بالشؤون العسكرية أو الأمنية، وسواء كان ذلك في الجانب النظري أو العملي، كتطوير المؤسسات ذات الاختصاص ورفدها بالأسلحة النوعية والسعي لمواكبة التطورات التكنولوجية والتقنية ذات العلاقة. يضاف الى ذلك رفع المستوى التعليمي والتدريبي لأفراد تلك المؤسسات المعنية، ما انعكس إيجاباً على تطور كل من العقيدة الأمنية والعسكرية للدولة العمانية “تطوير النظرية”، وعلى البيئة الوطنية العمانية نفسها “الواقع العملي الميداني”، وتحديداً في جانب السياسات الأمنية الداخلية والسياسية الخارجية العمانية وعلاقة سلطنة عمان مع مختلف دول العالم، مع مراعاة مواكبة التغيير المرحلي سواء كان ذلك من ناحية التوجهات أو الاستراتيجيات العسكرية والأمنية، أو تطوير القرارات والقوانين ذات الصلة بالمحافظة على البيئة الأمنية الاستراتيجية في ما يطلق عليه “بتطوير الوعي الاستراتيجي”.

ومن أبرز ما يمكن الإشارة إليه على سبيل المثال لا الحصر على صعيد المعرفة والوعي الاستراتيجي العماني بمتغيرات واحتمالات التغيير في النظام العالمي، وما يمكن أن يحمله ذلك من تحولات على صعيد تجاذبات القوى الدولية والتغيير في مفاهيم التحالفات وموازين الصراع والسلطة والنفوذ والهيمنة على رقعة الشطرنج العالمية استناداً الى الرؤية السلطانية منذ العام 1970م، وانعكاس كل ذلك على البيئة الوطنية العمانية، ووجهة النظر العمانية الى تلك المتغيرات، سواء كان ذلك على الصعيد الإقليمي أو الدولي، والذي بدوره ساهم بشكل كبير على تطوير منظومة الأمن العسكري الاستراتيجي للسلطنة، يمكن ذكر الجوانب التالية:

أولاً: على صعيد بناء العقيدة العسكرية العمانية وطنياً “الهياكل البنائية العامة”: من أبرز ما يمكن الإشارة اليه على سبيل المثال لا الحصر في جانب المرئيات والتوجهات الوطنية التي تم بناء عليها بناء العقيدة العسكرية العمانية من الناحية الفكرية والاستراتيجية أو ما يطلق عليه “هياكل بناء العقيدة العسكرية”.

1- بناء الجيش السلطاني العماني بطريقة عصرية ومتطورة سواء كان ذلك من حيث التسلح المادي أو المعنوي. وقد ربط السلطان قابوس أمن البلد واستقرارها بقوة جيشها فقال (إن أمن البلاد واستقرارها مرتبط بتطور الجيش العماني وتأمين ما يحتاجه من معدات وأجهزة)([5]). فكان اهتمامه برفد هذا القطاع بمختلف أسلحته بأفضل المعدات والتقنيات الحديثة والمتطورة، والتي يمكن أن تساهم في تحقيق الرؤية السلطانية لتطلعات الأمن والاستقرار على الصعيد الوطني والإقليمي في ظل تلك المتغيرات المتسارعة والخطيرة في النظام العالمي وتجاذبات القوى ومساعي الهيمنة والقوة والنفوذ وتوازنات القوى الدولية.

