أهمّية التخطيط في بناء الأُمم ’’نموذج الصّين‘‘

أهمّية التخطيط في بناء الأُمم ’’نموذج الصّين‘‘
Spread the love

بقلم: صلاح شعير* — يرمي التخطيط الذي تتّبعه المجتمعات الحديثة في عمليّات التنمية وإدارة الاقتصاد إلى تحقيق الأهداف الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، عن طريق الاستخدام الأمثل للموارِد المُتاحة. فمعظم دول العالَم تستخدم التخطيط في تسيير المجتمع، لكنّ الأدوات المُستخدَمة تختلف من دولة إلى أخرى. وتتجلّى أهمّ مظاهر التباين في مُمارسَة التخطيط في مدى الالتزام بالخُطط. وما زال الإجماع قائماً على أنّ أسلوب التخطيط، ما زال وسيظلّ الأسلوب الأوحد لإدارة الاقتصاد القوميّ لتحقيق التنمية المُستدامة.

في الواقع، يُفترَض أن تسبق التخطيطَ رؤيةٌ عامّة، توسِّس لاستراتيجيّة تنمويّة، تكون بمنزلة الصورة الشاملة التي يرغب المجتمع في الوصول إليها خلال فترة زمنيّة طويلة المدى. وقد لجأت بعض الدول الناهضة إلى إدماج التخطيط المركزي بالمفهوم الجديد للتخطيط المستنِد إلى أساليب متنوّعة، منها اللّامركزية التي تُشارِك بوفقها القريةُ، أو المدينةُ، أو المحافظةُ الوزاراتِ في عمليّة التخطيط، وتوظيفها بحسب آليات السوق، بهدف تحقيق التوازن بين العرض والطلب. كما كانت هناك عودة إلى أسعار السوق لتوجيه القرارات متوسّطة المدى، اعتماداً على المؤشّرات الاقتصادية كسعر رأس المال، والريع والفائدة، وكذلك عنصر العمل، وأسعار السلع والخدمات.

وفي نموذج “الصّين” تُشير الوقائع إلى أنّ التخطيط الاستراتيجي فيها، أدّى إلى تحقيق طفرة اقتصادية هائلة، وذلك بعد مرور ثلاثين عاماً على الخطّة الخمسيّة السادسة، حيث استقرّت نِسب النموّ في الناتج المحلّي الإجمالي عند 9.8%، أو يزيد، ما أهَّل الصّين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالَم بنهاية الربع الثاني من العام 2010. فبعد أن كان الناتج المحلّي في العام 1978 نحو 364 مليار يوان، بلغ في العام1991 نحو 2 تريليون يوان، ووصل في العام 2001 إلى نحو 10 تريليونات يوان، وفي العام2011 إلى نحو47 تريليون يوان؛ وما زال في نموّ مستمرّ حتى بلغ في نهاية العام 2015 نحو 70 تريليون يوان.

تنطلق التنمية الاقتصادية المطّردة في الصّين إذاً من بوّابة التخطيط الاستراتيجي، وبخاصّة في مجال التعليم، والبحث العلمي؛ وهو الأمر الذي أسهم في توليد أنماطٍ تكنولوجية أسهمت في الاكتشافات العلميّة والابتكارات التكنولوجية المهمّة، وبما يؤثِّر بالإيجاب على القدرة التنافسية للصّين، وشكَّلت الحلولُ الجديدةُ العاملَ الرئيس في صناعة النهضة الشاملة.

