حديث المومياء

حديث المومياء
Spread the love

تأليف: كريستسين فرنش 

ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو

تحدثنا بكتيريا المومياء المحفوظة عن تطور الكائنات الممرضة ومقاومة المضادات الحيوية.

هناك طرق عديدة لصنع المومياء. كان شعب شينشورو من صحراء اتاكاما في تشيلي أول من حنط موتاه بشكل صناعي. حيث سبق المصريين القدماء ب 2000 سنة عندما استخدم الطين و نبات البوص(الزل) والتجفيف الطبيعي للحفاظ على أحبائهم دون تغيير.

استخرج المصريين القدماء معظم أعضاء الجسم وعاملوها بالمواد الكيميائية ووضعوها في جرار أو أعادوها إلى الجسم ثم جففوا الجثة وحنطوها ولفوها بمئات الياردات من أشرطة الكتان.

وقد يحدث التحنيط بشكل طبيعي في ظروف الحر والبرد الشديدين المرتبط بالتهوية الكثيرة أو عندما يغمر الجسم في الخث(فحم المستنقعات) في العديد من المناقع المتواجدة في شمال غرب أوربا.

تشترك كل طرق التحنيط بأمر وحيد: إذ تحفظ البكتيريا التي تشجع على تحلل الأعضاء واللحم وتحول دونها ودون تحويل الميت إلى وجبة سائلة.

ولحسن حظنا يحفظ التحنيط البكتيريا التي ربما تلتهم الجسد من الداخل – أي تلك الضيوف الميكروبية التي تعيش داخل أحشاءنا وتلعب دوراً أساسياً في الحفاظ على صحتنا أثناء حياتنا.

يدرس العلماء اليوم بتوفر أدوات السلسلة الوراثية الهائلة القوة الحمض النووي(DNA) لميكروبات تلك المومياءات بحثاً عن إشارات لتطور ميكروبيوم الأحشاء والمرض البشري ومقاومة المضادات الحيوية.

ولكن مومياءات شينشيرو والمومياءات المصرية لا تفيد في هذا النوع من الأبحاث لأن الحضارتين نزعتا أحشاء موتاهما قبل الحفظ.

ولكن شعب الأنكا حنط الموتى بشكل طبيعي في جبال الانديان الجافة والعالية وترك الجوف سليماً. يحدث التحنيط الطبيعي عندما تنخفض نسبة المياه في الجسم دون المعدل الحرج من 75-80% إلى 20-27% مما يؤدي إلى تجفيف اللحم وتوقيف النمو البكتيري.

قام أفراد الميديشي في ايطاليا بتحنيط نبلائهم بشكل طبيعي من خلال إفراغ السوائل من أبدانهم ومن ثم وضعهم في أماكن جافة. كما تركوا أعضاء النبلاء وأحشائهم على حالها دون تغيير.

وعثروا على شيء مثير للإنتباه. إذ وجدوا مستوى عالي من المورثات المرتبطة بمقاومة المضادات الحيوية- مع أن هذه المضادات الحيوية لم تطور إلا قبل قرن من الزمن.

فقد العديد من مومياءات الأنكا لدى نقلها من أماكنها الأصلية من قبل المستعمرين الإسبان ولكن بعضها حط الرحال في متاحف في أميركا اللاتينية وأوربا. وقدمت ثلاثة مومياءات من جبال الإنديز قرب كوزكو في البيرو التي كانت في يوم من الأيام معقل إمبراطورية الإنكا إضاءات ثمينة لبحاثة الميكروبيوم. ومن بينها مومياء لشابة من الأنديان بعمر 22 سنة عاشت مابين عام 980 وعام 1170 للميلاد جلبت لإيطاليا من أميركا الجنوبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتوجد الآن في متحف الأنثروبولوجيا والاثنولوجيا(علم الأجناس) في جامعة فلورنسا في ايطاليا. وقرر عالم الميكروبيولوجيا راؤل كانو وزملائه من الولايات المتحدة وايطاليا وبورتوريكو بالقيام بنظرة عن كثب على بكتيريا أحشاءها. حيث قاموا باستخلاص الحمض النووي (ال د ن ا) من أعضائها الداخلية والقولون والبراز المتحجر.

وعثروا على شيء مثير للإهتمام. حيث عثروا على مستوى مرتفع من المورثات المرتبطة بمقاومة المضادات الحيوية مع العلم أن المضادات الحيوية لم تكتشف إلا قبل قرن من الزمن. وبدا أن الأكتشاف له جوانب منطقية لإن معظم المضادات الحيوية الحديثة تشتق من مركبات تنتج طبيعياً من قبل بكتيريا التربة. وفي سباق التسلح في عالم البكتيريا تغرس المقدرة على مقاومة الأسلحة البولوجية لنوع آخر ميزة تنافسية مما يجعل النوع الذي يمتلكها أكثر إحتمالاً للبقاء.

يمنح فحص أنواع المورثات المقاومة للمضادات الحيوية وتفوقها في الميكروبات الموميائية العلماء فرصة لرسم خريطة للآلية تطور مقاومة المضادات لدى بعض البكتيريا.