2- رفض دخول السلطنة في أي نوع من التجاذبات والصراعات المتعلقة بتوازنات القوى الدولية عبر تحالفات وتكتلات عسكرية أو أمنية خصوصاً تلك القائمة على التوجهات ذات الطابع العسكري والأمني الموجه ضد الدول، على أن ذلك لا يمنع من الانضمام الى التحالفات القائمة على مبادئ الأمن الوقائي أو الدفاعي، والذي تقوم فيه الدول على (مساعدة بعضها البعض بالتعاون والتكاتف لدرء العدوان والوقوف مع بعضها في قضاياها العادلة والمصيرية وتحقيق استقلالها وحريتها، ولكنه يرفض كل أشكال التحالفات والتكتلات مهما كان شكلها ما دام الهدف من ورائها الاعتداء على سيادة الدول واستقلالها، أو السعي لاستعمارها واحتلالها أو قلب أنظمتها السياسية أو غير ذلك من التوجهات السياسية أو العسكرية العدوانية، وهو ما تؤكده الواقعية العمانية وواقع تطبيق الفكر السياسي لصاحب الجلالة(قابوس) على سلوكيات وتصرفات وسياسات الدولة العمانية في سياساتها وعلاقاتها مع دول العالم منذ العام 1970 وحتى يومنا هذا)([6]).

والدليل على ذلك كمثال لا على سبيل الحصر سعي عمان إلى إقامة تكتل إقليمي لمجابهة المخاطر التي يمكن أن تعطل الملاحة في مضيق هرمز([7]) والتي (تراها مسؤولية جماعية لا فردية، وهو كذلك تدبير لإجهاض أية خطوة لتمركز قوة أجنبية فيه بذريعة حمايته ويقيد أي مبرر لتدخل الدول الأخرى ولا سيما القوى العظمى فيه وفي المنطقة عموماً). ومن هذا الأساس والنظرة تقدمت عُمان عام 1979م بمشروع عُرف لاحقاً بالمشروع التقني العماني([8]). ويبيّن المشروع أن المخاطر على المضيق تأتي إما بزراعة الألغام أو باحتلال الممر من قبل قوة بحرية معادية([9])، وكذلك مشاركة السلطنة في تحالف الدول الإسلامية ضد الارهاب في عام 2016م.

ثانياً: على مستوى العقيدة العسكرية العمانية “إقليمياً”: فقد قامت على مجموعة من الأسس الاستراتيجية: أما الأول فيتحقق “عن طريق بناء القوة وإقامة التعاون والتنسيق بين دول الخليج متسلحة بالإرادة السياسية التي تدفعها نحو هذا التوجه من دون أن تكون الاستراتيجية قائمة على تشكيل الأحلاف – انطلاقاً من مبادئ العدوان أو المبادرة بالعدوان-. ثانياً: فمؤداه إيجاد مساحات من التفاهم والتعاون بين دول الخليج العربية، وكذلك بين هذه الدول والدول الأخرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة التي يهمها أصلاً أمن الخليج واستقراره. لذا حصرت سلطنة عمان مطالبها بالمساندة الخارجية في الجانب السياسي وما يتعلق بالمعدات والخبرات. وهذا يشير الى أنها ترى أن أمن الخليج يمكن أن يتحقق من خلال تنمية قدرات دوله الدفاعية وإقامة مستوى من الاعتماد المتبادل بينها وبين القوى الدولية الأخرى، إستناداً الى المنفعة المتبادلة)([10]).

يضاف الى ذلك أن سياسات وأدوار السلطنة في ما يخص التحولات والنزاعات الإقليمية قامت على رفض كل أشكال العنف والصراعات التي بلا شك ستهدد أمن المنطقة برّمتها، الأمر الذي دفعها الى أن يكون لها من الأدوار الحاسمة في تهدئة الكثير من صراعات المنطقة العربية منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين وحتى يومنا هذا. وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر قال السلطان قابوس: (إن سياستنا كانت ولا تزال تعبّر عن اهتمامها الدائم بتهدئة الأوضاع في المنطقة وتعزيز فرص الحوار بين الأطراف المتنازعة لحل خلافاتها بروح الوفاق والتفاهم. وإذ نشعر بالأسف لاستمرار الحرب العراقية – الإيرانية لما تعكسه من سلبيات ومضاعفات تنطوي على احتمالات خطيرة تهدد السلام العالمي فضلاً عن تهديدها لأمن المنطقة)([11]).

