المفاوضات لتقديم تسهيلات لقطاع غزة لا تعالج جذور المشكلة

المفاوضات لتقديم تسهيلات لقطاع غزة لا تعالج جذور المشكلة
Spread the love

بقلم: عميره هاس – مراسلة شؤون المناطق الفلسطينية في صحيفة “هآرتس” —

توجد ثلاث طبقات “للتسهيلات” التي وعدت إسرائيل بتقديمها إلى قطاع غزة. الطبقة الأولى هي المحسوسة والظاهرة للعيان، والتي تحدد ما هي التسهيلات وما هي فائدتها. الطبقة الثانية هي سياسية – حقيقة أن إسرائيل و”حماس” تجريان مفاوضات غير مباشرة، وليس لأول مرة، وهما تقومان بذلك طوعياً. لقد نجحت “حماس” في موضعة نفسها كعامل سياسي يجب التحاور معه – وبالذات في الفترة التي تقوم فيها إسرائيل ودونالد ترامب بتوجيه ضربات اقتصادية ودبلوماسية إلى “فتح” والسلطة الفلسطينية. من ناحيتها، تعتبر إسرائيل القطاع كياناً منفصلاً عن جيوب الضفة الغربية، وتعمل على استمرار الانفصال إلى الأبد. المفاوضات تخدم الانفصال، لذلك تُعتبر شرعية في نظر من يصفون “حماس” بأنها تنظيم إرهابي.
الطبقة الثالثة هي مسألة سوسيولوجية وأنتربولوجية. كلمة “تسهيلات” مأخوذة من عالم مصطلحات سلطة أبوية استعلائية وحكام يملكون سلطة مطلقة على رعاياهم المحرومين من الحقوق، وبينها حق اتخاذ القرار. استخدام وسائل الإعلام غير الإنتقادي لهذا المصطلح، منذ عشرات السنوات، يعرفنا على المجتمع الإسرائيلي أكثر مما يعرفنا على التسهيلات بحد ذاتها. تقديم التسهيلات هو الأمر الاستثنائي، على عكس توجيه الـ”ضربات” أو “المضايقات” كسياسة لا حاجة إلى الحديث عنها لأنها معطى ثابت. التلاعب الإسرائيلي والتنقل من المضايقات إلى التسهيلات هو وسيلة للسيطرة. حتى مع أن الذريعة البالية لاستخدامها هي أمن إسرائيل، إلاّ إنها تغرس في الذين يمسكون بأداة السيطرة هذه الاعتقاد بتفوقهم الطبيعي ودونية أولئك الذين تطبَّق عليهم التسهيلات والمضايقات.
فيما يتعلق بالتسهيلات، ببساطة: الوضع في غزة سيئ إلى درجة أن أي زيادة للأميال البحرية المسموح بالصيد فيها وزيادة خمس شاحنات لتسويق منتوجات زراعية من غزة في رام الله أو يافا- تؤثر إيجابياً على المدى المباشر. يمكن لأكثر من خمسة أو عشرين عاطل عن العمل العودة إلى العمل. في إمكان عائلات الصيادين دفع ديونهم إلى محلات البقالة وشراء الضروري الذي امتنعت من شرائه طوال أشهر، مثل دواء لمرض الأم المزمن أو فاكهة للأطفال.
في الأساس جرى ذكر الصيد في تقارير التسهيلات. فبحسب أرقام الأمم المتحدة، في سنة 2000 كان هناك نحو عشرة آلاف صياد في القطاع. انخفض الرقم بعد أن قلصت إسرائيل مجال الصيد البحري، وبسبب كثرة المرات التي أطلق فيها سلاح البحر النار على صيادين غير مسلحين، وقتل وجرح عدداً منهم خلال سنوات، واعتقلهم وصادر منهم شباك الصيد. هناك 3700 شخص مسجلون كصيادين، لكن 2000 فقط يعتاشون من الصيد يومياً. حتى لو عاد جميع الصيادين إلى العمل، فإن هذا لن يغير كثيراً من مشكلة البطالة في القطاع التي وصلت في سنة 2018 إلى ذروتها، وشكلت 52% من القوة العاملة، ونحو 70% وسط الشباب.
حتى لو استمرت إسرائيل في الامتناع من فرض “مضايقات” جديدة، سيتضح بسرعة شديدة أن التحسن لا يكفي، لأن “التسهيلات” لا تعالج جذر المشكلة ولا تؤمّن حدوث الأساسين الضروريين اللذين من دونهما لا يمكن إنقاذ القطاع من النبوءة التي توقعتها الأمم المتحدة قبل 4 سنوات بأن القطاع سيتحول إلى مكان لا يمكن للإنسان العيش فيه في سنة 2020. هذان الأساسان الضروريان هما، مياة نظيفة وحرية الحركة.
