الصراع بين الأخباريين والأصوليين في التاريخ الشيعي

الصراع بين الأخباريين والأصوليين في التاريخ الشيعي
Spread the love

خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط — بقلم: د. هيثم مزاحم* —

الأخباريون لغة واصطلاحاً
الخبر بحسب ما جاء في «لسان العرب» هو: «ما أتاك من نبأ عمّا تستخبر فيعرف الخبر بالنبأ، والجمع أخبار، والتخبّر يعني السؤال عن الخبر». أما الزبيدي في «تاج العروس» فقال: «الخبر هو القول الذي يدخله الصدق والكذب».
وقال أعلام اللغة والاصطلاح: «الخبر عرفاً ولغة»: «ما ينقل عن الغير وزاد فيه أهل العربية … واحتمل الصدق والكذب لذاته .. والمحدثون استعملوه بمعنى الحديث .. أو الحديث ما كان عن النبي صلى الله عليه سلم والخبر ما كان عن غيره».
ارتبط اسم الأخباري بمن يشتغل بالتاريخ ونحوه و لما جاء الإسلام ارتبطت تسمية الأخبارية به ولا سيما بالحديث النبوي، وكان الرواة الأخباريون ينقلون مع الحديث أرضية تاريخية، وذلك ما ميّزهم عن المحدثين الذين ينقلون الأحاديث النبوية فقط. وهكذا عرف هذا العلم بعلم الأخبار وعرف نقلته بالرواة والمحدثين أو الأخباريين.
وكان قدماء الأخباريين يسمون بأصحاب الحديث وأهل الأخبار ومنهم طوائف تسمى بالظاهرية والحشوية وكانوا موجودين لدى أهل السنّة والشيعة على السواء.
قال الشيخ المفيد في «شرح عقائد الصدوق»: «لكن أصحإبنا المتعلقين بالأخبار، أصحاب سلامة وبعد ذهن، وقلة فطنة، يمرون على ما سمعوه من الأحاديث، ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها».
أما السيد المرتضى فقال في«الموصليات الثانية الفقهية»: «فأما أصحاب الحديث من أصحإبنا فإنّهم رووا ما سمعوا، وحدثوا بما حدثوه، ونقلوه عن أسلافهم، وليس عليهم أن يكون حجة ودليلاً في الأحكام الشرعية، أو لا يكون كذلك… ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجّون في أصول الدين من التوحيد والعدل، والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة… يحتج بالخبر الذي ما رواه ولا حدث به، ولا سمعه من ناقله، فيعرفه بعدالة أو غيرها، حتى لو قيل له في بعض الأحكام: من أين أثبتّه وذهبت اليه؟ كان جوابه: لأني وجدته في الكتاب الفلاني، ومنسوباً إلى رواية فلان ومعلوم عند كل من نفى العلم بأخبار الآحاد، ومن أثبتها وعمل بها، أن هذا ليس بشيء معتمد، ولا طريق يقصد وانما هو غرور وزور».
وأشار الشيخ الطوسي إلى أحوال الأخباريين في بعض كتبه فقال في كتابه «المبسوط»: «وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوّق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك وتتوق نفسي إليه، فيقطعني في ذلك القواطع، وتشغلني الشواغل، وتضعف نيّتي فيه قلة رغبة هذه الطائفة وترك عنايتهم به، لأنهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتى أن المسألة لو غير لفظها، وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها، وقصر فهمهم عنها».
وذكر أنه صنّف سابقاً كتاب «النهاية» وأورد جميع ما فيه أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا منه. لكنه أشار إلى أن الفقهاء وأصحاب الحديث على ضربين في شأن معرفة علم الأصول: «ضرب منهم يعلم أنه لا يعرف الأصول ولا كثيراً من الفروع فإن ذلك لا محالة يجب إطراح قوله،… والضرب الآخر منهم لا يعلم ذلك من حالهم، بل يجوز أن يكونوا مع كونهم متظاهرين بالحديث والفقه، قيمين بالأصول عارفين بها».
