هَلْ تُصَعِّدُ جَائِحَةُ كُورُونَا امبراطورية طَرِيقِ الْحَرِيرِ، وَتُنْهِي عَصْرَ الْهَيْمَنَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ

هَلْ تُصَعِّدُ جَائِحَةُ كُورُونَا امبراطورية طَرِيقِ الْحَرِيرِ،  وَتُنْهِي عَصْرَ الْهَيْمَنَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ
Spread the love

بقلم: توفيق المديني/


لا يزال الجدل محتدمًا في هذه المرحلة التاريخية حول تداعيات جائحة كورونا،لا سيما لجهة تحديد القوة الأساسية التي ستقود النظام الدولي ما بعد وباء كورونا.فبينما نجد قسم من النخبة الفكرية الغربية والعربية تعتقد جازمة أنَّ جائحة كورونا ستقود إلى تقويض أركان النظام الدولي الأحادي القائم الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية،وقيام نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وعن إمكانية خسارة الولايات المتحدة مكانتها كقوة عظمى لصالح امبراطورية طريق الحرير(الصين)،بوصفها القوة الأساسية الصاعدة،والتي ستقود النظام الدولي الجديد بعد كورونا.
هناك أقلية أخرى من المفكرين تعتقد أن النظام السياسي الاقتصادي الرأسمالي العالمي القائم على العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة لا يمكنه البقاء كما هو، لكنَّهُ يحتاج إلى تقديم أجوبة تاريخية عقلانية جديدة، لتجاوز الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية البنيوية، التي تُعَدُّ أخطر بكثير من أزمة 1929-1933.فهل تقود الأزمة العامة التي تعيشها الرأسمالية الليبرالية المتوحشة إلى إعادة الاعتبار لتدخل الدولة؟
إنقاذ النظام الرأسمالي العالمي بالعودة إلى الدولة الكينزية
لقد أدت الأزمة العامة للرأسمالية في أعوام 1929- 1933، إلى اشعال جميع تناقضات الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وإلى زيادة الحماية الجمركية انطلاقاً من سياسة الاكتفاء الذاتي، لذا، وجدت أزمة الرأسمالية ضرورة القيام باصلاحات اقتصادية تسهم في حلِّ العديدِ من المشاكلِ الْمُلِّحَةِ، كما ازدادَ الإقتِنَاع بضرورةِ تَدَخُلِ دولة الاحتكارات في تنظيم الاقتصاد، والتي هي عبارة عن تطبيق مبادىء “الاقتصاد المبرمج” بهدف تحقيق الاستقرار في التوازن الاقتصادي.
لاشك أنَّ الأزمة قد أسهمتْ في توسيع عملية تحول الاحتكارات الرأسمالية إلى دولة الاحتكارات الرأسمالية. وهذا الوضع جعل الدولة القومية تتدخل بشكلٍ قوِىٍّ في عملية تجديد رأس المال، كما تَمَيَّزَتْ بتمركزٍ شديدٍ في الاقتصاد، وهذا شأن الدولة الفاشية في ايطاليا.و الدولة النازية في ألمانيا. إنَّهُ تضخيم العنصر القومي في الاقتصاد.
في بلدان الغرب الرأسمالي، تَمَيَّزَتْ دولة الاحتكارات الرأسمالية بتوجيه الاقتصاد لمصلحة الاحتكارات، وبخلقِ توازنٍ جديدٍ بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير، وبإِجْرَاءِ بعضِ الاصلاحاتِ الاقتصاديةِ على غرار “النزعة الأمريكانية” و” الفوردية في الولايات المتحدة، “بموجب الطرح الجديد” لروزفلت New Deal ، لا سيما أنَّ النزعة “الأمريكانية” و”الفوردية”، باعتبارهما يمثلان اتجاهاً عقلانياً في تنظيم علاقة العمال بالمصنع، وضبط مجمل حياة العمال، وعملهم الإنتاجي بما يتوافق مع متطلبات المؤسسة الصناعية الرأسمالية.
