حين يحكم التافهون والفاسدون

Spread the love

 

 

شجون عربية _ بقلم  الكاتب اللبناني: توفيق شومان

من يسمع ب “هيروستراتوس “؟
ربما قلة تسمع به ، أو ، ربما قلة أخرى وصلتها أخبار هذا الرجل الإغريقي ، فلأجل أن يخلده التاريخ ، أحرق أهم معابد اليونان ، وبات إسمه مقرونا بحرق إحدى العجائب السبع في العالم القديم .
مقارنة بالواقع اللبناني ، وهو إذ يذهب إلى مصيره المحتوم ، انهيارا ودمارا ، يبرز إلى واجهة الأسئلة التاريخية واحد قد يجادل حوله المؤرخون وعلماء السياسة : كم “هيروستراتوس ” أحرق لبنان ودمره ؟
الإجابة بطبيعة الحال ، تبقى في علم الغيب ، وقد تخضع لتأويلات المجتهدين واجتهادات المتأولين ، إلا أن ثمة كثيرين يرزحون منذ الآن تحت وطأة تعريف هوية السياسة التي مورست بحق اللبنانيين وأوقفتهم على حافة الجوع وتدفع بهم نحو المجاعة .
هي سياسة التفاهة !!!

لا تعريف لأفعال السياسة المتبعة في لبنان ، سوى التفاهة ، كيف ذلك؟
واحد من أهم الكتب الصادرة في السنوات القليلة الفائتة ، عنوانه ” نظام التفاهة ـ la mediocratie ” وضعه آلان دونوalain deneault ، أستاذ الفلسفة في جامعة كيبك الكندية ، ولو جرت عملية إسقاط ما جاء في الكتاب على الواقع اللبناني ، لذهب القول إلى القول بأن هذا الكتاب يشرح بإسهاب وإطالة أحوال النكبات اللبنانية وأهوالها الراهنة .
في نظام التفاهة ، يصار إلى اعتماد لغة لا معنى لها ، صالحة لكل زمان ومكان ، هي تقول كل شيء ولكنها لا تقول شيئا ، لغة عامة ومفتوحة على شتات المعاني وتشتتها ، ولا غاية لها سوى استثارة عواطف المناصرين وإتهام الخصوم ومن دون ان تقدم لهم حلولا ، وهذه اللغة تعتمد التبسيط المدقع الذي يغتال الحقائق من خلال نقاش القضايا الكبرى بتبسيطها وتسطيحها وإفقادها لأهميتها ، بحيث يكون مدخل هدم الحقائق اعتماد مقدمات خاطئة ومعطيات مشكوك بصحتها ، وتستهدف الوصول إلى نتائج ترضي القائل وفي الوقت نفسه تقنع الجمهور بحقائق مشوهة أو لا أساس لها .
هل يعمل أهل السياسة التافهة أم لا يعملون ؟
يبذل أهل السياسة التافهة مجهودات ضخمة ، إنما على أفعال لا قيمة لها ولا تبتغي سوى التزخرف والمبالغة والتبهرج ، والغاية من ذلك إبهار العين وإحلال النظر مكان العقل ، وهذه الأساليب مهمتها إملاء الفراغ بإشغال البصر بظواهر الأشياء بعيدا عن الأفعال الجدية والإنتاجية .

ومن أمثلة ذلك ، تركيز أهل سياسة التفاهة على اجتماعات تتلوها اجتماعات ، وعلى لقاءات تعقبها لقاءات ، وعلى استقبالات وفود تأتي وتغادر، وكل ذلك بهدف الإيحاء بأفعال ذات قيمة ، ولكن التدقيق بما مر في مظاهر الصور والمشاهد ، لا يقدم شيئا له معنى وجودة ، بل إن حصيلة الأشياء لا تخرج عن غاية تكبير صغائر الأفعال وتضخيمها ، تماما مثلما جاء في بيت الشعر المشهور لشاعر العرب الأكبر ، أبو طيب المتنبي ، إذ يقول :
وتكبر في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم .
وعلى هذا المعنى ، تتقدم في سياسة التفاهة المبالغة في التفاصيل على غيرها ، ففي هذه السياسة كل فعل يفعله أهل السياسة هام ، وكل عمل يقومون به ذات قيمة عليا ورفيعة ، وكل اجتماع يعقدونه بليغ المحتوى والمضمون ، وكل مناسبة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو فنية يظهرون فيها، عظيمة الشأن والمكانة ، وكل قول يخرجونه إلى الناس جليل القدر والأهمية ، وحين تتم مساءلة هؤلاء عما فعلوه وأنجزوه يهبط الجواب سريعا بأنهم اجتمعوا وتجالسوا واستقبلوا !!.
عن مثل هذا النوع من السياسيين ، يقول موريس تاليران Maurice de Talleyrand وزير خارجية نابوليون بونابرت ” إن كل ما يُبالغ فيه بشكل غير عادي هو أمر بلا أهمية ” ، وعلى هذا المذهب في نبذ سياسة التفاهة يذهب نزار قباني في نقد أحوال العرب الحاليين ووقوفهم عند جادة القول وعدم اقترابهم من طريق الفعل ، فيقول :

أنا منذ خمسين عاما

أراقب حال العرب

وهم يرعدون ولا يمطرون

وهم يعلكون جلود البلاغة علكا

ولا يهضمون.