والظاهر مما ذكره المفيد والمرتضى والطوسي من أحوال الأخباريين في عصرهم أنهم يتحدثون عن مرحلة من مراحل الفكر الفقهي الإثني عشري وليس عن حركة متبلورة ذات اتجاه محدد في استخراج الأحكام الشرعية على غرار الأخبارية المتأخرة. فقد كان بين فقهاء الشيعة في العصور الأولى علماء أخباريون يمثلون المرحلة البدائية من التفكير الفقهي وهؤلاء هم الذين وصفهم الشيخ الطوسي بضيق الأفق والاقتصار في البحوث الفقهية على أصول المسائل والانصراف عن التفريع والتوسع في التطبيق، والذين يقابلهم الأصوليّون الذين يفكرون بذهنية أصولية ويمارسون التفريع الفقهي في نطاق واسع. فالأخبارية القديمة إذن تعبير عن مستوى من مستويات الفكر الفقهي لا عن اتجاه له مسلك خاص في عملية الاستنباط.
ولعلّ أقدم نص يتحدّث عن الأخبارية باعتبارها فرقة قائمة ضمن المذهب الإمامي هو ما ذكره الشهرستاني إذ قال: «والأخبارية فرقة من الإمامية.. وهي سلفية.. كما عليه سنن السلف»، مشيراً إلى أن علماء الشيعة الإثني عشرية «كانوا من قديم الزمان ينقسمون إلى أصوليين وأخباريين وهذا أدل الدليل على وجود الخلاف بينهمِ».
أما وجه تسميتهم بالأخباريين فقد نقل المحقق القُمّي عن أستاذه الشيخ مرتضى الأنصاري قوله: «ويعجبني في وجه تسمية هذه الفرقة (الأخباريين) وهو أحد أمرين:
الأول: كونهم عالمين بتمام الأقسام من الأخبار، من الصحيح، والحسن، والموثق والضعيف من غير أن يفرّقوا بينها في مقام العمل في قبال المجتهدين.
الثاني: أنهم لما أنكروا ثلاثة من الأدلة الأربعة، وخصوا الدليل بالواحد منها أعني الأخبار فلذلك سمّوا بالإسم المذكور».
وثمة التباس بشأن إنكار الأخباريين لدليل الكتاب أي القرآن الكريم وهو ما لا ينسجم مع إسلامهم، الأمر الذي أوضحه المحدث الأسترابادي (ت1033هـ) بأن الأخباريين لا ينكرون دليلية القرآن واعتباره مصدراً تشريعياً «وإنما أرادوا الأخذ به عن طريق أهل البيت عليهم السلام لأنهم أدرى بما فيه كما أن آيات القرآن وردت على وجه التعمية والكشف عما يحيط بالقرآن من غموض أو تفصيل لا يتم إلا بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام فهم الذين لهم القدرة على القيام بهذه المهمة لأنهم أحد الثقلين، والكتاب هو الثقل الآخر».
فالأخباري كما أوضح الأسترابادي، مؤسس الأخبارية المحدثة، هو من قنع بنقل متون الأخبار واقتصر في الحكم على موارد النصوص ومضامين الآثار، يفتي بمتون الأخبار من غير تعرض لما لا نص فيه، ولعلّ ذلك لعدم اكتمال شروط الاجتهاد في نفسه أو لكونه في عصر الأئمة عليهم السلام وتمكنه من أخذ الأحكام بأسرها من النص والصراحة فلم يقنع بالاجتهاد، وهذا لا يقتضي عدم جوازه عنده كمن يعمل بالاحتياط مع تمكنه من الاجتهاد وهو حجة عنده.
وقد عرّف الأسترابادي الأخباري بأنه: «الفقيه المستنبط للأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة».

مراحل المدرسة الأخبارية
يمكننا تحديد المرحلة الأولى لهذه المدرسة اعتماداً على نص أورده المحدث الأسترابادي إذ قال: «وعند قدماء أصحإبنا الأخباريين قدّس الله أرواحهم كالشيْخين الأعلمين الصدوقين، والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني كما صرّح به في أوائل كتاب الكافي، وكما نطق به باب التقليد وباب الرأي والقياس، وباب التمسك بما في الكتب من كتاب الكافي فإنها صريحة في حرمة الاجتهاد، والتقليد، وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة عليهم السلام المسطورة في تلك الكتب المؤلفة بأمرهم».
وينفي بعض علماء الإثني عشرية أن يكون الكليني أو الصدوق من الأخباريين بالمعنى الجديد الذي اصطلح عليه الأسترابادي فيقول أحدهم: «وادعاء المحدث الأسترابادي وأتباعه عليهم، أو على بعضهم أنهم من الأخباريين وأنهم على الطريقة التي ابتدعها وروّجها، ولبس أمرها على الجهال باسم الأخبارية وقد أفرط في نسبة الأفاضل إليها وحمل كلامهم عليها»، مؤكداً أن الذين نسبهم الأسترابادي إلى الأخباريين على الطريقة التي اصطلح عليها، أي المحمدين الثلاثة (الكليني والصدوق والطوسي)، أصحاب الكتب الأربعة ليسوا منها.