ولأن سيادة هذه العمليات التاريخية أي “النزعة الأمريكانية” و”النزعة الفوردية” باعتبارهما محصلتين لضرورة داخلية هي “ضرورة التوصل إلى تنظيم اقتصاد مبرمج”، في أكثر القطاعات تقدماً من الانتاج الرأسمالي، تُمَثِّلُ النقطة الأخيرة في إجابة الرأسمالية على أزمة، ما بعد انهيار وول ستريت في 1929،حين تمَّ إطلاق “البرنامج الاقتصادي الصفقة الجديدة “ما سماه البعض ثورة أمريكية ثانية، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة تُشْبِهُ الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، من أجْلِ دَرْءِ اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض، فضلاً عن كونها (أي النزعة الأمريكانية التي انتشرت عالمياً) مثلت شكلاًتاريخيًا من “الثورة السلبية “على نمط الثورات السلبية للقرن التاسع عشر.
لقد شكلت عقلانية “النزعة الأمريكانية” و”النزعة الفوردية” نمطاً من الهيمنة مبنياً على أساس المصانع في قلب العملية الإنتاجية الرأسمالية عينها، وذلك بواسطة عملية الانضباط النفسي الجديدة في علاقة العمال مع الوسطاء التقنيين في المجالين السياسي والإيديولوجي، عن طريق وجود ارستقراطية عمالية” بارتباطاتها البيروقراطية مع الاشتراكية الديمقراطية”.
إنَّ النزعة “الأمريكانية” و”الفوردية”، التي خلفتها دولة الاحتكارات الرأسمالية في تطورها الأبعد، “والتي قُدِّرَ لها أن تَفْرُضَ نَفْسَهَا على الساحة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية”، خصوصاً مع بروز المصالحات بين البرجوازية والاشتراكية الديمقراطية، هي التي أُرْسِيَتْ في “أوروبا الرفاهة”،حين استعادت الدولة جزءًا من مسؤولية الرعاية الاجتماعية، وهو النموذج الذي وضعه الاقتصادي جون مانارد كينز، وسمّي الصفقة الجديدة، واستمر إلى أوائل الثمانينيات،من القرن العشرين.
منذ بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، دخلت الرأسمالية في أزمة بنيوية، وشهد العالم الرأسمالي سلسلة من الأزمات المالية والنقدية، إضافة إلى الإتجاه نحو التضخم والركود. وفي يوم 15 آب/أغسطس 1971، قرَّرَ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ريتشارد نيكسون إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وانهار بذلك كل نظام بريتون وودس(1944) الذي تمخض عنه ولادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو النظام الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت منتصرةً من الحرب العالمية الثانية، وكانت تهدف إلى تحقيق تكاملٍ في الاقتصاد العالمي تحت قيادتها، لكي يخدم إقتصادها الأقوى والأغنى.
ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم ولادة ما يمكن أن نطلق عليه إسم ” الرأسمالية الجديدة”،لأنها أعَادَتْ حرية المناورة النقدية لواشنطن، وفَتَحَتْ الطريق لِلْإجْرَاءَاتِ الأكْثَرَ راديكالية على صعيدالإضطراب المالي، وسَمَحَتْ لازدهار العولمة الليبرالية.وتَعَرَضَتْ الثورة الكينزية في السنوات اللاحقة ( التي شكل تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي والإجتماعي جوهرها) لثورةٍ مُضَادَةٍ، سواء على صعيد الفكر الاقتصادي أو صعيد السياسات الاقتصادية. وتَوَصَّلَ منظرو المدرسة النقدية الذين تكونوا في جامعة شيكاغو- وتَجَمَّعُوا حول الأستاذ ميلتون فريدمان (جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 وأحد المناهضين الكبار لجون مايناردكينز )-إلى السلطة، أولاً داخل الفرق التي تحيط بالجنرال بينوشيه في التشيلي، ثم ثانيًا مع مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، وأخيرا مع رونالد ريغان في واشنطن.
