كيف واجهت الصين أزمة “كورونا”

كيف واجهت الصين أزمة “كورونا”
Spread the love

د. هيثم مزاحم – أستاذ جامعي وباحث لبناني |
يقول الإمام أبو حامد الغزالي “ليس بالإمكان أبدع مما كان”، وهي مقولة فلسفية يقصد بها أن الله الذي خلق الكون لا يمكنه أن يبدع أو يخلق أبدع من هذا الكون، لأنه قد أبدعه على أكمل صورة.
انطلاقاً من هذه المقولة الفلسفية، يمكننا القول إن ما قامت به دولة الصين من إجراءات لاحتواء فيروس “كورونا” الجديد والبحث عن علاج ولقاح له، ما كان ممكناً لها أن تقوم بأفضل مما قامت به. وقولنا هذا ليس مبالغة أو مجاملة للصين ولا يعني إعفاء أي من المسؤولين من أي تقصير أو خطأ. فلا شك أن الجميع يخطئ وبخاصة في الأزمات، نتيجة التوتر أو الإرهاق أو الصدمة وأحياناً نتيجة عدم الفهم المبكر لخطورة هذا الفيروس وتداعياته.
لكن ما قامت به حكومة الصين بعدما أدركت خطورة فيروس “كورونا” المستجد من إجراءات لاحتواء الوباء ومنع انتشاره ما كانت لتقوم به أي حكومة أخرى في العالم، وما كانت أية دولة لتنجح في هذه الإجراءات كما نجحت الصين.
نحن نتحدث هنا عن نحو مليار و400 مليون نسمة، عليك ضبطهم وترشيدهم وسط حالة من الفزع والهلع، وعليك تأمين لهم الإمدادات الطبية والغذائية اللازمة في ظل إغلاق لمقاطعة بأكملها ولمدن كاملة، وتوقف للأعمال والمصانع والمدارس والجامعات وأغلب الوظائف والمتاجر. وجاء ذلك ¬عشية عيد السنة الصينية القمرية وإعداد الصينيين لاحتفالات ومهرجانات ورحلات خارجية وداخلية للاحتفال بالعام الجديد أو لزيارة أهاليهم وأقاربهم.
ما قامت به الصين بداية من إلغاء هذه الاحتفالات والمهرجانات لمنع انتشار الفيروس بين الحشود كانت خطوة ذكية ومحمودة، وهو ما منع انتشاراً أوسع للوباء. لكن التضحية الأكبر كانت في إغلاق مقاطعة هوبي، بما اعتُبر أضخم حجر صحي في التاريخ والعالم، حيث تم إغلاق إقليم يضم نحو 60 مليون نسمة. وكما عبّر موقع “بلومبرغ” الأميركي فإن الصين تضحي بمقاطعة من أجل إنقاذ العالم.
طبعاً التضحية هنا رمزية بمعنى أن الحكومة الصينية فرضت قيوداً على سفر وتنقل المقيمين في مقاطعة هوبي وهو بالطبع لن يرضي كل الناس وسيزعج كثيرين لتقييد حرياتهم، لكن سلامة ملايين الصينيين الآخرين والمليارات في باقي أنحاء العالم، أهم وأولى من انزعاج البعض وشعوره باحتجاز حريته.
وكما قال يانغ قونغ هوان، النائب السابق لمدير عام مركز الصين للسيطرة على الأمراض والوقاية منها: “لو لم يتم إغلاق المقاطعة، لكان بعض الناس قد ذهبوا في جميع أنحاء البلاد لمحاولة الحصول على مساعدة طبية، وكان من الممكن أن يتحوّل البلد بأكمله إلى منطقة تعاني من الوباء. إن الحجر الصحي قد جلب الكثير من المصاعب لمقطعة هوبي ومدينة ووهان، ولكن كان هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله”. وأضاف: “إنها مثل خوض حرب – بعض الأشياء صعبة، ولكن يجب القيام بها.”
ولعل بعض التقصير والأخطاء التي ظهرت في بداية الأزمة هو ما نقلته بعض وسائل الإعلام الغربية، إن كان دقيقاً، هو تأخر تحذير السلطات في مدينة ووهان من خطورة الفيروس واتخاذها إجراءات للحد من انتشاره داخل المدينة، وكذلك التأخر في إيصال الإمدادات الطبية لمقاطعة هوبي بعد إغلاقها، مما ساهم في انتشار الفيروس ووفاة الكثيرين.