ثالثاً: على مستوى منظور العقيدة العسكرية العمانية للشؤون الدولية:  لا شك أن هناك الكثير من الجوانب والأمثلة التاريخية التي يمكن الارتكاز والاستناد عليها للتعرف على كيفية بناء أسس وقواعد الرؤية السلطانية لمستقبل العقيدة العسكرية العمانية في جانبها الدولي منذ العام 1970م، سواء كان ذلك في جانب المرئيات السياسية أو العسكرية لمستقبل الصراع بين القوى الدولية في منطقة الشرق الأوسط، أو في جانب الاستراتيجيات المطلوبة لمواجهة ذلك من الناحية التنظيرية أو الواقعية التطبيقية في البيئة العمانية.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك: الصراع على مصادر الثروات في المنطقة والتي يقع على رأسها النفط، حيث وفي هذا السياق قال السلطان قابوس: (لا شك أنه لم يعد يخفى على أحد أن الجزيرة العربية بما فيها الخليج، في كل بقعة منها أكثر من ثروة، ولعل في مقدمتها البترول … لا جدال إذاً أن هذه الأرض المليئة بالخير تصبح مطمعاً. إن هذه الثروات تفتح شهية الآخرين أينما كانوا شرقاً أو غرباً)([12]).

ثمة جانب آخر هو الدور العماني في صناعة الاستقرار والأمن وتوازن القوى الدولية في الشرق الأوسط منذ ثمانينيات القرن الماضي. فقد قال السلطان قابوس: (قد نادينا في الماضي الى اتباع سياسة التعقل ودعونا قادة المنطقة الى فهم حقيقة التوازنات بين القوى السياسية والاقتصادية الدولية ومن ثم التعامل معها بحكمة واتزان بما يحقق المصالح الحيوية لشعوب أمتنا العربية)([13]). وفي سؤال وجه للسلطان قابوس بن سعيد ” في العام 1982م بأنه يقال إن التسهيلات المعطاه لأميركا دعمت موقف الروس بطريقة غير مباشرة في عدن وأن المحصلة النهائية زج المنطقة في خضم الصراع بين أميركا وروسيا؟، فأجاب: (لا بد أن أرفض هذا الكلام لأن الوجود الأميركي أو الأصح الغربي في المحيط الهندي والمنطقة المحيطة بنا هو لإيجاد نوع من التوازن مع الوجود السوفياتي. ولا بد من القول إن الوجود في المحيط الهندي ليس أميركا فقط بل غربي بشكل عام، وحتى استراليا لها وجود. السؤال هو: لماذا؟ الواقع إن ذلك كله نشأ نتيجة الوجود الروسي في المنطقة، مما حتم الوجود الغربي لإيجاد نوع من التوازن. ونحن نؤمن بالتوازن لأن التوازن يزيل الخطر. وعدم وجود التوازن يزيد الخطر. فإذا رجحت كفة جهة على أخرى فإن ذلك سيشجع الأولى على اتخاذ خطوات قد تكون مضرة، وأنا أرفض القول إن هذا يجعل المنطقة أكثر اشتعالاً،  بل أعتقد أنه يحقق نوعاً من التوازن)([14]).

ما يؤكد بدوره على أن السلطان قابوس “يعد من الأشخاص القلائل الذين تنبهوا إلى أهمية البعد الجيوسياسي وأثره على السياسات الدولية في الشرق الأوسط من جهة، وإلى أهمية المنطقة العربية التي تشكل قلب كل الاقتصاد العالمي في جملة تلك التوجهات والطموحات والسياسات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الدولية من جهة أخرى. وكان لتلك المعرفة الاستراتيجية المبكرة دور فعال ومهم في تشكيل العقيدة العسكرية والأمنية العمانية وكذلك السياسة الخارجية، ما جعل من هذه الأخيرة تسير على نهج سياسة النأي بالنفس بعيداً عن دائرة الصراعات الدولية ومركز التوترات السياسية وتنافس الدول الكبرى أو طموحات بعض الدول الإقليمية في هذا الجزء شديد المخاطر الجيوسياسية من العالم. فكانت تلك الوسيلة الناجعة لعبور ذلك الامتداد مرتفع المخاطر الجيوسياسية والذي نشاهد آثاره وانعكاساته اليوم على الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط بوجه عام والجغرافيا السياسية للمنطقة العربية على وجه الخصوص([15]).

