النظرة الأميركية إلى لبنان، ومثلث المقاومة والانهيار والجيش

النظرة الأميركية إلى لبنان، ومثلث المقاومة والانهيار والجيش
Spread the love

شجون عربية _ بقلم: د.طارق عبود

 يشكّل لبنان عبر موقعه الجغرافي ودوره السياسي التاريخ، منذ ما قبل إنشاء الكيان في العام 1920 مركز اهتماما دوليًا، وكانت التبدلات الدولية والإقليمية تنعكس بشكل واضح على تركيب النظام السياسي فيه، ولأنّ الدول تسعى خلف مصالحها، ولأنّ لبنان من خلال موقعه اليوم، ونقاط قوته المتمثّلة في المقاومة، وتأثيرها على إسرائيل، وعلى المشاريع الأميركية المتتالية في المنطقة، فدائمًا ما يكون لبنان محط اهتمام مراكز الدراسات الأميركية والغربية، ومحط اهتمام مراكز القرار الأميركية في الإدارات المتعاقبة. وبما أنّ لبنان يعيش أزمة اقتصادية وانهيارًا لم يسبق أن واجهته دولة في منذ قرن ونصف القرنن وأتى في المركز الثالث بعد كل من تشيلي 1857 وبعد إسبانيا جراء الحرب الأهلية الإسبانية، كما جاء في تقييم البنك الدولي، فإنّ الاستثمار الأميركي في هذا الخراب هو خطوة طبيعية لدولة تعتبر أنها تقف في وجه مشاريعها الاستعمارية في المنطقة، من اليمن والعراق إلى سوريا ولبنان.

  حاولنا الإشارة في هذه المقدمة إلى أنّ لبنان، هذا البلد الصغير الجميل الرابض على الضفة الشرقية للبحر الابيض المتوسط، حاضرٌ دائمًا في غرف القرار الأميركية وفي عقول المفكرين ومراكز الدراسات في واشنطن. من هذه الخلفية عقد معهد الشرق الأوسط مؤتمرًا لدراسة الواقع اللبناني بعد المنعطف الخطير الذي دخل فيه لبنان بعد السابع عشر من تشرين أول من العام 2019 ومع بداية الانهيار الكبير، وللقراءة في التداعيات والنتائج؛ أقام معهد الشرق الأوسط وفريق العمل الأمريكي الخاص بلبنان (ATFL) بالاشتراك مع منظمة «لايف» للمصرفيين اللبنانيين الدوليين ) (LIFE مؤتمر معهد الشرق الأوسط التمهيدي لسياسة لبنان على مدى أسبوعين من السادس والعشرين من أيار حتى الرابع من حزيران 2021.وتضمّن المؤتمر تسع ندوات، توزعت على خمسة أيام، ونشر توصياته مؤخرًا مركز دراسات غرب آسيا في بيروت.

لقد ناقش المجتمعون الأوضاع في لبنان في ضوء الانهيار الحاصل، وتدارسوا تداعيات ما يحصل على مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وعلى مصالح الأطراف المستفيدة من الوجود الأميركي، وعلى “إسرائيل” وكان ملفتًا وجود أسماء لها وزن في السياسة الخارجية الأميركية، ولها من الخبرة ما يخوّلها أن تطرح رؤيتها، وتكون مؤثّرة في القرارات حتى لو خرجت اليوم من دائرة القرار في الإدارة الاميركية كالسفير ديفيد هيل، ومن المشاركين عضو الكونغرس الديمقراطي تيم كاين. وبيار دوكان السفير الفرنسي المكلف بتنسيق الدعم الدولي للبنان، والمسؤول عن «مؤتمر سيدر» ودارين لحود، عضو الكونغرس عن ولاية إلينوي، وبول سالم رئيس معهد الشرق الأوسط، والجنرال ديوك بيراك وهو عميد يشغل منصب نائب مدير الاستراتيجية والخطط والسياسة في القيادة المركزية الأمريكية، ودانا سترول مساعدة  وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط  في وزارة الدفاع الأميركية، وجون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز CSIS، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، ومهى يحيى مديرة مركز مالكولم كارنيجي للشرق الأوسط، وكريس أبي ناصيف مدير برنامج لبنان في المعهد. وناصر سعيدي،الوزير ونائب حاكم مصرف لبنان السابق، رئيس العلاقات الخارجية في سلطة مركز دبي المالي العالمي،  وغيرهم