ولعلّ شدة الاحتياج إلى كتبهم في الأخبار هو الذي دعا إلى الأخباريين إلى عدّهم من جملتهم.

الأخبارية الحديثة
تتمثل بداية هذه المرحلة بظهور المحدث الأسترابادي الذي كما وصفته بعض المصادر بأنه كان أخبارياً صلباً وهو أول من فتح باب الطعن على المجتهدين إذ يدعي الشيخ يوسف البحراني بأن الأسترابادي هو أول من قسّم الإمامية إلى أصولية وأخبارية. وقد أكثر الأسترابادي في كتابه «الفوائد المدنية» من التشنيع عليهم ربما نسبتهم إلى تخريب الدين.
وقد أطلق العلاّمة محمد رضا المظفر على هذه المرحلة تسمية «الأخبارية الحديثة». وقال في هذا الصدد: «ومن جهة أخرى يحدث رد فعل لهذا الغلو فينكر على الناس أن يركنوا إلى العقل وتفكيره ويلتجىء إلى التفسير التعبد بما جاء به الشارع المقدس، بمعنى الاقتصار على الأخبار الواردة في الكتب الموثوق بها في كل شيء والجمود على ظواهرها، ثم يدعو الغلو بهؤلاء إلى ادعاء أن كل تلك الأخبار مقطوعة الصدور على ما جاء فيها من اختلاف، ثم يشتد بهم الغلو فيقولون بعدم الأخذ بظواهر القرآن وحده من دون الرجوع إلى الأخبار الواردة، ثم ضربوا بعد ذلك علم الأصول عرض الدار بادعاء أن مبانيه كلها عقلية لا تستند إلى الأخبار، والعقل أبداً لا يجوز الركون اليه في شيء، ثم ينكرون الاجتهاد، وجواز التقليد، وهكذا تنشأ فكرة (الأخبارية الحديثة) التي أول من دعا اليها أو غالى في الدعوى اليها المولى أمين الدين الأسترابادي».
ويُرجع حسن بن يوسف بن مكي العاملي كذلك الحركة الأخبارية إلى الأسترابادي ويقول: «بعد وفاة صاحب المعالم (ت1011هـ) ظهرت حركة أخبارية ضد علم الأصول زعيمها الميرزا محمد أمين الأسترابادي (ت1033هـ) فثار وأتباعه على علم الأصول والاجتهاد قاصدين شلّ حركة نموّه وترك العمل بقواعده مكتفين بالعمل بالأخبار والأحاديث في استنباط الأحكام الشرعية، وقد اشتدت حركتهم في هذه المعارضة في أواخر القرن الحادي عشر إلى أوائل الثاني عشر، وبهذه المعارضة حصل الانقسام في صف علمائنا فاتخذت الأخبارية مذهباً مقابل الأصوليين».
أمّا المرحلة الثالثة فهي تبدأ مع المحدث الشيخ يوسف البحراني (توفي 1186هـ) والذي مثل دور الاعتدال بسلوكه طريقاً وسطاً بين الاتجاهين المتصارعين الأخباري والأصولي، محاولاً تخفيف تطرف آراء الأسترابادي وأتباعه والحدّ من حملتهم الجارحة ضد الأصوليين ثم محاولة تقليص الخلاف بين الجانبين.
ويتحدث البحراني عن هذه المرحلة قائلاً:
«وقد كنت في أول الأمر ممن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، إلا أن الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب.. ». ويعلّل ذلك «لاستلزامه القدح في علماء الطرفين، والازراء بفضلاء الجانبين كما قد طعن به كل من علماء الطرفين على الآخر..فلأن ما ذكر في وجوه الفرق بينهما جلّه بل كله عند التأمل لا يثمر فرقاً في المقام.. فلأن العصر الأول كان مملوءً من المجتهدين والمحدثين مع أنه لم يرتفع بينهم مثل هذا الخلاف، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف، وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل، وحينئذ فالأولى والأليق بذوي الإيمان والأحرى والأنسب أن يقال: إن عمل علماء الإمامية إنما هو على مذهب أئمتهم عليهم السلام وطريقهم الذي أوضحوه لديهم ولكن ربما حاد بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً – عن الطريق غفلة أو توهماً، أو لقصور اطلاع، أو قصور فهم،..، فإنّا نرى كلاً من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربما خالف أحدهم نفسه، مع أنه لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً، ولم يرتفع صيت هذا الخلاف إلا زمن صاحب (الفوائد المدنية) سامحه الله تعالى، فإنه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء».