لَكِنَّ في أعقاب الصدمة النفطية والركود الاقتصادي في سنوات السبعينيات من القرن العشرين، بَدَأَتْ الولايات المتحدة الأمريكية تَنْزَلِقُ إلى أوليغارشيةٍ (حكم الأقلية) فعليةٍ مموهةٍ بمنافسةٍ بين حزبين(الديمقراطي و الجمهوري) داخل الشكل الظاهري للحكومة الدستورية.ومن العام 1975 حتى العام 1980 كانت النيوليبرالية تًحِلُ شيئاً فشيئاً مكانَ النموذج الْكَيْنَزِي، وقد أنجزت عملية الإنعطاف هذه في العام 1979 عندما قرَّرَتْ وزارة الخزانة الأميركية أن ترفع فجأة معدلات الفوائد. ومنذ قمة البندقية في العام 1980،احتلت عملية مكافحة التضخم الأولوية،وأصبح الإتكال على مجالات التوظيف أمراً طوباوياً وانفتحت أزمة الدين في العالم الثالث. كانت هذه بداية الطور النيوليبرالي في نظام العولمة.فقَادَتْ إِدَارَتَا الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في بلديهما هَجْمَةً منظمةً لتدميرها لصالح اقتصاد السوق.
فعلى الصعيد الفكري تعرضت الكينزية لحصارٍ نظريٍّ طاحنٍ من خلال هجمات المدرسة النيوكلاسيكية التي قاد لوائها ميلتون فريدمان، وأنصار مدرسة إقتصاديات العرض. فقد نسبت هاتان المدرستان للتدخل الحكومي كافة الأزمات والمشكلات التي تعاني منها الرأسمالية (البطالة، الركود، إنخفاض الإنتاجية، التضخم،عجز الموازنة..,.الخ) .والحق أنَّ أنصار الكينزية عَجَزُوا عن الرَدِّ، أو إقتراحِ سياساتٍ براغماتيةٍ جديدةٍ للخروج من الأزمة،خاصة أزمة الركود التضخمي، وإن كانت مساهماتهم النظرية في هذا المجال أو غيره، أمرًا لا يمكن التهوين من شأنه.
فبإسم ” الثورة المحافظة”،بدأ هؤلاء الليبراليون المتطرفون ينشرون نيوليبرالية عدوانية ومضاعفة بنوع من الأنتي -كينزية المناضلة للقضاء على ذلك التقليد القديم ألا وهوضرورة تحجيم دور الدولة وتدخلاتها في النشاط الاقتصادي والإجتماعي، منادين في الوقت عينه بأنَّ الحرِّية الاقتصادية هي أساس حياة الفرد والمجتمع.وركزوا في هجومهم على السياسات الإجتماعية التي تطبقها الدولة في مجال السوق،مثل دعم صندوق التضامن الإجتماعي وإعانات البطالة،والرقابة على الأسعار،ودعم الخدمات التي توجه للطبقات الفقيرة، ومحدودي الدخل( كالدعم السلعي و العلاج المجاني أو الرخيص، فضلا عن الإسكان والتعليم إلخ).
الثورة النيو ليبرالية هي الجواب التاريخي الذي تقدمه البرجوازية الإحتكارية لأزمة الرأسمالية العالمية من أجل تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي والإجتماعي،وخفض معدلات الضرائب على الدخول والثروات المرتفعة، وإطلاق العنان لقوى السوق العمياء في بيئة يغلب عليها طابع الإحتكار،وحل أزمات الرأسمالية، وبالذات أزمة التضخم،التي لن تتم إلا في ضوء القبول الواسع بالبطالة وبالتالي قبول التحول من الإفقار النسبي إلى الإفقار المطلق داخل البلدان الرأسمالية، بعد أن تمَّ التخلِي تمامًا عن هدفِ التوظيفِ الكاملِ كأحد مرتكزات الدولة الكينزية.