وها هي سلطنة عمان تلج عتبة العام 2018م وهي و”لله الحمد ” تؤكد نجاح رؤية قيادتها الرشيدة في ما يخص جانب بناء استراتيجيتها المتعلقة بالشؤون الأمنية والعسكرية منذ العام 1970م، “العقيدة العسكرية” بالتوازن والتوازي مع مختلف ملفات التغير في الأنظمة الدولية التي عايشتها سواء ما كان منها “ثنائي القطب بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي” أو “آحادي القطب – المركزية الأميركية”، أو ما تعلق منها بمختلف قضايا الصراعات وطموحات الهيمنة والنفوذ ومساعي القوى الدولية والإقليمية لتغيير خارطة الشرق الأوسط، وغيرها من الملفات والقضايا ذات الصلة بالتغيير في استراتيجيات الصراع والنزاع العابرة للحدود الوطنية، وخصوصاً تلك التي لامست بشكل مباشر البيئة الوطنية العمانية.

على أن ذلك النجاح يجب أن تتم المحافظة عليه نظرياً وواقعياً عبر تطوير وتحديث النظريات العسكرية والسياسية والأمنية، وخصوصاً ما يتعلق منها بمفهوم الصراعات والتوازنات والعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين من جهة. أما من جهة أخرى فيجب أن يتم رصد مختلف التطورات في استراتيجيات الصراع والنزاع بهدف تطوير الاستراتيجية الوطنية لاحتواء النزاعات التي يمكن أن تكون السلطنة طرفاً فيها في لحظة زمنية معينة في العقود القادمة، وبالتالي تطوير وتحديث المنظومة العسكرية بناء على ذلك سواء ما يتعلق منها بالأسلحة المتطورة أو في ما يتعلق باستراتيجيات الردع والاحتواء أو الهجوم والدفاع، في بيئة إقليمية ودولية شديدة الخطورة والتعقيد وكثافة التحديات الأمنية، وخصوصاً أن النظام الدولي القائم على التشكل اليوم، “نظام التعددية القطبية الفضفاضة”، هو نظام لم تعهده مختلف دول العالم، لا من حيث أعداد القوى الدولية التي تحركه، ولا من حيث بعض المفاهيم العسكرية والأمنية الاستراتيجية التي يقوم عليها. وبمعنى آخر إن (عالم اليوم بعيداً كل البعد عن أن يكون أحادياً قطبياً مطرداً، على الرغم من وضوح كون الولايات المتحدة الأميركية هي القوة المسيطرة في النظام. كما أن هناك سلسلة طويلة من سمات وملامح حكم الكثرة المتحدية لها: ثمة أنماط مختلفة من السلطة، وتشكيلة واسعة من الجهات الرسمية وغير الرسمية المتمتعة بهذه السلطة، والصداقات والعداوات المتعددة والمتداخلة حيث يمكن للأصدقاء والأعداء أن يختلفوا تبعا للقضية المطروحة)([16]).

كما أن الحلفاء والأصدقاء في هذا النوع من الأنظمة العالمية وفي وضع ومكان وزمان معين هم أعداء وخصوم في مكان وزمان ووضع آخر، حيث علاقات الخصومة المتشكلة ستغلب على علاقات التحالف في العديد من القضايا من جهة، وذلك بسبب العدد الكبير من اللاعبين ونوعياتهم التي تجعل من النظام العالمي نظاماً فوضوياً ومتناقض التركيب، سريع التقلبات والصدقات والعداوات، في ظل غياب شركاء تحالف يعول عليهم، مما يجعل من تشكيل التحالفات وديمومتها أمراً بالغ الصعوبة.