ويخلص البحراني إلى أنه «قد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق رحمه الله تعالى إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري، مع أنه لم يقدح ذلك في علمه وفضله».

أسباب الخلاف بين الأصوليين والأخباريين
يرى البعض أن الفوارق بين الأصوليين والأخباريين لم تكن محددة ولا مضبوطة من قبل الذين بحثوا هذا الموضوع. ويقول العلاّمة الحر العاملي (توفي 1104هـ) في كتابه «الفائدة الطوسية»:
«واعلم أن كثيراً ما تقوّل من يتعصب لأهل الأصول، إن النزاع بينهم وبين الأخباريين لفظي وذلك عند العجز عن الاستدلال. وبعضهم يقول ذلك جهلاً منه بمحل النزاع، وينبغي أن يقال لهذا القائل: إذا كان النزاع لفظياً، فإنكارك على الأخباريين لا وجه له بل هو إنكار على جميع الشيعة فلا يجوز التشنيع على الأخباريين… والحق أن النزاع بينهم لفظي في مواضع يسيرة جداً لا في جميع المواضيع ولا في أكثرها».
وقد أحصى الشيخ عبدالله بن صالح السماهيجي (توفي 1135هـ) هذه الفوارق بثلاثة وأربعين فارقاً، فيما حددها الشيخ يوسف البحراني بثماني مسائل ذاهباً إلى عدم وجود فارق جوهري بين الطرفين إذ قال: «فلأن ما ذكروه من وجوه الفرق بينهما جلّه، أو كلّه لا يثمر فرقاً في المقام».
أما الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت1228هـ) فقد ألّف كتاباً خاصاً في هذا الموضوع عنونه بـ «الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين» خلص فيه إلى أن عدد هذه الفوارق ثمانين فرقاً.

أما أبرز مسائل الخلاف بين الأخباريين والأصوليين فهي التالية:
أولاً: اعتبار الأخبارييين أن العمل بالقواعد الأصولية يؤدي إلى ترك العمل بالنصوص الشرعية. إذ قال مؤسس هذا الاتجاه المحدث أمين الأسترابادي:
«وسمعت من بعض مشايخنا أنه لما عيّرت جماعة من العامة أصحإبنا بأنه ليس لكم فن كلام مدوَّن، ولا أصول فقه كذلك، ولا فقه مستنبط وليس عندكم إلا الروايات المنقولة عن أئمتكم، تصدى جماعة من متأخري أصحإبنا لرفع ذلك فصنفوا الفنون الثلاثة على الوجه المشاهد، وغفلوا عن نهيهم عليهم السلام أصحابهم عن تعلم فن الكلام المبني على الأفكار العقلية، وأمرهم بتعلم فن الكلام المسموع منهم عليهم السلام وكذلك عن القواعد الأصولية الفقهية غير المسموعة منهم عليهم السلام. وصرّحوا عليهم السلام بأنه: علّموا أولادكم أحاديثنا قبل ألفة أذهانهم بما في الكتب غيرالمأخوذة عنا».
وقال الأسترابادي في موضع آخر من كتابه:
«وأول من غفل عن طريقة أصحاب الأئمة عليهم السلام واعتمد على فن الكلام وعلى أصول الفقه المبنيين على الأفكار العقلية المتداولين بين العامة فيما أعلم محمد بن أحمد الجنيد العامل بالقياس، والحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم ولما أظهر الشيخ المفيد حسن الظن بتصانيفهما بين أيدي أصحابه ومنهم السيد الأجلّ المرتضى رئيس الطائفة شاعت طريقتهما بين متأخري أصحإبنا قرناً فقرناً، حتى وصلت النوبة إلى العلاّمة الحلّي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الأصولية».