الدعوة إلى إصلاح النظام الأمريكي
كشفت جائحة كورونا إخفاق القطاع الصحي الأمريكي ،لا سيما حين أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر بؤرة لانتشار وباء كورونا (كوفيد -19)في العالم وهي تتصدر دول الغرب في ارتفاع عدد الإصابات المؤكدة قرابة 583 ألفا بينما بلغ إجمالي الإصابات المسجلة في أنحاء العالم قرابة مليوني و94 ألفا إصابة ، توفي منهم أكثر من 135 ألفا، فيما تعافى نحو 521 ألفا.وأظهر إحصاء جمعته رويترز أنَّ عدد الوفيات في الولايات المتحدة جراء فيروس كورونا المستجد تجاوز 25 ألفا الثلاثاء الماضي ،فيما يبحث المسؤولون سبل إعادة فتح الاقتصاد دون إشعال فتيل التفشي من جديد.
في أقل من 30 عاما، تخلت جميع دول العالم، وفي مقدمتهم أمريكا وأوروبا على السيادة في إنتاج الأدوية والمعدات الطبية لصالح الصين التي استأثرت بنصيب الأسد، وأصبحت تصنع أكثر من 80 بالمئة من المكونات النشطة،وجزءًا مهمًا من المواد الخام يبلغ حدّ 80 و90 بالمئة، ناهيك عن إنتاج ما يسمى الأدوية “الجاهزة”.
تقول صحيفة لوفيغارو الفرنسية ،في تقرير لها صدر تحت عنوان :”هذا ما حصل حين تخلى الغرب عن إنتاج أدويته بنفسه وأوكله للصين” صدر بتاريخ 14أبريل الجاري،بأنَّ أمريكا استفاقتْ منْ سُبَاتِها، وكانت الضربة التي سدَّدها ما اصطلح عليه بـ”السوق العالمية” موجعة. فمنذ عام 2016، حاول ترامب افتكاك شيء من السيادة، خاصة من خلال خوض معركة شبكات اتصال الجيل الخامس. ولًكِنَّ في معركة كورونا، يدرك الأمريكيون مدى اعتماد حياتهم وأمنهم الصحي على خصمهم. فقد فرضت الصين نفسها كقوة مهيمنة على السوق الأمريكية للمواد الخام والمكونات النشطة للأدوية، وكذلك في سوق المضادات الحيوية العامة، وهو موقف يخلق ضعفًا استراتيجيًا كبيرًا.
كما أوردت الصحيفة أنَّه في تقرير لمجلس العلاقات الخارجية، أثار الباحث يانغ زونغ يوهان محادثة في البيت الأبيض تحدث عنها الصحفي بوب وودوارد، حيث حذر كبير الاقتصاديين غاري كوهن من حرب تجارية على أساسها يمكن للصينيين الردَّ بسلاح المضادات الحيوية؛ لأنَّها تُوَفِرُ 97 بالمئة من الاستهلاك الأمريكي.
لذلك، بَدَأَتْ فكرة الاستقلال الاقتصادي بالظهور. في الكونغرس، قدمت مجموعة من الديمقراطيين والجمهوريين مسودة تشريع لتشجيع إعادة إنتاج بعض الأدوية. ومع ذلك، تُطرح صعوبات النقل والوقت والتكلفة. قد يستغرق هذا الإنجاز سنوات، فالعمليات الكيميائية الدقيقة معقدة للغاية، خاصة أنه سيكون من الضروري اختراع تقنيات تحترم المعايير البيئية، وسيطلب هذا الإنجاز تنسيقا وثيقا على المستوى الأوروبي، ينطوي على تغيير فلسفي حقيقي.
التراجع الأمريكي لم يكن مقتصرًا على المجال الصحي، ففي عام 2018، أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية الدعم الذي كانت تقدّمه لوكالة الأمم المتحدة لتشغيل وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وأوقفت الإدارة الأميركية في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 مساهمتها السنوية في موازنة منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو). وأعلنت هذه الإدارة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 انسحابها من اتفاق باريس المعني بالمناخ. وفيما تواجه البشرية كارثة كورونا،هاجم الرئيس الأميركي، ترامب، منظمة الصحة العالمية، واتهمها بتقاعسٍ عن نجدة بلاده، وتركيزها في المقابل على الصين، فيما المموّل الأول للمنظمة هي الولايات المتحدة، والحال أنه حجب الدعم عن المنظمة في هذا الظرف الخطير،والمقدر بنحو 400مليون دولار.