ولعل محدودية مستشفيات المدينة لم تساعد في القدرة على استقبال جميع المرضى المصابين بالفيروس وفي إجراء اختبارات لجميع السكان أو الذين يشعرون ببعض أعراضه، مما حدا بالسلطات إلى بناء مستشفيين في المدينة في غضون عشرة أيام، وهو إنجاز تُحسد عليه الصين، وما من دولة قادرة على القيام بذلك خلال هذه الفترة الوجيزة.
ولا شك أن الحكومة الصينية المركزية وحكومات المقاطعات ومسؤولي المدن وبخاصة الفرق الطبيية والصحية قد قاموا بجهود فائقة لاحتواء الفيروس ومعالجة المرضى وفحص الآخرين وتأمين الأغذية والأدوية للمقيمين في مقاطعة هوبي في ظل حجر صحي وإغلاق شبه تام لها.
ففي الأيام الأولى لانتشار الفيروس، سمحت الاجراءات البيروقراطية والتأخير من جانب المسؤولين المحليين للفيروس أن ينتشر على نطاق أوسع بين جمهور لم يكن حريصاً حينها. وبينما لاحظ الأطباء في أوائل كانون الأول / ديسمبر 2019 لأول مرة الفيروس، الذي يُعتقد أنه تم نقله من حيوان إلى إنسان في سوق للمواد الغذائية في ووهان، شوهدت علامات على أنه ينتقل بين الناس في بداية كانون الثاني / يناير الماضي، إلا أن السلطات بقيت تسمح بحدوث بعض المناسبات العامة، مما أدى إلى انتشار أكبر للوباء، وأصبح حجم الأزمة واضحاً تماماً للجمهور الأوسع، في الأيام التي سبقت بدء عطلة السنة القمرية الصينية الجديدة في 24 كانون الثاني / يناير، حيث ظهرت حالات في أماكن أخرى.
وعليه، ربما تأخرت الصين في إغلاق ووهان في 23 كانون الثاني / يناير الماضي، لمنع انتقال المرض المحتمل إلى الخارج، ومنع معظم الناس من المجيء إلى المدينة. وسرعان ما اتسع الحجر الصحي ليشمل المقاطعة بأكملها. هذا التأخير غير المتعمد نتيجة الجهل وعدم تقدير خطورة الفيروس وحجم المشكلة، قد ساهم في انتقال المرض إلى مدن ومقاطعات أخرى في الصين وبالتالي إلى بعض دول العالم.
وقد أدت القيود المفروضة ضمن الحجر الصحي إلى بطء وصول إمدادات المعدات الطبية الأساسية، بما في ذلك الأقنعة والبدلات الواقية والمطهر عالي الجودة، إلى مستشفيات ووهان. وذكرت بعض المصادر أن الصين تفتقد الكميات المطلوبة للأقنعة وبخاصة أننا نتكلم عن مليار ونصف مليار نسمة، وهو ما لم تكن مستعدة له، وهي كمية أقنعة ربما غير موجودة في العالم بأكمله.
وقال أحد المواطنين الذين أرسلوا مساعدات طبية إلى مقاطعة هوبي: “لقد أرسلنا الإمدادات في 25 كانون الثاني / يناير، ووصلت إلى المستشفيات في 2 شباط / فبراير. تم إبطاء جميع عمليات التسليم من خارج المقاطعة بسبب إجراءات الحجر الصحي الصارمة.”
وبينما لا تزال حالات الإصابة بالفيروس في مقاطعة هوبي تنمو بالآلاف يومياً، إلا أن الإصابات تتباطأ في بقية الصين – وهي علامة مبكرة على أن “الاحتواء القسري” ربما يكون قد عمل على الحد من انتشار فيروس كورونا على الصعيدين الوطني والعالمي.
وقال أحد الأطباء في مستشفى الشعب الثالث في ووهان: “إن الحجر الصحي هو الشيء الصحيح الذي يجب عمله لصالح السكان الأوسع. قد يقول البعض إن هوبي قد تمت التضحية بها، ولكن ذلك أدى بالفعل إلى وقف انتشار الفيروس إلى أماكن أخرى.”