يقول كانو” يمنحنا فحص المومياء منظوراً عن الضجة الخلفية وما الذي سبب الإستخدام المفرط للمضادات الحيوية في الزراعة وأعلاف الحيوانات”. وقد تؤدي الإجابات إلى عقاقير جديدة لمحاربة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية اليوم والأمراض التي تسببها.

قارن كانو وزملائه مقاومة المضادات الحيوية في العديد من الحضارات وفي قترات زمنية مختلفة. حيث تم مقارنة المومياءات الانديانية الثلاثة بما في ذلك مومياء رجل وامرأة من القرن الرابع عشر والخامس عشر مع خمسةمومياءات من النبلاء الإيطاليين من فترة ميديشي وأشخاص معاصرين يعيشون في غابة الأمازون المطيرة وإيطاليين معاصرين. تبين لهم امتلاك المومياءات الانديانية والأمازونيين المعاصرين أحشاء ذات نسبة أعلى من المورثات المقاومة للمضادات الحيوية بالمقارنة مع أحشاء مومياءات النبلاء الإيطاليين: ب لاكتاميز ونواقل العقاقير المتعددة والمورثات المقاومة للتتراسيكلين. ويقول كانو أن هذا الإكتشاف يؤيد فرضية أن التعرض الأعظم للبيئة الطبيعية والأنظمة الغذائية المرتفعة المحتوى من المحاصيل الملوثة بالتربة قد تؤدي إلى نسبة أعلى من المورثات المقاومة للمضادات الحيوية إذا أخذنا بعين الإعتبار أن التربة عي منشأ معظم المضادات الحيوية في المقام الأول.

امتلك الأوربيون الجدد أعلى نسبة من المورثات المقاومة للمضادات الحيوية وربما يعزى ذلك للإفراط في استخدام المضادات الحيوية في الطب الحديث والزراعة الصناعية.

غادر كانو مؤخراً جامعة كاليفورنيا تك ليعمل عالم أساسي في شركة بيوكولكتيف وهي شركة رعاية صحية بيو تكنولوجية ويعتقد أن الإستخدام المفرط للمضادات الحيوية اليوم قد يرتبط بالأمراض المزمنة لدى البشر بما في ذلك الأمراض التنكسية العصبية. ويتوقع أن أبحاث ميكروبيوم المومياء المستقبلية ستمنحنا صورة أفضل لما كان عليه الميكروبيوم المعافى قبل عهد المضادات الحيوية مما يساعد الشركة على تصميم بروبيوتيك أفضل لمعالجة مثل تلك الأمراض المزمنة.

قدمت مومياء شهيرة أخرى مؤخراً إضاءات جديدة لتطور المرض ومقاومة المضادات الحيوية.

حفظ أوتزي رجل الجليد  الذي توفي في جبال الألب الإيطالية في الجليد الجبلي لمدة تزيد عن خمسة آلاف عام واكتشف عام 1991.

ويعتقد أنه عاش في العصر الحجري الحديث ما بين عامي 3350 و3100 قبل الميلاد. وكان محفوظاً بشكل جيد: حيث بقيت عيناه والأدمة سليمة تماماً.

واكتشف البحاثة الطليان والايرلنديون الملوية البوابية في أحشاء أوتزي وهي مسبب مرضي لدى البشر ترتبط بقرحات المعدة والسرطان المعدي الذي يماثل سلالة موجودة في جنوب ووسط آسيا.

يقترح الفرق بين الحمض النووي للملولية البوابية في أوتزي والسلالات الحديثة أن الملوية المعاصرة تعرضت لضغط انتقائي لا يستهان به بسبب الاستخدام الحديث للمضادات الحيوية. تتطور البكتيريا تحت الهجوم ولذلك تكيفت الملوية للنجاة من هجمة من المضادات الحيوية المستهدفة التي لم تتواجد في زمن أوتزي.

وبغض النظر عن العلاجات والضغوط الإنتقائية تواجد العديد من الأمراض الحديثة منذ زمن بعيد: أظهرت مومياء الانكا ذات ال22 سنة دليلاً لتواجد المطثية العسيرة( الكلوستريديوم) التي تسبب التهاباً يحمل نفس الإسم بالإضافة إلى العديد من أنواع فيروس الورم الحليمي أو القوباء(الهربس) مما يقترح أصول قديمة ومقدرة هائلة على البقاء لتلك الأمراض الشائعة.

واكتشف العلماء دليلاً على وجود مرض الشاغاس(داء المثقبات الأميركي) وهو مرض استوائي طفيلي تسببه وحيد الخلية تريبانوسوما كروزي الذي أدى لوفاة المرأة مما يعزز اكتشافات سابقة أن مرض الشاغاس تواجد في أميركا اللاتينية قبل الآستعمار الإسباني ويعتبر الشاغاس اليوم قاتلاً أساسياً في أميركا اللاتينية.

إن دراستنا المستمرة للميكروبيوم البشري الحديث واستخلاص معلومات أكثر من النماذج الأقدم التي تحملها المومياءات القديمة من اسلافنا ستولد معلومات أكبر عن تطور  علاقاتنا المعقدة مع ميكروباتنا. وربما سيفخر القدماء بمعرفة أن إغراء لعنة المومياء قد تصبح في الواقع نعمة متخفية.

المصدر:

Mummies Speak to Us via Ancient Bacteria, By Kristen French, May 24, 2018, Medium.com

 

Optimized by Optimole