ترامب وإيران بين “فن الصفقات” وأهوال الحرب

"صفقة القرن" ومؤتمر البحرين
Spread the love

بقلم: د.طارق عبود* —

“طريقتي في التعامل بسيطة‏. ‏أحدّد أهدافًا كبيرة جدًا، ثم أحاول جاهدًا تحقيق ذلك‏.‏ أحيانًا أرضى بأقل ممّا أصبو إليه‏، ولكنني في غالب الأمر أحقق ما أريد” هذه الكلمات من كتاب “فن الصفقة‏” لدونالد ترامب‏، الذي كتبه الصحفي توني شوارتز، والذي استهله بالقول‏:‏ لا أنجز الصفقات حبًّا في المال، بل إني أنجزها حبًّا في انجازها.
قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة بأسبوع، هدّد الكاتب النيجيري “وول سوينكا”، الحاصل على جائزة نوبل للآداب (1986)، بتمزيق البطاقة الخضراء التي تخوله دخول الولايات المتحدة. وقبل يومين من حفلة تنصيب ترامب رئيسًا، قال سوينكا إنه قام بتمزيقها بالفعل. وقد صرَّح، معلقًا على إعلان الرئيس الأميركي الجديد عن نيته إقامة جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك لمنع الهجرة، قائلاً: “إن جدرانًا تبنى الآن في العقول. لقد أعلى ترامب جدرانًا لا في عقول الأميركيين فقط بل عبر الكرة الأرضية.” ومع صحة هذا الكلام، لكن دونالد ترامب قد لا يكون مختلفًا عن غيره إلا في طريقة تظهير موقف الإدارة الأميركية، تعلق على ذلك الكاتبة توني موريسون الحائزة جائزة نوبل للآداب 1993 “إنّ صعود ترامب له جذور واقعية في المجتمع وفي السياسة والثقافة الأميركية”.
سلوك الصفقات
ينظر ترامب إلى العمل السياسي كمجموعـة مـن الصفقات المتتالية، قصيرة المدى، متعـددة المجـالات، يحكم كل منها منطق المكسب والخسارة، وتستقر العلاقات أو تتقلّب حسب تقويمه لكل صفقة، وبالتالي قد تكون العلاقات جيدة اليوم مع أحدهم، وتنقلب إلى سئة غدًا. و”صفقة القرن” خير دليل على كيفية مقاربته أكثر المسائل تعقيدًا في العالم اليوم، وهي القضية الفلسطينية. وتتحول مسألة الصفقات احيانًا إلى “مبدأ” يسـتند إلـى نظريـة وتطبيق، ويرتبـط ذلك بغير سبب: الأول، أنّ دونالد ترامب اليوم هو رئيس الولايات المتحدة، وهي قوة دولية شديدة الأهمية والخطورة والإمكانيات، أيًّا كان ما يقال حول التراجع الأميركي، او التخفف من الأحمال، ولا سيما في الشرق الأوسط، فوفقـًا لعبـارات شائعة في ذهن السياسيين في العالم اليوم، فإنّ الولايات المتحدة هي “الدولة التي يمكن أن تكون أكثر داعميك، وهي في الوقت نفسه أكثر الدول خطورة عليك”، فـي حالة تحّول التوجهات أو تغير الإدارات. كما أنها “الدولة التي تـؤدي أية أخطاء ترتكبها إلـى كوارث استراتيجية، يصعـب احتـواء تأثيراتهـا”، كمـا حـدث عندمـا قـرر المحافظون الجدد غـزو العـراق في العـام 2003، لا لسـبب إلا ” لشعورهم بفائض القوة، وأنهم يستطيعون فعـل ذلك”. في هذا السياق يقول ريتشارد هاس الديبلوماسي المخضرم عن الرئيس الاميركي “إنّ ترامب يتبّع “ديبلوماسية الثيران” فهو يحطّم حلفاءه، ويدوس عليهم الواحد تلو الآخر، ثم يمشي على جثثهم من أجل تحقيق مصالحه” .
والثاني، أنّ العالم قد تعلّم درسًا قاسيًا منذ صدور نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة، في العام 2016، وهو عدم الركون إلى أيّ توقعات تتعلق بدونالد ترامب، كرجل أعمال، ومتعهّد حفلات للمصارعة الحرة، ومهرّج، يمتلك قاذفات استراتيجية نووية وحاملات طائرات، وصواريخ توماهوك. فالأجدى بالتحليل أن يتعاطى مع حالة ترامب على مبدأ السيناريوهات، وليس اليقين.
تكمن مشكلة الرئيس الأميركي حاليًا انها مع الإيرانيين تختلف عنها مع كوريا الشمالية، وحتى مع روسيا والصين، فهل استطاع ترامب إخضاع كيم والصين حتى يستخدم أسلوب “الدفع إلى حافة الهاوية” ثم جلب الخصم مرغمًا على طاولة المفاوضات؟ لقد تبيّن للعالم انّ ترامب مستعد أن يذهب إلى أمداء بعيدة في سلوك الحصار، وتضييق الخناق على خصومه، ورفع الصوت، والتهديد بالضغط على المفتاح النووي، ولكن عند الاقتراب من لحظة الصدام الحقيقية، نراه يتراجع أمام من يقف في وجهه، ويبدأ بالبحث والتفتيش عن حلول وتسويات وعبارات تحفظ ماء وجهه. ولم نشهد له أي انتصار على خصومه منذ وصوله إلى البيت الأبيض. حتى في فنزويلا فإنّ كل ما سوّقه له جون بولتون لم يؤتِ أكله، وأخفق إخفاقًا واضحًا، وأصبح خوان غوايدو عبئًا عليه وعلى المعارضة في فنزويلا. ولكنّ أزمة ترامب تتضاعف مع القيادة الإيرانية التي “لُدِغت من جحر” الأميركيين، من وقت قريب جدًا، وهي لم تثق بهم اساسًا، وأنّ كل خطاب الإصلاحيين الذي كان يدعو إلى المفاوضات، أودى به ترامب إلى الهلاك. فوضع المرشد الأعلى السيد الخامنائي نظرية “لا تفاوض ولا حرب”. لذلك فإنّ سلوك الصفقة معها حظوظه قليلة جدًا.