بعد سنوات من اعتلال صحة العولمة الرأسمالية الأمريكية المتوحشة،تعيش الآن في حالة حرجة جدّاً، وتسبب إشكاليات كبرى في النظام السياسي العالمي،الذي لا يمكن أن يكون منفصلاً عن أي أزمات اقتصادية حاصلة، وحروب تخاض باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي خَلَقَ الحروبَ، والمجاعاتِ، وفَرَضَ حالة كبيرة من عدم المساواة، وعدم الاستقرار الاجتماعي، لخدمة مصالح فئة قليلة متحكمة. الشعوب لم تعد تثق بهذا النظام العالمي الليبرالي، لَكِنَّ متى سَيَنْتَهِي؟ وما هو البديل له؟
وعلى الصعيد الجيوسياسيي، تواجه الولايات المتحدة مستقبلها بعد تجربة حربين فاشلتين، في كل من أفغانستان و العراق، وانهيار مالي و19 تريليون دولار من الديون المتراكمة،الأمر الذي قاد إلى انقسام النخبة الاستشارية والثقافية الأمريكية إلى معسكرين: الأول يرى أنَّ النظام السياسي الأمريكي المختل والمتهاوي غير قادر على الإصلاح، وستتجاوزهم الصين اقتصادياً في وقت قريب. ويعد جورج باكر الكاتب في صحيفة”نيويوركر” أحد هذه الأصوات، والذي يرى أن إخلال الطبقة القيادية في الولايات المتحدة بالاتفاق الاجتماعي الضمني قبل أكثر من ثلاثة عقود كانت بداية لعملية “تفكك” كبيرة وضعت البلاد على مسار يتجه نحو الانحدار.
أما المعسكر الآخر، فهو الإصلاحي، الذي يؤمن بوفرة الحلول الفردية الزائفة للالتفاف حول الدولة: الإصلاح الانتخابي، والإصلاح العسكري، وغيرها، من دون أن يكون هناك أي توقع حقيقي لسنهم أي قانون فعلي يدفع نحو الإصلاح.
ويقول الكاتب مايك لوفغرين في كتابه : “الدولة العميقة سقوط الدستور وصعود حكومة الظل”، الصادر في عام 2016، يتكرر مصطلح الدولة العميقة في عدد من الدول، وربما يكون تأثيرها محصوراً في الدولة التي تديرها في الخفاء، إلا أنَّه في الولايات المتحدة تلعب الدولة العميقة دوراً كبيراً، يمتد إلى كافة أنحاء العالم بطرق مختلفة. استخدمت هذه “الدولة” التي تشكل النخبة الثرية عمودها الفقري، النظام السياسي الأمريكي في خدمة مصالحها، وحوّلت الديمقراطية إلى بلوتوقراطية، وبحجة الحرب على الإرهاب عسكرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فَخَلَّفَتْ الضحايا والكوارث في الداخل والخارج.
ويحاول مؤلف هذا العمل الكاتب مايك لوفغرين بحكم عمله ثمانية وعشرين عاماً في الكونغرس أن يسلط الضوء على الممارسات الخاطئة في السياسة الأمريكية، وكيف يتم استخدام القانون لحماية الشركات والمجمعات العسكرية والصناعية والاستخباراتية والإعلامية، ويوجّه في الوقت ذاته نداء تحذير إلى الطبقة السياسة والشعب الأمريكي، ويدعو إلى إجراء إصلاحاتٍ جذريةٍ رغم صعوبتها البالغة.وبعد الحرب الأهلية الأمريكية ، كان النظام السياسي الأمريكي مغلقاً، ويعيش حالة من الانحدار كما هو الآن. فالشركات كانت تتحكم بالسلطة التشريعية، وتحصل على ما تريد. كان الأمر في عام 1880، في ذروة العصر الذهب.