هل يوجد خبراء في نظام التفاهة ؟

يكثر ” الخبراء ” في نظام التفاهة ، إلا أنهم خبراء يمثلون السلطة أو المؤسسة التي يتبعونها أو يعملون في كنفها ، وظهورهم في شفاهة التحليل أو في نصوصه ، يرتبط  بالترويج لمن يمثلونه وبالإلتزام بأهدافهم ،  والخبير في نظام التفاهة ينتج أفكارا مقابل مكافآت ، أي أن المصلحة الفردية تتغلب على طابع ما يقول أو ما يحلل أو ما يكتب ، الأمر الذي يُخرجه من أهلية الصفة التي يحملها ، ويضعه في مصاف المنخرطين  في خطاب التبرير الذي يجرد أقواله من دقة المعنى وسلامة الغاية.

والملاحظة  التي تستدعي الوقوف عندها ، تكمن في المعادلة  التالية : كلما مارست الطبقة النافذة تفاهتها وفسادها ، وشاعت وتفشت أفاعيلها جراء ذلك ، يصبح ظهور ” الخبراء ” المحسوببن عليها كثيفا في المشهد الإعلامي وفي مواقع التأثير المختلفة ، إنهم يتحولون إلى أطواق نجاة  لإنقاذها وإخفاء عورات ألاعيبها وأساليبها وشرور أفعالها .

هو مسعى الكسب  ، أو مرض المال الذي يتحول معه ” الخبير ” في ظل نظام التفاهة إلى ” خوارزمي ” لا يعمل عقله إلا بإتجاه واحد :  الدفاع عن مصالح الذات تمر عبر الدفاع  عن مصالح الأسياد ، وهذه المعادلة تختزل قاع الهبوط إلى نظام التفاهة ، حيث يتحول المال إلى قيمة عليا  دون غيرها ، تهزم أنظمة القيم الأخرى ، الإنسانية والأخلاقية  والعلمية ، وما يوازيها من  موازين الأخلاق والجدارة والكفاءة .

هل جاءكم حديث القيم ؟

وما موقعه في نظام التفاهة ؟

في نظام التفاهة الذي ينتج سياسة تافهة ،  تغيب القيم وتتوارى ، ويتحول النشاط العام إلى مجرد حسابات مصالح قائمة على الربح والخسارة ، ربح المال أو خسارته ، صيانة النفوذ أو خسارته ،  حماية الموقع أو التفريط به ، وفي ظل هذه المعادلة يتحول الربح إلى غاية بحد ذاتها ، بصرف النظر عن آلياته المشروعة من عدمها ، وبما أن النجاح والإرتقاء يتطلبان جهدا وتعبا ، فإن  غياب القيم يفتح الباب واسعا أمام  طالبي الوصول السريع  الذين يعتمدون معايير مخالفة للكد والجهد والكفاءة ، وهؤلاء سرعان ما يرتقون إلى الأعلى ، وفي المقابل ، يهبط الكفوؤن إلى الأدنى  او يخرجون من مساحة الضوء ، ولكن كثرة من أصحاب الجدارة  يأخذهم تفشي انعدام القيم إلى التجرد من القيم بعدما يضرب وباء التفاهة الجسد العام ، وبذلك تصبح التفاهة قاعدة للترفيع في الوظائف والإدارات العامة والمواقع الهامة ، وفي الأسواق وفي المتاجر وفي  المدارس وفي الجامعات ، ويحدث ذلك بسرعة قياسية مثل قانون الجاذبية الذي يشد إلى الأدنى كل من وما يقف في طريقه .

هو تدمير شامل لمختلف منظومات القيم وأنظمتها

هو كل البلاء

ولكن  ما هو أصل البلاء؟

أصل البلاء في السياسة وفي السلطة السياسية ، لماذا وكيف ؟

في نظام التفاهة ، تتحول السياسة إلى ” لعبة ” ، لا قواعد مكتوبة لها (ولا دستور) ،  صحيح أن اللاعبين الكبار في سياسة التفاهة  يحافظون على القوانين الرسمية وعلى المكتوب من القواعد ، إنما لمواجهة خصومهم ومحاربتهم ، وأما هم ، فيتيحون لأنفسهم حق امتلاك  سلطة التفسير الإعتباطية  لقواعد اللعبة ، تعتمد في الغالب على النمط الصراعي والشرس .

هنا يسأل السائلون : أي قواعد للممارسة السياسة في لبنان ؟

أي دستور لقواعد الحكم والنظام ؟

في المعنى العام ، بدأ الإنهيار المالي والإقتصادي في البلاد عام 2016، حين تم اعتماد الهندسات المالية ، ومحورها قيام المصرف المركزي  بتزويد القطاع المصرفي الخاص بمليارات عدة من الدولارات ، للحؤول دون انهياره او لتأجيل انهياره ، ومذذاك  حتى الآن ، لم يجر على أرض الواقع  فعل منقذ ولا عمل إنقاذي ، ولا ريب أن اللبنانيين أجمعون ، رأوا طوال السنوات الخمس الماضية ، اجتماعات واجتماعات ، وقرأوا بيانات وبيانات ، وسمعوا تصريحات وتصريحات ، ملؤها  كلمات رنانة وألفاظ طنانة ومفردات من الوزن الأثقل من الثقيل ، وها هم يسألون  بعدما أدركهم الجوع وذاقوا ذل البحث عن وعاء زيت او علبة حليب : أين الأفعال ؟

سبق القول ، إنه في نظام التفاهة  تعلو الأقوال على الأفعال ، والبهرجة على الجودة ، والتجمل على الجمال ، والتبرير على الخبرة ،  والتفاصيل التافهة على الأعمال الرائدة ، ولكن سقوط القيم أخطر ما ينتجه نظام التفاهة .

سقطت القيم … استحكم نظام التفاهة … جاع اللبنانيون

مواسم الجوع ستطول يا سادة

Optimized by Optimole