رجال ترامب مجانين
نادرًا ما تنتهي الحروب كما يتوقع من يبدأها، وأثبتت هذه الفكرة صحتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة في كوريا وفييتنام وأفغانستان والعراق. كما مع “إسرائيل” في اجتياح لبنان في العام 1982. ومع السعودية في حرب اليمن. تدفع مجموعة الteam B كما سماها الدكتور ظريف ترامب إلى الحرب مع إيران، مع عدم رغبته بالوصول إلى هذه اللحظة، ولكن هذا الضغط المتواصل من غير المعلوم إذا كان ترامب سيواجهه لوقت طويل، وقد يؤدي أي سوء تفاهم الى إشتعال المنطقة. في حلقة نقاش حول صنع القرارات الخارجية الأميركية في عهد ترامب، جـرت في فبراير 2017، سـاد تقويم لرجال ترامـب، بأنهم متطرفون متعصبون، ووصفهم البعض بأنهم “أشباه مجانين”. ولكنّ المعضلة تكمن في أنّ من اتُهِموا وقتها بالجنون قبل إقالتهم أواستقالتهم(ستيف بانون، اتش آر ماكماستر، جيمس ماتيس”الكلب المسعور”، وريكس تيلرسون) هم أصحاب عقل راجح وحمائم، مقارنةً بمايك بينيس ومايك بومبيو، وجون بولتون الذي دعا في العام 2015 إلى قصف إيران مباشرة، وكتب في صحيفة New York Times أنه “لا يمكن تحقيق المطلوب إلا من خلال العمل العسكري فقط، كما فعلت “إسرائيل” في العام 1981 على المفاعل النووي في العراق أو تدمير المفاعل السوري في العام 2007 الذي قيل أنه من تصميم كوريا الشمالية”. وعلى غرار ما حدث في العراق، يفضل بولتون بشكل واضح تغيير النظام في إيران، حيث قال في مقالة بصحيفة “وول ستريت جورنال” في يناير/ كانون الثاني من العام 2018: “سياسة أميركا المعلنة يجب أن تنهي الثورة الإسلامية الإيرانية قبل الذكرى الأربعين لتأسيسها”.