وهكذا يرى الأسترابادي أنّ أهل السنّة كانوا السباقين إلى التصنيف في علم الأصول وأن المتأخرين من علماء الإثني عشرية قد قلّدوهم في ذلك بسبب تعييرهم لهم على عدم اشتغالهم بهذا العلم. ويؤكد ذلك في نص آخر:
«ومن العجائب ما وقع من بعض المتأخرين من أصحإبنا حيث زعم أن القاعدة الأصولية المذكورة في كتب العامة القائلة بأن الجمع بين الدليل مهما أمكن ولو بتأويل بعيد أولى من طرح أحدهما جارية في أحاديث أئمتنا، وغفل عن أن تلك القاعدة إنما تجري على مذهب العامة لعدم ورود كثير من أحاديث أئمتنا من باب التقيّة.. وكم من غفلة وقعت عن متأخري أصحإبنا الأصوليين والسبب فيها ألفة أذهانهم من صغر سنهم بكتب العامة».( )
ويذهب البحراني إلى أن الإجماع قد سار عليه الإمامية مقتفين فيه أهل السنّة وذلك لاقتفائهم لهم في علم أصول الفقه وما اشتمل عليه من المسائل والأحكام والأبحاث وهذه مسألة من أمهات مسائله. وتساءل كيف غفل أئمة أهل البيت عن هذا العلم «مع أنه كما زعموه مشتمل على أصول الأحكام الشرعية، فهو كالأساس لها لابتنائها عليه ورجوعها إليه.
وقد كان الشافعي (ت204هـ) وغيره في زمانهم عليهم السلام، فقد كان من العاكفين على هذا العلم تأليفاً واستنباطاً للأحكام الشرعية، وكان ذلك معلوماً للشيعة في تلك الأيام، فكيف غفلوا عن شيء من مسائله؟ ومع غفلة الشيعة، كيف رضي الأئمة عليهم السلام بذلك لهم؟ ولم يهدوهم إليه؟ ولم يوقفوهم عليه؟..ما هذا إلا عجب عجيب كما لا يخفى على الموقف المصيب».
ثانياً: يقول الأخباريون أن أصحاب الأئمة والى زمان الكليني والصدوق إنما كان عملهم بالأخبار الواردة عن الرسول وآل بيته. وقال الأسترابادي: «ومن تقدمهم ممن أدرك صحبة بعض الأئمة عليهم السلام لقرب عهده به، لا مدرك للأحكام الشرعية النظرية فرعية كانت أو أصلية أحاديث العترة الطاهرة، وتلك الروايات الشريفة متضمنة لقواعد قطعية تسد مسد الخيالات العقلية المذكورة في الكتب الأصولية».
ويتضح من النصوص الأنفة الذكر أن رفض الأخباريين لعلم الأصول كان مرده أنه في نظرهم يؤدي إلى نبذ الأدلة الشرعية أو السمعية لأخذ الأحكام الشرعية مما يسمى بالأدلة العقلية التي يعتبرون أن أهل السنّة هم أول من ابتدعها. ولعل الذي ساهم في ترسيخ الإطار السني لعلم الأصول في أذهان الأخباريين هو أن إبن الجنيد كان يتفق مع أكثر المذاهب السنية في القول بالقياس.
ثالثاً: استغل الأسترابادي حداثة علم الأصول للهجوم عليه وإثارة أتباع الإمامية ضده وذلك لأن علم الأصول قد نشأ عند الشيعة بعد غيبة الإمام الثاني عشر لبروز الحاجة إليه. واعتبر الأخباريون أنه ما دام أصحاب الأئمة وفقهاء مدرستهم قد مضوا من دون علم أصول ولم يكونوا بحاجة إليه وما دام الفقهاء من تلامذة الأئمة من أمثال زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم ومحمد بن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم كانوا في غنى عن علم الأصول في فقههم، فلا ضرورة للتورط فيما لم يتورطوا فيه، ولا معنى للقول بتوقف الاستنباط والفقه على علم الأصول.
رابعاً: أثار الدور الذي يلعبه العقل في علم الأصول الأخباريين ضد هذا العلم.
ولعل أبرز المسائل الخلافية بين الجانبين هي: الخلاف على حجية ظواهر الكتاب، والخلاف على حجية الاجماع، والخلاف على حجية دليل العقل، والخلاف على حجية الاستصحاب، والخلاف على حجية البراءة الشرعية.
استمر تطور البحث الأصولي إلى أواخر القرن العاشر هجري حيث كان المثل الأساسي لهذا الاتجاه الحسن بن زين الدين العاملي (توفي 1011هـ) صاحب كتاب «معالم الأصول» الذي أظهر فيه المستوى العالي لعلم الأصول في عصره بتعبير سهل وترتيب جديد مما أضفى على هذا الكتاب مكانة بارزة في الكتب الأصولية لدى الشيعة الإمامية. وفي هذه المرحلة أيضاً برز الشيخ محمد البهائي العاملي(توفي 1031هـ) الذي ألف كتاب «زبدة الأصول»، وهو علم من أعلام الاثني عشرية في القرن الحادي عشر.