وكما قال تشانغ تشيان فان، الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة بكين: “قد يكون الإغلاق ضرورياً لاحتواء انتشار الفيروس، لكن عليك التأكد من وجود موارد طبية كافية لتلبية الطلب للرعاية الصحية في تلك المدن. يجب ألا يعني إغلاق المدينة أن المدينة مهجورة ويترك الناس للبقاء على قيد الحياة أو الموت بمفردهم”.
ففي الأيام التي أعقبت أمر الحجر الصحي، أرسلت الحكومة الصينية مساعدات طبية إلى المقاطعة. وذهب أكثر من 8000 عامل طبي من جميع أنحاء البلاد إلى هوبي، معظمهم يعملون في 27 مستشفى في ووهان المخصصة لعلاج مرضى فيروس كورونا. وانتشر باقي العاملين الطبيين في المدن الصغيرة القريبة. وتم الانتهاء من إنشاء مستشفيين جديدين يضمان 2600 سرير في غضون عشرة أيام، تم بناؤهما بواسطة أكثر من 2000 عامل، بينما تم تحويل الملاعب والمكاتب والفنادق إلى وحدات عزل.
لقد أدهشت الصين العالم مرة أخرى من خلال سلوكها وكيف نجحت في ضبط سلوك مليار ونصف مليار مواطن بكل يسر من خلال الحكمة والحكم الرشيد من جهة، ونتيجة تعاون وتضامن المواطنين ووطنيتهم من جهة أخرى. فروح التعاون والتضحية والفداء عالية لدى الشعب الصيني. فهو شعب هادئ يواجه المشاكل بصمت يبحث عن الحلول والأبحاث العلمية من دون صراخ وصخب وضجيج. فقد التزم الصينيون بأوامر السلطات من دون تذمر وأغلقت المطارات وتوقفت السيارات والتزم الصينيون في منازلهم وشققهم وأغلقوا النوافذ وقد أعدوا مؤناً تكفي لمدة أسبوعين.
لقد بدأ العلماء الصينيون منذ اكتشاف الفيروس بالعمل على إيجاد علاج له ولم ينتظروا منظمة الصحة العالمية أو الدول الغربية أن ترسل لهم العلاج. لكن الحكومة الصينية كانت شفافة جداً وأطلعت منظمة الصحة العالمية والدول الأخرى بواقع انتشار الفيروس وأعراضه وخريطته الجينية علّها تساعد في اكتشاف دواء أو لقاح له، وكي تتمكن بدورها من علاج مواطنيها في حال انتقال الفيروس إلى هذه الدول.
لم تتعامل الحكومة الصينية مع الوباء على أنه سر عسكري، بخلاف الولايات المتحدة الأميركية التي أعلنت مبكراً أنها يمكنها أن تستفيد من محنة الصين هذه في تعزيز وضعها الاقتصادي وانتقال بعض المصانع الأميركية من الصين إلى الولايات المتحدة.
لا شك أن هذه الأزمة قد أثّرت على الصين اقتصادياً وتجارياً، لجهة توقف إنتاج عدد كبير من المصانع والشركات في مقاطعة هوبي وغيرها من الأقاليم التي وصل إليها الفيروس، بسبب توقف هذه المؤسسات عن الإنتاج، وكذلك بسبب توقف بعض الدول عن التجارة مع الصين خشية انتقال الفيروس في الصادرات الصينية، أو لعدم قدرة رجال الأعمال الصينيين من السفر إلى الخارج وكذلك مجيء التجار الأجانب إلى الصين بسبب انتشار الوباء. وسوف يؤثر ذلك على النمو الاقتصادي السنوي في الصين، لكن إذا تعافت الصين قريباً بإذن الله، فسوف يتحد الشعب الصيني ويبذل جهوداً أكبر لتعويض كل هذه الخسائر.
وقد أظهرت هذه الأزمة للصينيين من هم أصدقاؤهم الحقيقيون حيث تعالت بعض الدول الغربية وربما المجاورة بعنصرية وأنانية، وكان كل همها منع وصول الفيروس إليها من جهة، وتراجع الصين السياسي والاقتصادي. لكن معظم العالم، وبخاصة في العالم العربي، يتعاطف مع الصين وحكومتها وشعبها ويدعو الله أن تنجلي هذه الغيمة السوداء قريباً.

Optimized by Optimole