يقدم مايك لوفغرين في نهاية عمله مجموعة من الإصلاحات التي يمكن أن تبدأ بإيقاف الاختلالات في النظام السياسي الأمريكي، وتضع الولايات المتحدة في مسار صحيح وهي: أولاً، إزالة المال الخاص من الانتخابات العامة. ثانياً، إعادة نشر الجيش بشكل معقول وتخفيض نفوذ المجمع الاستخباراتي – العسكري، من خلال إزالة مئات القواعد العسكرية خارج الولايات المتحدة، خاصة أنها تنفق سنوياً ملايين الدولارات. ثالثاً، البقاء خارج الشرق الأوسط، فكل قضية تدخلت فيها الولايات المتحدة في هذه الرقعة الساخنة من العالم أصبحت أسوأ، وصنعت حاضنات للتطرف من خلال تفتيت الدول، كما حدث في العراق. رابعاً، إعادة توجيه عوائد السلام إلى تحسين البنية التحتية المحلية. خامساً، البدء في تطبيق قانون مكافحة الاحتكار مجدداً. سادساً، إصلاح سياسة الضرائب. سابعاً، إصلاح سياسة الهجرة. ثامناً، تبني نظام رعاية صحية تقوم فيه الدولة بدفع كل التكاليف. تاسعاً، إلغاء الحالة الشخصية للشركات أو معاملتها تماماً مثل الأشخاص، خاصة أن الشركات تلعب دوراً كبيراً في الرشوة السياسية، وبحماية قانونية.
ويعلق الكاتب على هذه الإصلاحات التي اقترحها:الولايات المتحدة في حالة أفضل مما كان عليه الاتحاد السوفييتي في وقت مضى، على الرغم من أخطائنا المؤسسية وازدياد الأساطير الإيديولوجية التي أضعفتْ قدرتنا على رؤية العالم كما هو، والعيش بسلام ووئام ضمنه. الطريق إلى أمريكا أفضل، سوف يأتي بشكل مدهش وسهل عندما نعيد صياغة ما قاله أبراهام لينكولن، “نحرّر أنفسنا من الأساطير المهترئة والمخاوف التي تكمن وراءها”.
تغير سيطرة الإمبراطوريات في ظل “الرأسمالية الماركسية” الصينية
هل تختلف الإمبراطورية الأمريكية عن غيرها من الإمبراطوريات؟ الإمبراطورية الأمريكية هي الوريث الشرعي للإمبراطورية البريطانية، فبعد حصار مدينة الكوت (العراق) في الحرب العالمية الأولى،التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية،ولقي البريطانيون فيها بقيادة اللواء تشارلز فيرير تاونشند، هزيمة نكراء بآلاف القتلى، والجرحى. وكانت من أكبر المعارك حينها، وشكلت ضربة للإمبراطورية البريطانية التي بدأت بالانحدار من حينها، بعد أن كانت تلعب دور الشرطي العالمي من 1815 إلى 1914. فأحداث 1915، مثل الحرب الأمريكية في العراق عام 2003، يمكن أن تكون لها نتيجة واحدة.
بهذه الطريقة غير المتوقعة،يمكن النظر في حصار الكوت عل أنَّهاأجندة تتضمن العديد من القضايا الأساسية في تاريخ الإمبراطوريات.فعلى وجه الخصوص،وضعت هذه الواقعة وتفسيراتها المرتبطة بها بعد غزو العراق في 2003،قيمة حالة الولايات المتحدة في سياق أبعد بكثير من حدودها الوطنية.وكانت إحدى الطرق لتحقيق هذا الموضوع هي من خلال التأكيد على الملحمة الوطنية في سياق عالمي، وإمبريالي بشكل محدد.