 لفت أيضًا وجود بعض الشخصيات اللبنانية التي تؤلّف ما يمكن تسميته “اللوبي اللبناني” الذي يجلس في حديقة متخذي القرار، وليس قريبًا من طاولتهم الرئيسة كاللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية.ولكن بعد كل المطالعات والمداخلات والعصف الفكري والسياسي، ولا سيّما من الأميركيين أصحاب الاختصاص والباع الطويل في معرفة شؤون لبنان والمنطقة، كانت المحصّلة المتوخاة في النتائج لا تبشّر بالخير بالنسبة إلى واشنطن، أو لحلفائها في لبنان والمنطقة، وكان هناك شبه إجماع على أنّ كل الجهد الذي بُذِل في العقدين الماضيين، وكل الأموال التي دفعتها الإدارة الأميركية لشخصيات ومؤسسات وأفراد وجمعيات ومجموعات كبيرة من المجتمع المدني وللإعلام والأقلام والأحزاب ونواب؛ كان مردودها خجولًا، إن لم نقُل معيبًا بحق دولة عظمى، وامبراطوارية يقارب نفوذها الخيال في أصقاع الأرض، وإمكانياتها على مستوى القوتين الصلبة والناعمة لا تحتاج إلى أي نقاش. فماذا كانت محصّلة المؤتمر الطويل والمستفيض عن الوضع في لبنان؟ على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وماهي القواسم المشتركة بين توصيات مؤتمر معهد الشرق الأوسط، وبين استراتيجية إدارة بايدن للعام 2021 اتجاه لبنان؟

على المستوى السياسي

عزوف أم تدخل؟

منذ بداية الأزمة في لبنان كان النقاش يتمحور في إدارة دونالد ترامب عن كيفية مقاربة الأزمة وتأثيرها على المصالح الأميركية، وهل من مصلحة واشنطن الدفع في لبنان نحو الانهيار الكلي، ومن الذي سيستفيد من هذا الانهيار، وكان هناك تباين تمثّل في وجهتي نظر كل من جيفري فيلتمان من جهة والفريق الذي كان في الخارجية متمثّلًا في ديفيد شينكر والسفيرة الأميركية في لبنان، ولكن في المؤتمر برز موقفان حول الانخراط الأميركي في لبنان: الأول تبنّاه كل من (النائب دارين لحود، والسفير ديفيد هيل، والسيناتور تيم كاين، وبول سالم، والسفير بيار دوكان) ويرى أنه لا يمكن لواشنطن تحمّل أن يصبح لبنان دولة فاشلة أخرى في المنطقة، ويجب أن يكون في قمة أولويات إدارة بايدن السياسية في الشرق الأوسط. والموقف الثاني قاده جون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن وهو يميل إلى فكرة عدم اهتمام أميركي للتدخل في لبنان، إلا إذا كان هناك فرصة ناضجة للقطف والاستثمار. ويدعم ألترمان موقفه من أن إدارة بايدن لا تبحث عن أمور صعبة للقيام بها في الشرق الأوسط، مع تركيزها على الحد من نفوذ الصين. وتوقع نتاجًا للمفاوضات النووية خلال ستة أشهر، وعدد من  الصفقات ونوعًا مشابهًا للاتفاق، وليس إعادة الاتفاق.

الانتخابات النيابية ومواجهة حزب الله، والعصا والجزرة

يراهن الأميركيون والمؤتمرون منهم ( بول سالم، والسناتور تيم كاين) وهي أفكار مشتركة مع ما ورد في استرايجية إدارة بايدن الجديدة 2021، على أنّ التغيير السياسي في خارطة المجلس النيابي الذي تدعمه واشنطن، يتأتّى عبر خسارة كتلة التيار الوطني الحر من حجهما، وبالتالي خسارة حليفه، أي حزب الله، الأغلبية في المجلس، مع توزيع الأرباح المحتملة على المجتمع المدني والقوى المسيحيية المنافسة، القوات والكتائب)ويحدد القضايا الأكثر إلحاحًا لضرورة المتابعة في لبنان بنقطتين:

أولًا: مواجهة حزب الله، والقول إنّ سياسة العقوبات في وجهه غير كافية لوحدها، ولا بد ّمن استخدام “كل الأدوات في صندوق العدّة” في ملاحقته، والتفكير في كيفية استخدام الرافعة (المفاوضات) مع إيران للضغط عليه، مع ضرورة الانتباه إلى أنّ استخدام الفرشاة العريضة بدلًا من استخدام الفرشاة الدقيقة، قد يؤدي إلى المخاطرة بتمكين الحزب أكثر أثناء المعاقبة.