على ضوء ذلك، كان من الضروري والمهم التنبيه الى بعض الجوانب الرئيسية سواء كان ما تعلق منها بالجانب العسكري أو الأمني، أو بتطوير بناء هياكل العقيدة العسكرية العمانية في القرن الحادي والعشرين، وخصوصاً خلال المرحلة 2020- 2030م، والتي يجب أن تنال مزيداً من الاهتمام النوعي الاستراتيجي في ظل النظام العالمي سالف التسمية والتعريف، سواء ما يتعلق منها بالجانب التنظيري أو الجانب العملي والميداني. ومن أبرز الجوانب والتوجهات الاستراتيجية التي يجب الحرص والاهتمام بها في تكوين وبناء متطلبات العقيدة العسكرية العمانية في القرن الحادي والعشرين هي الجوانب التالية وهي على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: لا توجد أي ضمانات على مستوى الصداقات والعداوات، حتى تلك التحالفات والتكتلات التي يمكن أن يطلق عليها بالشراكات المحكمة والتي نشأت بين الدول القائمة اليوم خلال العقود الماضية ستنهار مع الوقت أو ستضعف بالتدرج على حساب التصرفات الأحادية لبعض القوى الدولية والإقليمية و(سيرتفع سقف التحركات أحادية الجانب للعديد من الدول دون اعتبارات لحجمها في مواجهة من تعتبرهم خصومها، وكذلك دون مراعاة للقوانين الدولية أو الاعتبارات الإنسانية نظراً لوجود الإمكانيات التكنولوجية المتقدمة لديها بسبب وجود المال والثروة)([17]) وكذلك النزعة التسلطية لزعاماتها، مع استفحال الرغبة في امتلاك القوة والنفوذ والسلطة. ففي عالم نظام – التعددية القطبية الفضفاضة وكذلك – نظام حكم الكثرة فثمة عدد أكبر بكثير من (الحبائل السائبة) المتروكة على الغارب (حرفياً ومجازياً) القادرة وحدها على إحداث الفوضى في النظام، ناسفة باستقرار الحكومات جنباً الى جنب مع الترتيبات الخاصة بالسلام والأمن الدوليين([18])، ما يجب مراعاته في طرح أي تطوير أو تحديث في جانب العقيدة العسكرية العمانية المستقبلية.

ثانياً: إن أدوات الصراع وساحات المعارك في هذا النظام المتشكل “نظام التعددية القطبية” وأساليبه السياسية والأمنية والعسكرية ستختلف بشكل كبير وجذري، حيث سيغلب عليها الطابع التكنولوجي والفني وخصوصاً ذلك الذي يتعامل مع العالم الافتراضي، وكذلك استراتيجيات الردع والاحتواء المتقدم تحت شعارات وشماعات الأمن القومي والتدخل الإنساني قبل التفكير في أية عملية هجومية مباشرة على الخصوم، مع التأكيد على أن تلك الأدوات المتقدمة والحديثة في (الساحة الافتراضية) لن تتمكن من إلغاء الدور البشري أو الجانب الفيزيائي في عمليات الصراع أو الحروب القادمة.

(فعندما يتصاعد نزاع ما ويتحول الى حرب مسلحة في المستقبل، سيجد المشاركون فيه أن ساحة المعركة قد باتت مختلفة تماماً عما كانت عليه في الماضي. و- لكن – لن يغير فتح الجبهة الافتراضية للحرب حقيقة أنه مهما تطورت الأسلحة والجنود، فسيكون عليها العمل في العالم الفيزيائي، ولن تستغني عن الدور الأساسي للتوجيه واتخاذ القرار البشريين. أما الجيوش التي لا تأخذ هذه الظاهرة مزدوجة العوالم (ومسؤولياتها في كلا العالمين) في الحسبان، فستجد أن التقانة الجديدة التي تجعلها ماكينات قتل أكثر فعالية، تجلب عليها الكراهية والتشهير أيضاً، مما يجعل مشكلة كسب العقول والقلوب أصعب بكثير)([19]). وبالتالي ينبغي أن تؤخذ في الحسبان مراعاة هذا التوجه في النظام العالمي القادم عند تطوير العقيدة العسكرية العمانية.