في المنظورالتاريخي العولمة الرأسمالية في مختلف مراحلها والإمبراطوريات مترابطة عبر ثلاثة قرون.فالإمبراطوريات كانت تلعب دور المبتكرين الحازمين،ووكلاء العولمة الرأسمالية .ومراحل العولمة الرأسمالية الأساسية الثلاث المعروفة خضعت لأزمات تحويلية في نهاية القرن الثامن عشر،وفي أواخر القرن التاسع عشر،وفي منتصف القرن العشرين. وكان لكل مرحلة تأثير عميق في ثرواتومسارالإمبراطوريات. وكل تحوّل كان يتم عبر عملية جدلية غيّرت التراكيب الاقتصادية والسياسية للإمبراطورية، وغيّرت التوزع الجغرافي للحكم الإمبريالي.
وتشير تداعيات وباء كوروناإلى أنَّ التاريخ الذي يظهر من هذه المراحل المختلفة للعولمة الإمبريالية يقدّم قراءة بديلة العالم المتعدد الأقطاب،إذْ من المتوقع أن تلعب الصين دورًا متزايد الأهمية في الاقتصاد العالمي،خصوصًا بعد أن دمّر وباء كورونا الأسواق وصدم الاقتصاد العالمي،وإلى جانب المرض والفجوات المصاحبة في سلسلة التوريد،فإنَّ حالة عدم اليقين تفاقم كلا من الفوضى والصدمة.
وسياسيا، فإنَّه بالوقت الذي لا يزال هناك العديد من الأمور المجهولة المرتبطة بالوباء وما يصاحبه من عواقب سياسية،فإنَّه يساعد على تسريع الاتجاهات السياسية الرئيسية على المدى الطويل ويؤدي إلى خلق عالم متعدد الأقطاب،ويخفض من درجة العولمة.وحتى قبل ظهور هذا الوباء، كان ميزان القوى العالمي يتحرك بلا هوادة نحونظام عالمي متعدد الأقطاب.
في الوقت الحالي، تحتل الصين موقعًا مهيمنًا في العديد من سلاسل التوريد العالمية، وقد تمكنت من بلوغ ذلك بسبب قدرتها على إنتاج سلع أرخص وذات جودة بشكل سريع مقارنة بمنافسيها، وبناء على ذلك، ستركز الشركات الأمريكية في البحث على أرخص الشركات المصنعة وسلسلة التوريد الأكثر موثوقية من الناحية السياسية.ومع تحرك العالم نحو تعدد الأقطاب، ستتغير العلاقات بين الولايات المتحدة والصين،التي كانت بمثابة ركيزة للاقتصاد العالمي منذ وصول دنغ شياو بينغ إلى السلطة في الصين سنة 1978،الذي دَشَّنَ عهداً جديداً من التنوير في التاريخ الصيني الحديث،وقادَ عملية تحولٍ كبيرةٍ في تاريخ الصين الحديث،حيث شكلت الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية التي قام بها ،قطيعة مع القيم الثورية للأيديولوجيا الشيوعية.
من الأساطير التي يمكن معرفتها عن الصين الحديثة،أنَّ الأسطورة الأولى هي أنَّ العولمة أدَّتْ مباشرة إلى نهوض الصين،والثانية هي أنَّ الصين دولة تنموية شرق آسيوية أخرى؛ والثالثة هي أنَّ إصلاح السوق في الصين قد تمَّ تنفيذه بطريقة تدريجية؛ ورابعاً كانت “طريقة الحكم الصينية” فعالة في ضمان التحول الاقتصادي والسياسي للبلاد.