ثانيا: ترتيب الأولويات: فالأولويات المطروحة حسب السيناتور تيم كاين هي معالجة الوضع الاقتصادي (الداخلي الأميركي) مع أزمة  كوفيد، والتركيز على منافسة الصين بفعالية. وفي الوقت نفسه، يدعو إلى اعتماد “إدارة العضّة” أو “القضم” حيث كل قطعة تستحق الوصول اليها. ولبنان في هذه المرحلة هو خارج الحسابات الحالية، وفي ترتيب الأولويات. وأن من أهداف الدعم المقدّم من المنظمات غير الحكومية (NGOS) في البرنامج التعليمي، هو منع الشباب من الالتحاق بحزب الله.

وقدّم دايفيد هيل رؤيته حول دعم الأحزاب، وقال إنّ  لدى واشنطن شركاء للعمل معهم في لبنان،ومن الخطورة الانحياز بطريقة مرئية، وهذه جملة مفتاحية، فمن المعروف أنّ الأحزاب والشخصيات ومجموعات المجتمع المدني الحليفة للأميركيين تجاهر في مناسبة وغير مناسبة لإظهار العداء لحزب الله، وتقدّم أوراق اعتمادها دائمًا عبر اتهام الحزب بشتى الاتهامات.فمن يقصد ديفيد هيل بالأحزاب التي عليها الانحياز بطريقة غير مرئية، وهي على علاقة مع الأميركيين خلف الستار؟ ومع ذلك يقول إنّ على حلفاء حزب الله الانحياز، أي إظهار تمايزهم عنه، فالأميركي لديه أدوات “العصا والجزرة”. واتفق هيل مع السيناتور تيم كاين على ضرورة عدم تجاهل الملف اللبناني “لأنه سيجعلنا نستيقظ على كارثة بين أيدينا يصبح الأصعب المصارعة معها”.

تجاوز العوائق السياسية اللبنانية

  عدّد بول سالم ثلاثة سدود تعيق الواقع السياسي اللبناني: حزب الله والميزانية  وأزمة المصارف. وأظهر  جون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في  مركز الدراسات الاستراتيجية  والدولية في واشنطن،( CSIS) يأسه من التدخل الأميركي في لبنان لكارثية نتائجه، وقال إنّ إمكانية التدخل الأميركي ستكون في  حالتين فقط ستجعلان لبنان أولوية قصوى في السياسة الخارجية الأميركية: الأولى هي انهيار لبنان التام. والثانية هي البدء بالتحرك بطرق واعدة، وهو يعتقد أن افتراض اللبنانيين (الموالين لواشنطن) إنّ الولايات المتحدة مستعدّة للاستثمار كثيرًا في لبنان لاختراق السدود، غير صحيح.

   يتبيّن من السياق أنّ المؤثّرين في واشنطن قد أصابهم اليأس من إمكانية هزيمة خصومهم عبر الأحزاب السياسية الحليفة  لهم،وهو ما كان عبّر عنه  ديفيد هيل غير مرة، وهو ما واظب عليه ديفيد شينكر من تقريع لتلك الأحزاب والشخصيات التي كان يجتمع فيها مع كل زيارة إلى لبنان، وتذكيرهم  بمليارات الدولارات التي أهدروها – وهي تجميل لكلمة سرقوها- (تحدث ديفيد هيل عن عشرة مليارات دولار،نحذف منها حوالي الأربعة مليارات مساعدات للجيش على مدى عشر سنوات) وكل هذه الأموال لم تستطع أن تحقق أي مردود، بل بالعكس فهم أقوياء ومتماسكون جدًا،بحسب بول سالم.

عن مساعدات الجيش كأداة للتوظيف السياسي ضد المقاومة، ومستقبل التعاون الدفاعي والأمني بين الولايات المتحدة ولبنان

تعتمد مساعدة  وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأمريكية دانا سترول على سطرين من الاستراتيجية الأمنية الوطنية المرحلية الصادرة في آذار 2021 في قراءة مقاربة إدارة بايدن ووزارة الدفاع للشرق الأوسط. الأول يتحدث عن الهدف الأميركي لخفض التوترات في المنطقة، والثاني يشير إلى استهداف العمل مع الشركاء في المنطقة لمواجهة العدوان والتهديدات الإيرانية للأمن الإقليمي. وما يمكن للولايات المتحدة القيام به هو الاستثمار في الشركاء والحلفاء. ظهر من خلال المداخلات أنّ وظيفة الجيش اللبناني التي حددتها واشنطن، هي إعاقة مرور السلاح إلى المقاومة، وتحدثت سترول عن تمويل 59 مليون دولار من وزارة الدفاع كتسليح وسداد تكاليف ومدفوعات وتحسينات أمنية على الحدود، وعمليات على طول الحدود اللبنانية مع سوريا.ووضع دايفيد هيل سياسة أميركا عبر تقوية القوات المسلحة، مقابل سياسة إيران في تقوية حزب الله.