لقد دعمت عمليّات تطوير تكنولوجيا المعلومات والبرمجيّات الاقتصادَ الصيني بصفة عامّة، وقادت تقنيّات المعلومات والاتّصالات إلى الحدّ من تكلفة رأس المال، وزيادة القيَم المُضافة للمُنتجات الصينية، فضلاً عن الجهود الرامية إلى زيادة إنتاجية المشروعات الصينية عن طريق تطوير رأس المال البشري بالسبل كافّة. وقد تمكَّنت العقول من ثمّة من ابتكار تقنيّات محلّية استُخدمت في إنتاج السلع بتكاليف منخفضة، وبجودة متنوّعة الدرجات، وذلك لكي تتناسب مع الإمكانيّات المختلفة للشرائح المُستهلِكة في كلّ بلد مُستورِد للمُنتجات الصينية. هكذا، تمكّنت السلع من اختراق الأسواق الدولية بسهولة ويسر، ما أدّى إلى زيادة نموّ حركة التجارة لصالح الاقتصاد الوطني.

هذا، وجاء تتويج برامج التخطيط الاستراتيجيّ في مجال البحث العِلمي بإطلاق المركبة الفضائية “شنتشوي” في27 أيلول (سبتمبر)2008، بحيث أصبحت الصّين الدولة الثالثة بعد روسيا، والولايات المتّحدة الأميركية التي تمتلك تقنية خروج رائد فضائي. كما تبلورت في هذا المشروع الضخم والمعقّد والدقيق الجهود المبذولة من قِبل آلاف الوحدات الإنتاجيّة ومئات الآلاف من العاملين التكنولوجّيين، ولاسيّما أنّ عمليّة تصنيع صاروخ حامل للمركّبات الفضائية تطلَّب عشرات الآلاف من قطع الغيار الدقيقة، وذلك في موازاة تصميم أنظمة مختلفة، منها نظام الرائدَين الفضائيَّين، ونظام استخدام الفضاء، ونظام المركبة الفضائية المأهولة، ونظام الصاروخ الحامل، ونظام موقع الإطلاق، ونظام القياس والتحكّم والاتّصالات، ونظام موقع التزوّد، وغيرها.

وقد أسهمت الخطط البيئية في الصّين في حماية البيئة من المخاطر التي تهدّدها. فمنذ أن تحرَّكت الصّين في الدورة الأولى لمؤتمر البيئة، الذي عُقد في السويد تحت رعاية الأُمم المتّحدة منذ العام 1972، لم تتوقّف عن وضْع البرامج البيئيّة موضع التنفيذ وتطبيقها.

على هذا، تحسَّنت الظروف المعيشيّة الخاصّة بالمواطِن الصينيّ، بقدر ما تحسّنت أوضاع النبات والكائنات الحيّة الأخرى. وكان لسياسة التشجير التي مورِست على نطاق واسع أثرٌ فعّال في الحدّ من التلوّث، وامتصاص ثاني أكسيد الكربون، حتّى أصبحت الصّين بفضل هذه السياسة أسرع دولة تنمو فيها الغابات الخشبية في العالَم، وبما يوازي ثلث مساحة الغابات الصناعية في العالَم ككلّ؛ ففي العام 2008، بلغت مساحة الغابات في الصّين نحو 20.54 مليون هيكتار، ونجحت البلاد في تخفيض نسبة الانبعاثات الحرارية، فحتّى العام 2009 كانت الصّين قد خفضت معدّل استهلاك الطاقة بنسبة 13% مقارنةً بالعام 2003، كما تمكّنت الصين من قيادة العالَم في مجالات الطاقة المتجدِّدة من الرياح، والطّاقة الشمسية، وصناعة السيّارة الكهربائية. ويُمكن القول إنّ الصّين، ومن خلال التخطيط، ولاسيّما تخطيط الاقتصاد الصناعي، تعبر نحو الرفاهية. وهو المسلك نفسه الذي برز على الساحة الآسيوية على وجه الخصوص، حيث تمّ التصدّي للاختلالات في هياكل اقتصاديّات تلك الدول ببرامج شتّى، قام الاقتصاد الصناعي بدَورٍ بالغ الأهمّية فيها.