ورغم وقوف الأخباريين في وجه الأصوليين في هذه الفترة فإنهم واصلوا مسيرتهم الفكرية وتصدوا للجمود الفكري المتمثل في الحركة الأخبارية الحديثة، فظهر أيضاً لون جديد في البحث الأصولي امتاز بطابع فلسفي أمدّ الفكر الأصولي بطاقة جديدة ممثلاً بالفقيه الأصولي عبد الله التوني (ت1071هـ) صاحب كتاب «الوافية»، والأصولي محمد بن الحسن الشيرواني (ت1098هـ) صاحب «الحاشية على كتاب معالم الأصول»، والسيد حسين الخوانساري (ت1099هـ) مؤلف كتاب «مشارق الشموس في شرح الدروس» وصدر الدين القُمّي (ت1160هـ) الذي شرح كتـاب الوافية للتــوني وهو أستاذ الشيخ محمد باقر بـن محـمد الوحيد البـهبهاني (1118-1206هـ) الذي لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على الاتجاه الأصولي ومقاومة الاتجاه الأخباري وتراجعه.( )
وكان البهبهاني أحد أعلام القرن الثاني عشر في الفكر الأصولي حيث كانت كربلاء نقطة الانبثاق لهذا التيار في معركته مع الأخبارية الحديثة. ولولا البهبهاني لكان الاتجاه الأخباري مسيطراً على البلاد ومنتشراً، على حد قول الشيخ مرتضى الأنصاري.
يقول الشيخ محمد رضا المظفر: «ظهر في كربلاء علم الأعلام الشيخ الوحيد البهبهاني الذي قيل عنه بحق مجدد المذهب على رأس المائة الثالثة عشرة، فإن هذا العالم الجليل كان لبقاً مفوهاً، ومجاهداً خيراً، فقد شنّ على الأخبارية هجوماً عنيفاً بمؤلفاته ومحاججاته الشفوية الحادة مع علمائها.
وقد نقل في بعض فوائده الحائرية ورسائله نماذج منها، وبدروسه القيّمة التي يلقيها على تلامذته الكثيرين الذين التفوا حوله، وعلى يديه كان ابتداء تطور علم الأصول الحديث، وخروجه من جموده الذي ألفه عدة قرون، واتجه التفكير العلمي إلى ناحية جديدة غير مألوفة فانكشفت في عصره النزعة الأخبارية على نفسها ولم تستطع أن تثبت أمام قوة حجته».
ويفسر محمد باقر وحيد البهبهاني أسباب المعركة التي خاضها ضد الأخباريين في كتابه «الفوائد الحائرية» فيقول:
«لما بعد العهد عن الأئمة عليهم السلام وخفيت أمارات الفقه والأدلة على ما كان المقرر عند الفقهاء، والمعهود بينهم بلا خفاء، بانقراضهم، وخلو الديار عنهم إلى أن طمس أكثرهم كما كانت طريقة الأمم السابقة والعادة الجارية في الشرائع الماضية، أنه كلما يبعد العهد عن صاحب الشريعة تخفى أمارات قديمة، وتحدث خيالات جديدة إلى أن تضمحل تلك الشريعة، توهّم متوهّم أن شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن كانوا مجتمعين على الضلالة مبدعين بدعاً كثيرة… مخالفين لطريقة الأئمة، مع غاية قربهم لعهد الأئمة ونهاية جلالتهم، وعدالتهم ومعارفهم في الفقه، والحديث، وتبحرهم وزهدهم وورعهم… فمن، هذا التوهّم اجترأ كل من لا اطلاع له أصلاً بمباني أدلة الفقه وقواعده حتى أدخل نفسه في الفقه وحصّل لنفسه فقهاً جديداً من تركيبة مقدمتين: إن كل من ظن من جهة الأحاديث حكماً، وفهم في نفسه منها أمراً يكون ذلك حجة له، ولا يجوز له تقليد غيره لأنه فقيه».

تفسير الظاهرة الأخبارية
يقول الشيخ مرتضى مطهري أنه ظهر في أوائل القرن الثاني عشر الهجري بين الشيعة «اتجاه كان أشدّ من المذهبين الظاهري والحنبلي سطحية وجموداً، وهو الاتجاه الأخباري، وهو اتجاه يعتبر فاجعة أليمة في عالم التشيّع لم يزل بعض آثارها باقياً حتى الآن ويسبب التوقف والجمود في المجتمع الإسلامي الشيعي». فقد اعترف مؤسس هذا الاتجاه الأسترابادي بدليل واحد من الأدلة الأربعة لاستنباط الأحكام عند الفقهاء، أي أنه أنكر الكتاب والإجماع والعقل كأدلة للأحكام، وقبل بالسنّة فقط.