 الكلام الواضح هو عن تمييز أهداف برنامج القيادة الأمريكية مع الجيش اللبناني، عن بقية أهداف البرامج الموضوعة لجيوش المنطقة ،في الأردن ومصر والبحرين وعُمان والسعودية، والتي تقوم وظيفتها على دعم هذه الأنظمة سياسيًّا، والمحافظة على الحكم فيها، بينما وظيفة دعم الجيش اللبناني هي “تخريب سياسي متعمّد لخصومنا”، وهؤلاء الخصوم هم إيران وحزب الله، والملفت في الحديث القول إنه إذا انهارت القوات المسلحة اللبنانية إلى حد كبير، فذلك يمس “موقعنا ونفوذنا في المنطقة”. والكلام لبلال صعب مدير مؤسس لبرنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط. ولكنّ صعب نفسه يقيّم الإنجاز الأميركي مع الجيش بالمعجزة، في ظل الاستثمار القليل على مدى عشر سنوات. فالتجربة ككل هي ذات كلفة غير عالية، ومردودها أكثر من المتوقع، وذكر أن التخطيط على المدى الطويل ليس في لبنان فقط، وإنما على مستوى المنطقة.

في مقاربة الأزمة الاقتصادية، والانهيار القريب

ينظر الأميركيون إلى الأزمة الاقتصادية في لبنان من منظار الحفاظ على المؤسسات التي تدور في فلك النظام الليبرالي والسياسي الأميركي، فهم حريصون جدًا على استعادة المصارف دورها، عبر إعادة رسملة المصارف القابلة للحياة، وتصفية الصغيرة منها. وتحسين أداء الاقتصاد (الريعي) غير المنتج، وتسهيل تطوير ديناميكية القطاع الخاص الحديث بسرعة كبيرة جدًا.والتركيز على أهمية الاستفادة من أموال المغتربين في تمكين القطاع الخاص، وتنشيط الأسواق المالية في القطاعات جميعها، وتحديدًا التكنولوجيا والزراعة الحديثة والسياحة العلاجية والسياحة الثقافية (طعام ومجوهرات) في الأسواق الخارجية.

وبالنسبة إلى مآلات الوضع الاقتصادي، فهو يسير نحو زيادة معدل التضخم أكثر من المنظور، وغرق لبنان بسرعة، ونشوء كارثة إنسانية متفاقمة قريبًا مع رفع الدعم، وانضمام لبنان إلى الدول القليلة جدًا في العالم التي تعاني من أزمة شديدة، ليس على مستوى الاقتصادي والمالي، وإنما الاجتماعي أيضًا، مع افتقار السلامة الاجتماعية.

خاتمة

يسعى المشاركون من لبنان إلى تحفيز الإدارة الاميركية على استمرار التدخل في لبنان، وعدم التراجع بسبب النتائج المتواضعة التي تحققت في السنوات الماضية.ولكن الوقائع تقول،عندما كان الجهد خارقًا والموارد المتاحة خيالية، والرياح الدولية أكثر من ممتازة خدمة للمشروع الأميركي،هذا في مرحلة ما بعد القرار 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن ثم مرحلة الربيع العربي وظهور داعش وأخواتها، ومن ثم مجيء إدارة ترامب الصدامية،وكانت النتائج متواضعة، فكيف ينتظر بعض الموهومين اليوم أن تتحقق نتائج مغايرة،وكل شيء تغيّر وتبدّل، وأولويات إدارة بايدن هي التخفّف من أحمال الشرق الأوسط، وتوجيه الجهد إلى الصين، ومهادنة إيران، والعودة إلى الاتفاق النووي،ورفع العقوبات عنها، والانسحاب من افغانستان،والخسارة المدوّية في اليمن، والعمل على تبريد الجبهات. تشير نتائج المؤتمر من خلال المشاركين الاميركيين إلى مقاربة حقيقية للواقعن وعدم بناء الأوهام في رؤوس المجموعات المعادية لإيران وللمقاموة في لبنان والمنطقة، وإنّ التغيير، إذا حصل في لبنان، فلن يكون لصالح أدوات الاستعمار القديم، ووكلاء الولايات المتحدة الأميركية في العصر الحديث.

 

 

 

 

Optimized by Optimole