فالنموذج الصيني مَثَّلَ أحد أشكال “الرأسمالية المحسوبة” التي أعَاقَتْ محاولات البلاد في الحداثة الاقتصادية والسياسية على الطريقة الليبرالية الغربية .وكانت استراتيجية الولايات المتحدة تريد دمج الصين في النظام العالمي الليبرالي،لَكِنَّهَا مُنِيَتْ بهزيمةٍ ذاتيةٍ على المدى الطويل؛ ليس لأنَّ مثل هذا النهج أوجد “إمبراطورية مضطربة” قادرة على تحدي سيادة الولايات المتحدة، ولَكِنَّ لأنَّ «المعجزة» الصينية انعَكَسَتْ على النظام الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
قبل نهاية الحرب الباردة بالتحديد، قدّم العالم السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما أطروحته الأكثر شهرة بعنوان “نهاية التاريخ” في العدد الصيفي لمجلة “ناشينال إنترست” عام 1989. وأعلن بثقة تامة الانتصارالنهائي للديمقراطية الليبرالية،وتوقع حتمية “عولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي للحكومة البشرية.” وقد تَرَدَّدَ صدى حُجَّجِهِ في سنوات ما بعد الحرب الباردة عندما انضم عدد من البلدان إلى صفوف الديمقراطيات التي عَزَّزَتْ تَدَفُقِ ديمقراطيةِ الموجةِ الثالثةِ التي بدأت في عام 1974. لكِنَّ التاريخ لم ينته،بل تحرك منذ ذلك الحين في اتجاهات كثيرة مع أيديولوجيات متنافسة صمدت في أجزاء كثيرة من العالم، سواء كانت أصولية إسلامية،أوإعادة تنشيط النزعات الشمولية في دول مثل الصين،أو “صراع الحضارات” غيرالأيديولوجي.فقدعاد التاريخ أيضاً في الشكل التقليدي للمنافسة الجيوسياسية المتجددة بين القوى العظمى.ومن بين هذه الاختلافات، فإنَّ صعود الصين وما يترتب عليه من آثار على كل من السياسة الداخلية والسياسة الدولية للولايات المتحدة قد شَكَّلَ تحدياً لحتمية فوكوياما التاريخية.
لقد تبنت الصين العولمة الرأسمالية،لَكِنَّهَا حافظتْ على “الموروث العظيم” للأمة الصينية ،من دون إقامة دولة القانون وسلطة قضائية على الطريقة الليبرالية الغربية.فقد كان رفض الحزب الشيوعي الصيني الصارخ للديمقراطية والتدابير القوية التي اتخذها شي جين بينج، الزعيم الأسمى القوي،لإعادة توطيد الحكم في الصين على طريقة حكم بوتين في روسيا، بمثابة حجة عكسية قوية لأطروحة فوكوياما “نهاية التاريخ”. وبدلاً من ذلك، قدّمتْ الصين ما بعد عهد ماو للعالم الخارجي نموذجاً بديلاً :”الرأسمالية الماركسية” وهي طريقة صينية مميزة لخلق “ثَرْوَةٍ مِنْ دُونِ حُرِّيَةٍ”.
إذا كانت الحرب الباردة العالمية قد قامت بتسييس خطاب التنمية، مما جعلها جزءاً من العلاقات الدولية، فإِنَّ انتصار الديمقراطية الليبرالية في أواخر الثمانينات،وبالاقتران مع إخفاق “التحدي الجنوبي”،وهو جهد تبذله البلدان الأقل نمواً لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد في محاولة لإصلاح النظام الاقتصادي الليبرالي الغربي المهيمن منذ السبعينات وحتى منتصف ثمانينات القرن العشرين،أضفى الطابع الشرعي بطبيعة الحال على النموذج الليبرالي الجديدبوصفه النموذج السائد والوحيد “الصحيح” للتنمية.
ما تمتلكه الصين على هذا الصعيد هو “نظام شيوعي” لا تستطيع تسويقه،ولا تسعى إلى ذلك، حتى لأقرب حلفائها.لَكِنَّ السمة الرئيسية للنظام الدولي الجديد ما بعد وباء كورونا ،والذي سيسود خلال حقبة القرن الحادي والعشرين لن يكون نظامًا تسيطر عليه دولة أو دولتان أوحتى عدة دول، بل سيكون نظام دولي متعدد الأقطاب،مدعومًا بمؤسسات دولية وإقليمية عديدة فاعلة تمتلك وتمارس أنواعاً مختلفة من السلطة الدولية.

مجلة البلاد اللبنانية: تصدر أسبوعيًا عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان، العدد رقم 228، تاريخ الجمعة 17أبريل 2020

Optimized by Optimole