ويضيف مطهري: «فبالنسبة للكتاب قال: إننا لا يحق لنا أن نرجع إلى القرآن بأنفسنا مباشرة، إذ أن للأئمة المعصومين وحدهم الحق في الرجوع إلى القرآن وتفسيره، أما نحن فعلينا بالرجوع إلى الحديث، وإننا لا يجوز لنا أن نفسّر القرآن أو نؤوّله. ولكننا نستطيع أن نرجع إلى الآيات التي يوجد حديث يبينها، والآية التي لا يفسّرها حديث لا يمكن العمل بها. ولكي يلغي الأسترابادي مصدرية القرآن استعان بموضوع تحريف القرآن. وفي الإجماع قال أنه لا يمكن أن يكون حجة وأنه بدعة ابتدعها إبناء العامة. وبخصوص الدلالة العقلية أورد بحوثاً واستدلالات كثيرة، ولكنه في ما يتعلق بالحديث فقد بالغ مبالغة مسرفة، إذ يقول: إن جميع الأحاديث صحيحية، وعلى الأخص الأحاديث الواردة في (الكافي) وفي (من لا يحضره الفقيه) وفي (التهذيب) وفي (الاستبصار)، فهذه قطعية الصدور عن المعصوم، وينبغي العمل بها. وهاجم العلاّمة الحلّي لأنه كان قد قسّم الأحاديث إلى صحيح وموثوق وحسن وضعيف، حتى أنه في كتابه يهين العلاّمة الحلّي وأتباعه».
لقد أنكر الأسترابادي الاجتهاد مطلقاً، حتى بمعناه المتغيّر الذي قبل به فقهاء الشيعة، وقال أنه بدعة في الدين وأنه لا يجوز لأحد أن يقلّد غير الإمام المعصوم. وألقى الأسترابادي بثقل مخالفته على حجّية العقل، وادّعى أنّ البدع التي أدخلت في الدين مثل جواز الاجتهاد، والعمل بظواهر الآيات واعتبارها حجة، وتقسيم الأخبار إلى ضعيف وغير ضعيف، وجرح الرحال المسندة إليهم الأحاديث، وغير ذلك من أمثالها، إنما حصلت لاعتماد الفقهاء على العقل، مثلما فعل أهل القياس والمتكلمون والفلاسفة والمناطقة، فإذا ثبت أنّ العقل كثير الخطأ في غير المسائل الحسية أو القريبة من الحس (كالرياضيات) فإن الفقهاء لا يتحلقون حول الاجتهاد والعقل. وأورد في هذا المجال أمثلة معقولة يثبت بها عدم حجّية العقل في غير الأمور التي تعتمد الحس أو ما يقرب منها.
ويذكر مطهري أنّ قول الأسترابادي: «إن العقل يمكن أن يكون هادياً ومرشداً في القضايا التي تتعلق بالحكمة الطبيعية ذات المبادئ الحسية، والقضايا التي تتعلق بالحكمة الرياضية ذات المبادئ القريبة من المحسّات، وليس في الحكمة الإلهية». يشبه نظرية الفلاسفة الماديين في أوروبا الذين ظهروا بعد القرن السادس عشر الميلادي، وهذا يتزامن مع زمان الأسترابادي.. ولكن ليس من الواضح إن كان الأسترابادي قد ابتدع هذه النظرية بنفسه أو اقتبسها عن غيره.
ويروي مطهري أنه كان يحضر دروس آية الله البروجردي فسمع منه في معرض نقده الأخباريين، قوله إن ظهور هذه الفكرة بين الأخباريين جاء على إثر موجة الفكر المادي في أوروبا. وأشار إلى: «أنّ الأخباريين لم يخطر لهم أن تلك الفرقة الأوروبية التي اتّبعت هذه النظرية لم يكونوا يعتقدون بأي شيء وراء المحسوسات، ولكن الأخباريين الذين يتبعون الدين الذي ركنه الأول والأساس هو التوحيد، وهو حقيقة عقلية ليست من سنخ المحسوسات، فكيف يمكن إبطال حجّية العقل وإنكارها فيما وراء المحسوسات».