ثالثاً: سيتم الاعتماد بشكل رئيسي على التكنولوجيا المتقدمة في صراعات ونزاعات المستقبل، وخصوصاً(الأدوات والتقنيات السبرانية) في العالم الافتراضي أو حتى الفيزيائي، والتي ستهدف بشكل رئيسي إلى التعرف على ما يملكه الخصم عبر التجسس عليه من دون مراعاة لأي نوع من الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية أو الجوارية. بالتالي، فإن المعلومات الاستراتيجية والقدرات الاستخباراتية والأقمار الصناعية المتعلقة بالتجسس ستكون العامل الأبرز في حروب المستقبل والعامل الأهم في حسمها، ومن ثم السعي الى شل حركة الخصم وقوته عبر نشر تلك الفيروسات الفتاكة في جسده الافتراضي، أو عبر إطلاق شبكة متكاملة من أدوات الحرب النفسية ونشر القلاقل والثورات والانقلابات والمشاكل العابرة للحدود الوطنية وتأجيج الشعوب على حكوماتها، عبر نشر معلومات مغلوطة أو كشف حقائق خفية أو فضح تلك الحكومات عبر نشر بعض السلوكيات والتصرفات والقرارات الفاسدة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك كانت وثائق ويكيليكس.([20])

جانب آخر تجب الإشارة اليه في هذا السياق المتطور لأشكال الصراعات والحروب في العصر الرقمي الجديد والتي ستتأثر بشكل مباشر بسياقات التغيير الواضح في توازنات القوى الدولية، ومساعي بعض القوى الإقليمية للهيمنة والنفوذ والحصول على السلطة، سواء ما كان منها متعلق بمستقبل الدول والثورات أو الاضطرابات وأشكال التمرد المستقبلية على الدول أو الحرب على الإرهاب أو التسلح أو حول مستقبل النزاعات والمعارك والتدخلات العابرة للحدود الوطنية، والتي بكل تأكيد لن تتم فيها مراعاة سيادة الدول أو احترام خصوصياتها. كما ستشمل صراعات وحروب المستقبل دخول أطراف غير حكومية، سواء منظمات أو افراد، وسيكون لهم من القوة والسلطة ما سيمكنهم من لي ذراع العديد من الأنظمة السياسية التي ستفشل في تطوير منظومتها الأمنية والعسكرية المستقبلية.

فعلى سبيل المثال و(بالرغم من التأكيد على أن لكل دولة قائمة قوانينها الخاصة ومعاييرها الثقافية والسلوكية التي تتقبلها- إلا أن- دخول المليارات من البشر الى الانترنت خلال العقود القادمة سيعيد الكثيرون منهم اكتشاف الاستقلال – سواء في الأفكار أو الكلام والحديث – ما سيمثل امتحاناً لهذه الحدود الفاصلة. كما أنه وفي العالم الافتراضي ستشكل الحساسيات الثقافية والعرقية المشتركة قوة تجاذب بين الدول، بما فيها دول ربما ما كانت لتتقارب لولا هذه الحساسيات، أي أننا سنكون أمام أسطول من دول أصغر تستجمع مواردها معاً لتواجه الدول الأكبر حجماً. كما سنشهد تصاعداً في التحالفات متعددة الأطراف في العالم الافتراضي، حيث ستتشكل بناء على التضامن الأيديولوجي أو السياسي، وستشارك فيها الدول والشركات على حد سواء لتعمل معاً ضمن تحالفات رسمية. كما ستنمو القدرات التقنية للمتطرفين العنيفين مع تطويرهم استراتيجيات التجنيد والتدريب والتنفيذ في العالم الافتراضي(21).