وعلى الرّغم من معاناة الصّين من نقصٍ في بعض المواد الأوّلية والطّاقة، وعلى الرّغم من تزايد حاجاتها إلى هذه المواد بحكم التطوّر الذي تشهده الصناعة، إلّا أنّها لجأت إلى عقد اتّفاقيات مع الدول الأجنبية لتوفير ما يلزمها من متطلّبات صناعية. ويذكر أنّ تقدُّم القطاع الصناعي في الصّين عائدٌ إلى ارتفاع إنتاجية العامل التي توازي خمسة أضعاف إنتاجية العامل الزراعي.

أمّا في المجال الزراعيّ، فقد وُضعَت الخطط لدعم فكرة الأمن الغذائي، ولمدّ الصناعات الأوّلية بالخامات اللّازمة. وفي مجال التجارة، تمّ تحرير التجارة الخارجية، وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي والعمل على إعادة توازن للموازنة العامّة للدولة، وإصلاح النظام الضريبي والتخلّص من المديونية العامّة، ما جعل الاقتصاد الصينيّ جزءاً مهمّاً ومؤثِّراً في الاقتصاد العالَمي.

على صعيد آخر، لعبت السياسة النقدية المُخطَّط لها دَوراً حيويّاً في خضمّ الصراع التجاري مع القوى الاقتصادية الكبرى، ولاسيّما الولايات المتّحدة الأميركية، وألمانيا، واليابان؛ بحيث استطاعت الصّين، وبسبب هذا التخطيط الجيّد على صعيد السياسة النقدية، المُحافَظة على ثبات سعر اليوان الصيني، فبقي مُنخفِضاً في مُواجَهة العملات العالمية القويّة: كالدولار، واليورو، والجنيه الاسترليني، والينّ الياباني، وذلك في مسعى لتشجيع الصادرات الصينية نحو الخارج. وبذلك، تمكّنت الصين من تعزيز القدرة التنافسية لمُنتجاتها الصناعية في الخارج.

من المتوقَّع لهذا النموّ الاقتصادي الذي حقّقته الصّين في السنوات الأخيرة أن يستمرّ لسنوات أخرى، وسوف يتمّ تعزيز التنمية بالتحوّل الجذريّ نحو الاقتصاد المتشابك مع عناصر الإنتاج المحلّية، وبما يؤدي إلى رفع القيمة المُضافة، وزيادة الدخل والاستثمار، ومن ثمّ تحسين مستوى المعيشة، وتراجع أعداد الفقراء في البلاد، ورفع حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي، فضلاً عن التقليل من نِسب الفقر والبطالة والتضخّم، وتوجيهها إلى أدنى مستوياتها.

ونتيجة نجاح التجربة الاقتصادية الصينيّة وتفوّقها، لم يعُد النظام اللّيبرالي الغربي هو النموذج الاقتصادي الأوحد، بعد أن أثبتت التجربة نجاح نماذج دولية مُغايرة، مزجت ما بين ديناميّة اقتصاد السوق، ونظمها السياسية والثقافية الخاصّة، ونجحت في احتلال مكانة متميّزة على خريطة الاقتصاد العالَمي شرقاً وغرباً.

أخيراً، لا بدّ من القول إنّ التخطيط الاقتصادي الجيّد، أسهم عموماً في تقدّم البرازيل في أميركا اللّاتينية، بقدر ما أسهم في نجاح تجربة جنوب أفريقيا الناهِضة. ولعلّ النجاحات المتنوّعة هذه يُفترَض بها أن تحفِّز الدول العربية على دعم مؤسّسات التخطيط الاستراتيجي، بغية مواجَهة المستقبل بأفكارٍ جديدة تعتمد على تطوير الصناعة العربية اعتماداً على الخامات، وعلى تطوير العقول المحلّية، وحلّ مشكلة الغذاء بأسلوب مُبتكَر، ودعم البحوث العلمية، ناهيك بضرورة التخطيط من أجل تسويق السياحة العربيّة.

*كاتب وباحث اقتصادي من مصر

المصدر: نشرة أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي

Optimized by Optimole