ويعتبر مطهري أنّ ظهور الحركة الأخبارية كان كارثة على حياة الشيعة العلمية والعقلية، فقد التحق كثيرون بالأخباريين، واستهانوا بالعقل والاستدلالات العقلية، وحرموا التفكير في القرآن، وبدلاً من أن يجعلوا القرآن مقياساً للحديث، جعلوا الحديث مقياساً للقرآن. ولكنّه ظهر رجال وشخصيات بين المجتهدين والأصوليين ممن وقفوا سداً في وجه الأخباريين. وعلى رأس الذين حاربوا الأفكار الأخبارية محاربة شديدة يأتي الوحيد البهباني والشيخ مرتضى الأنصاري. ويقول إن الصراع مع الأخباريين كان من أصعب الصراعات، وذلك لأن الطريقة الأخبارية تبدو ظاهرياً شديدة الالتصاق بالحق، الأمر الذي ينخدع به العامة من الناس، ولهذا انتشرت الطريقة بعد الأسترابادي انتشاراً سريعاً ونافذاً. يتظاهر الأخباريون بأنهم يسلّمون تعبدياً بأقوال الإمام المعصوم، وأن كمال الإيمان بقول المعصوم هو ذلك التسليم التعبدي إزاء الحديث بغير أدنى اعتراض. يرى الأخباريون أنهم من أهل التسليم ومن أصحاب قال الباقر وقال الصادق، ويرون أن الآخرين من أهل التساهل والتغاضي عن أقوال الأئمة.
ويرى السيد محمد باقر الصدر أن أبرز بواعث الحملة النفسية التي دفعت الأخباريين وعلى رأسهم المحدّث الأسترابادي إلى مقاومة علم أصول الفقه، وساعدت على نجاح هذه المقاومة نسبياً هي التالية:
1- عدم استيعاب ذهنية الأخباريين لفكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، فقد جعلهم ذلك يتخيّلون أنّ ربط الاستنباط بالعناصر المشتركة والقواعد الأصولية يؤدي إلى الابتعاد عن النصوص الشرعية والتقليل من أهميتها.
2- سبق السنّة تاريخياً إلى البحث الأصولي والتصنيف الموسّع فيه، فقد أكسب هذا علم الأصول إطاراً سنّياً في نظر هؤلاء الثائرين عليه، فأخذوا ينظرون إليه بوصفه نتاجاً للمذهب السني.
3- ومما أكد في ذهن هؤلاء الإطار السنّي لعلم الأصول أن إبن الجنيد-وهو من رواد الاجتهاد وواضعي بذور علم الأصول في الفقه الإمامي-كان يتفق مع أكثر المذاهب الفقهية السنية في القول بالقياس.
4- وساعد على إيمان الأخباريين بالإطار السنّي لعلم الأصول تسرّب اصطلاحات من البحث الأصولي السنّي إلى الأصوليين الإماميين وقبولهم بها بعد تطويرها وإعطائها المدلول الذي يتفق مع وجهة النظر الإمامية.
5- وكان الدور الذي يلعبه العقل في علم الأصول مثيراً آخر للأخباريين على هذا العلم نتيجة لاتجاههم المتطرف ضد العقل.
6- ولعل أنجح الأساليب التي اتخذها المحدث الأسترابادي وأصحابه لإثارة الرأي العام الشيعي ضد علم الأصول هو استغلال حداثة علم الأصول لضربه، فهو علم لم ينشأ في النطاق الإمامي إلا بعد الغيبة، وهذا يعني أنّ أصحاب الأئمة وفقهاء مدرستهم مضوا من دون علم أصول، ولم يكونوا بحاجة إليه. وما دام فقهاء تلامذة الأئمة-من قبيل زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم ومحمد بن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم-كانوا في غنى عن علم الأصول في فقههم، فلا ضرورة للتورط فيما لم يتورطوا فيه، ولا معنى للقول بتوقف الاستنباط والفقه على علم الأصول.
ويرى السيد محمد باقر الصدر أنه قدر للاتجاه الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتخذ من كربلاء نقطة ارتكاز له، وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والأصول نشأت في كربلاء أيضاً على يد رائدها المجدد الكبير محمد باقر البهبهاني المتوفى سنة (1206هـ)، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية والانتصار لعلم الأصول، حتى تضاءل الاتجاه الأخباري ومني بالهزيمة، و قامت هذه المدرسة كذلك بتنمية الفكر العلمي والارتفاع بعلم الأصول إلى مستوى أعلى.

خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط — بقلم: د. هيثم مزاحم* —

Optimized by Optimole