[1] – هذه الفقرة . تم اقتباسها من كتاب للباحث “سينشر بإذن الله” بمعرض مسقط 2018م عن مكتبة الضامري للنشر والتوزيع ؟ سلطنة عمان  تحت عنوان : التوجهات الكبرى في بنية النظام العالمي وانعكاساتها على المبادئ الامنية الموجهة للسياسة الخارجية العمانية

[2] – هاري ار .يارغر ، الاستراتيجية ومحترفو الامن القومي – التفكير الاستراتيجي وصياغة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين ، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، الامارات/ابوظبي، ط1/2011م

[3] – محمد بن سعيد الفطيسي ، الشكل المتغير للحرب واستراتيجيات الصراع في النظام العالمي القادم ، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية – لندن – www.asharqalarabi.org.uk، بتاريخ 9/1/2018م

[4] – استراتيجية الصراع ، توماس شيلينج ، ترجمة : نزهت طيب واكرم حمدان ، مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم ناشرون،  قطر / الدوحة ، ط1/2010م.

[5] – جريدة السياسة اللبنانية، بتاريخ 26/1/1974م، نقلا ًعن صحيفة عمان العمانية، س1/ع63 ، ص 1+4.

[6] – محمد بن سعيد الفطيسي ، “التحالفات الدولية” في الفكر السياسي لجلالة السلطان ، صحيفة الوطن العمانية ، www.alwatan.com، بتاريخ 9 / 1 / 2017م

[7] – د. علي بن احمد العيسائي ، ازمة الملاحة والمرور في مضيق هرمز خلال الفترة من 1979م الى 1989م ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع ، مسقط / سلطنة عمان ، ط1م2014م

[8] – انظر : لمياء الكاظم ، المشروع العماني لأمن الخليج في الدوريات العربية ، مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة ، سلسلة رقم 65 للعام 1980م

[9] – مصطفى نبيل ، مثلث الخطر ، بيروت / لبنان ، دار الكلمة للنشر ، ط2/1983م

[10] – د. محمد مبارك العريمي ، الرؤية العمانية للتعاون الخليجي ، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ،ع 121 ، ط1/2007م

[11] – منشورات وزارة الاعلام العمانية – كلمات وخطب حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ، ط1/2015م

[12] – مجلة درع الوطن الظبيانية ، نقلا عن جريدة عمان ، بتاريخ 14/7/1973م ، ع 35/ س 1

[13] – منشورات وزارة الاعلام العمانية – كلمات وخطب حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ، ط1/2015م

[14] – ناصر ابو عون ، صحفيون في بلاط صاحب الجلالة – محاورات السلطان قابوس مع وسائل الاعلام العربية والاجنبية 1970-2011م – دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع ، عمان / الاردن ، ط1/2015م .

[15] – محمد بن سعيد الفطيسي ، المعرفة الجيوسياسية في الفكر السلطاني وتأثيرها على السياسة الخارجية العمانية ، صحيفة الوطن العمانية ، www.alwatan.com، بتاريخ 20/فبراير/2017م.

[16]سيوم براون ، وهم التحكم – القوة والسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين ، ترجمة فاضل جتكر ، ظ1/2004م

[17] – محمد بن سعيد الفطيسي ، الشكل المتغير للحرب واستراتيجيات الصراع في النظام العالمي القادم ، صحيفة الوطن العمانية ، بتاريخ 1/1/2018م

[18]– سيوم براون ، وهم التحكم – القوة والسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين ، ترجمة فاضل جتكر ، ظ1/2004م

[19]– اريك شميدت وجاريد كوين ، العصر الرقمي الجديد – إعادة تشكيل مستقبل الأفراد والأمم والأعمال ، ترجمة :احمد حيدر ، الدار العربية للعلوم/بيروت ، ط1/2013م.

[20] – محمد بن سعيد الفطيسي ، الشكل المتغير للحرب واستراتيجيات الصراع في النظام العالمي القادم ، صحيفة الوطن العمانية ، بتاريخ 1/1/2018م.

 

*باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، رئيس تحرير مجلة “السياسي” – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية.

Optimized by Optimole