عن احتمالات الحرب بين إيران والولايات المتحدة
تعيش المنطقة حالة غليان كبيرة، ولا سيما بعد المنحى الذي اتخذه الرئيس ترامب في مواجهة إيران منذ انتخابه، وبقناعة منه أو بتأثير من اللوبي الصهيوني في أميركا، وكذلك من السعودية وإسرائيل، بغضّ النظر عن أسباب هذا السلوك، وصلت المنطقة إلى هذه المرحلة من التصعيد، ومن الحصار على إيران، وانتهت سنة “الصبر الإستراتيجي” الذي سلكه الإيرانيون، فما هي أمكانيات اندلاع حرب طاحنة؟ وهل تحتمل المنطقة حربًا أخرى، بعدما أوغل الاميركيون سكينهم في جسدها منذ عقود طويلة؟
يقول بروس ريدل في حلقة حوارية أقامها معهد بروكينغز، العام الماضي إن حوالي 8 بالمائة من جميع وفيات المعارك العالمية وقعت في الشرق الأوسط. وفي السنوات الخمس الماضية، نمت إلى 70 % في المائة. وبعبارة أكثر وضوحًا، إذا قمتَ بتضمين أفغانستان وقوسًا أوسع من عدم الاستقرار، فإنّ 95% من جميع وفيات المعارك العالمية على مدى السنوات الخمس الماضية كانت في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. تسمع الحديث عن تصاعد عالمي للعنف والصراع – هذا ليس صحيحًا. الصراع في تدهور(انخفاض) في كل منطقة من العالم باستثناء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الهدف الواضح من الحرب الأميركية هو إسقاط النظام في طهران، كما صرّح جون بولتون، واستبداله بنظام موالٍ لها، وأشار خبراء إقتصاديون وعسكريون مؤخرًا أنّ كلفة الحرب على إيران هي حوالي أربعة آلاف مليار دولار، وقدّر خبراء روس حاجة واشنطن إلى ثلاثمئة ألف جندي، وألف طائرة حربية لخوض هذه الحرب، في حين أنّ احتلال العراق احتاج الى مئة وخمسين ألف جندي أميركي، وعشرات الآلاف من دول حليفة، وتجاوزت كلفتها في البداية ثمانمئة مليار دولار، ووصلت حسب ما قاله ترامب غير مرة الى ما بين ستة وسبعة الاف مليار دولار. ويقول الخبراء ان كلفة الحرب على إيران ستكون مضاعفة عن حربي العراق وأفغانستان بما لا يقل عن ثلاثة إلى خمسة اضعاف الحروب السابقة.
نستشهد بهذا الكلام لمحاولة قراءة ما يمكن أن يدور في عقل ترامب وإدارته، فإذا كانت حملة الرئيس الأميركي الانتخابية السابقة، قامت على عوامل عديدة أهمها، الهروب من مستنقع الشرق الأوسط، والتخفف من الأحمال، إضافة إلى تدفيع دول الخليج ثمن كلفة الحماية التي تؤمنها لهم واشنطن، وحذف مشهد النعوش العائدة بجنود الجيش الأميركي إلى الوطن من ذاكرة الأميركيين. وإذا علمنا أنّ السنة القادمة ستشهد انتخابات رئاسية في أميركا، فلا يمكن – لعاقل- ان يخوض حربًا مدمرة غير مضمونة النتائج بتاتًا، ومع خصم عنيد وامبراطورية سابقة. وإذا كانت بعض الظروف خدمته للإفلات من اتهام الروس بالتدخل في الانتخابات الرئاسية، فإنّ نهايته السياسية ستكون نتيجة هذه الحرب. وترامب أذكى من يقامر في أمر بالغ الخطورة كهذا، حتى لو اضطر إلى أقالة جون بولتون.
نعود لاحتمالات التصعيد. إذا أقمنا مقارنة سريعة لظروف الحرب على العراق في العام 2003 وما يحكى عن حرب اليوم، نرى أنّ وضع العراق من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية، والتفاف الشعب حول النظام كان كارثيًا لخوض أي مواجهة مع دولة إقليمية بإمكانيات عسكرية عادية، فكيف بإمكانات الولايات المتحدة الخرافية؟ وكان النظام العالمي الجديد في أوجه، إضافة إلى الدفع الذي شكلّه اعتداء مانهاتن في الحادي عشر من ايلول، ومزايدة الغرب وأوروبا في نزع سلاح الدمار الشامل من أيدي النظام العراقي، والغياب الكامل لروسيا عن الساحة الدولية، وعزوف الصين عن التدخل وحتى إبداء الرأي، وانشغالها بتنمية اقتصادها. وكانت حاجة الإدارة الأميركية إلى حرب مع ايٍّ كان لفرض رؤية وهيبة المحافظين الجدد في البيت الأبيض والبنتاغون لفتح الطريق إلى تنفيذ مشروعهم الكبير في المنطقة. صبّت كل هذه العوامل في صالحهم، إضافة إلى ضعف الخصم وإنهاكه منذ العام 1991، ومعرفة نقاط ضعفه كلها، عبر الرحلات المكوكية للمفتشين الدوليين الذين حصلوا على كل ما يريده الأميركيون من تفاصيل بنية الجيش العراقي وإمكاناته. وباستطاعتنا القول أيضًا ان العراق في زمن صدام حسين كان معزولًا إقليميًا ودوليًا، وليس لديه لا حلفاء ولا مناصرين في المنطقة كلها، والعنصر الأكثر أهمية تمثّل في أنّ الرئيس العراقي صدام حسين، وإلى ما بعد بداية الحرب على العراق، كان يأمل بأن تتم تسوية أوضاعه، وتتراجع الولايات المتحدة عن الحرب. أي أنه كان ينتظر صفقة أو تسوية.
أما في الحالة الإيرانية فالموضوع مختلف تمامًا، فإيران اليوم قوة إقليمية معتدّ بها، ولديها جيش كبير، وتمتلك من السلاح والصواريخ الباليستية، والقوة البحرية والبرية والجوية ، ما لا يقارن بأي دولة إقليمية، إضافة إلى المساحة الهائلة لإيران، ناهيك عن العقيدة القتالية للجيش الإيراني والحرس الثوري والباسيج، والعنصر الوازن في المعادلة هو ثقافة الشعب الإيراني السياسية، ووعيه لمخاطر أي غزو أجنبي لبلاده. يضاف الى ذلك منظومة قيادة سياسية وديبلوماسية متماسكة أثبتت نجاعتها وحكمتها في مواجهة الظروف والأخطار. يضاف الى ما تقدّم أنّ الإيرانيين ومعهم محور المقاومة أذاقوا الاميركيين طعم الهزيمة في محطتين مفصليتين، الأولى عند هزيمتهم بعد احتلال العراق وافغانستان، والثانية عند إفشالهم لمشروع تقسيم المنطقة بعد “الفوضى الخلاقة” بعد العام 2011، أضف إلى ما انجزه أنصار الله، حلفاء إيران في اليمن بعد حوالي خمس سنوات من الحرب السعودية الإماراتية الأميركية على اليمن.
أهوال الحرب وجنون رعاة البقر
هل لأحد أن يُعمِلَ مخيلته ليتصوّر مشهد الحرب إذا حصلت؟ بدءًا من إيران ومئات الاف الصواريخ المنهمرة في الساعات الأولى منها وعليها، إلى مياه الخليج التي تعج بالقطع البحرية وبحاملات الطائرات والنفط، إلى السعودية والإمارات، والقواعد الأميركية في منطقة الخليج، وصولًا إلى قواعدهم في العراق وسوريا، ناهيك عن الجبهة مع إسرائيل.
إذا كانت الرؤوس الحامية لصقور المحافظين الجدد في واشنطن في العام 2003 دفعت بالجيش الاميركي إلى احتلال العراق، ودفع تلك الكلفة الاقتصادية الهائلة، وأكثر من خمسة الاف قتيل، وعشرات الآف الجرحى والمعوقين جسديًا ونفسيًا، نتج عنها هزيمة لا لَبس فيها للجيش الاميركي وللمؤسسة السياسية، وكان دور إيران محصورًا فقط بـ”دعم” المقاومة العراقية والأفغانية، فإنّ ما سيجنيه الأميركيون من حربهم على إيران ستكون مقارنته بما حصل في العراق وافغانستان من باب الهزل والتهريج، سيما انّ الهدف معروف وواضح، وهو محو النظام الاسلامي في ايران عن الخارطة.
في كتابه “سعادة السفير” في العام 2013 يقول رئيس الديبلوماسية الإيرانية ومهندس الإتفاق النووي محمد جواد ظريف:”في الديبلوماسية، عليك أن تبتسم دائمًا، ولكن عليك ألا تنسى أبدًا أنك تتحدث مع عدو” في مرحلة ما، كانت جمعت إيران بين “ابتسامة” ظريف، وبين “عبوس” سليماني، ولكن اليوم يبدو أنّ على إيران أن تغيّب ابتسامة ظريف، لأنّ ترامب لا يفهم سوى لغة سليماني.
ذات يوم قال داهية السياسة الخارجية الاميركية هنري كيسينجر عن لبنان أنه “الفائض الجغرافي” هذا “الفائض الجغرافي” حدا برئيس الديبلوماسية الأميركية جورج شولتز يوم تفجير مقر المارينز في بيروت من العام 1983 أن يقول “بيروت هي الطاعون” ،فإنّ طهران إذا ما اخطأ ترامب الحساب، قد تكون “عزرائيل” الذي سيتكفّل بما تبقى من نفوذ للولايات المتحدة في المنطقة.

*كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية

Optimized by Optimole