السبيل المباشر والبسيط من الناحية التقنية هو تحويل مياه صالحة للشرب من إسرائيل إلى القطاع الذي يفتقر إلى المياه. يمكن اعتبار ذلك تعويضاً جزئياً عن كميات المياه الهائلة التي تضخها إسرائيل من داخل الضفة الغربية من أجل تلبية حاجات مواطنيها في إسرائيل وفي المستوطنات، على حساب الفلسطينيين. لكن هذا سيكون بمثابة اعتراف بالعلاقة الجغرافية المؤسسية بين القطاع وإسرائيل والضفة الغربية.
الأساس الثاني هو حرية الحركة، أو بمزيد من الدقة – إلغاء واقع تحوّل غزة إلى سجن كبير، يمكن الخروج منه عبر معبر إيرز فقط للمرضى الذين يعانون من أمراض مستعصية، ورجال الأعمال الذين لا يجرؤون على التحدث أمام الإعلام عن القيود الإسرائيلية التي تدمر الاقتصاد، وعن التعاون مع الشاباك، وعن عدد من كبار المسؤولين في “فتح” الذين تريد الولايات المتحدة مغادرتهم.
منطقة إسرائيل والضفة الغربية هي أكثر طبيعية وقرباً بالنسبة إلى سكان القطاع من مصر والقاهرة. فقط عندما يستطيع الفلسطينيون مجدداً الخروج والعودة بحُرية عن طريق إسرائيل إلى الضفة وإلى الخارج، والعمل أيضاً في إسرائيل، تستطيع مصر أن تفتح بصورة دائمة معبر رفح. أي عندما تتخلص من خوفها من إغراقها بالغزّيين الذين يريدون مغادرة المكان الذي لم يعد العيش فيه ممكناً.
القرار الإسرائيلي بشأن هذه التغييرات يفرض على إسرائيلي التخلي عن تطلعها الاستراتيجي لفصل قطاع غزة عن سائر أنحاء البلد. لكن هذا الانفصال كان وما يزال حجر الأساس في سياستها. وهذا الوضع يعيدنا إلى طبقة سياسة للتسهيلات التي تتمتع الآن بوزن أكثر أهمية من إمكان تأثيرها الإيجابي.
الحديث عن تسهيلات يخلق توقعات، ويخفف قليلاً من التوتر الناشىء بسبب قمع تظاهرات الاحتجاج الاجتماعي. الجمهور في غزة خَبِر التسهيلات والمضايقات، لكنه يبحث كل الوقت عن قشة ليتمسك بها ويعتّم على اليأس والقلق من المستقبل القريب. احتمال هجوم إسرائيلي كبير إضافي قبل أسبوع، وحّد الصفوف وراء “حماس” كحركة مقاومة مسلحة. “الطنين” الذي أحدثه الكلام عن التسهيلات، وخصوصاً عن مزيد من المال من قطر يقوّي مكانة “حماس” كلاعب سياسي.
في الوقت الذي تسمح إسرائيل لمزيد من المال القطري بالدخول إلى القطاع، كجزء من المفاوضات غير المباشرة، تقتطع من أموال العائدات الضريبة التي يجب أن تدفعها إلى السلطة الفلسطينية، الأموال المخصصة لعائلات الأسرى، وبينهم أسرى “حماس”. السلطة ترفض (في هذه الأثناء) قبض بقية المبلغ المستحق لها من إسرائيل، ولذلك دخلت في دوامة إجراء تقليصات على أجور القطاع الرسمي.
مؤخراً أعلنت السلطة عن إلغاء توجيه المرضى إلى مستشفيات في إسرائيل. ويوجّه الجمهور الفلسطيني غضبه ضدها. وهو يلاحظ جيداً الفارق – إسرائيل تقدم تسهيلات إلى تنظيم بنى قوة عسكرية كانت منظمة التحرير تتوهمها في السبعينيات. إسرائيل تضايق السلطة الفلسطينية التي تواصل التنسيق الأمني معها، وتُخلي شرطتها الشوارع ويسارع أفرادها إلى مراكزهم لدى دخول سيارة عسكرية إسرائيلية واحدة إلى المنطقة أ. هذا التمييز وحده يساهم في تقوية مكانة “حماس” كالعامل السياسي هو الأكثر أهمية في الساحة الفلسطينية.

المصدر: مجلة “هآرتس” الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

Optimized by Optimole