ماليزيا: كيف أصبحت دولة مسلمة نموذجاً للتنمية والتحديث؟

ماليزيا: كيف أصبحت دولة مسلمة نموذجاً للتنمية والتحديث؟
Spread the love

المصدر:- رصيف 22

محمد يسري

لا شك في أن العديد من دول العالم الفقيرة والنامية، قد حاولت منذ أمد بعيد أن تلحق بركب التحضر والتقدم، ذلك الذي يقوده الغرب بشقيه الأطلسيين الأميركي والأوروبي الغربي.
ماليزيا، تلك الدولة الصغيرة التي لا تتعد مساحتها 330 كيلومتر مربع، والواقعة في قلب جنوب شرق القارة الأسيوية، كانت واحدة من تلك الدول التي أستطاعت أن تقدم نموذجاً مبهراً للكيفية التي يمكن بواسطتها أن تتحول دولة فقيرة من العالم الثالث لتصبح واحدة من أهم مراكز التصنيع والتنمية الاقتصادية في العالم كله.
في هذا المقال، نستعرض عدد من ملامح التجربة الماليزية، ودور رئيس الوزراء الماليزي الأشهر مهاتير محمد فيها، وأهم العوائق التي كان من الممكن أن تمنع من استكمال تلك التجربة.

ما بعد الاستقلال
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تبدلت سياسة التاج البريطاني تجاه المستعمرات الإنجليزية في شتى أنحاء العالم.
في هذا السياق تم الإعلان عن استقلال ماليزيا في عام 1957م، وتم حكم تلك الدولة عبر نظام ملكي دستوري، حيث كان الملك يملك ولا يحكم، بينما يقوم رئيس الوزراء، والذي عادة ما يكون رئيس الحزب صاحب العدد الأكبر من النواب في البرلمان، بإدارة البلاد وتولي الحكم بها.
في الفترة الأولى التي أعقبت استقلال ماليزيا، عانت البلاد من تبعات ما بعد الاستعمار، والتي تمثلت في المعاناة الاقتصادية التي طالت معظم أفراد الشعب، وسوء توزيع الثروة ما بين أفراده.
حيث كان الاستعمار الإنجليزي قد عمل منذ فترة مبكرة من وصوله لماليزيا، على استقدام العمالة الصينية والهندية إليها، وهو ما أدى مع مرور الوقت، لظهور مشكلة عرقية، لأن أغلب الثروات تركزت في يد الصينيين الذين كانوا أكثر خبرة ومهارة، وعانى الملايو وهم أصحاب الأرض الأصليين من التهميش والفقر، رغم أن نسبة الملايو المسلمين في البلاد تزيد عن ال 65%، بينما تقل نسبة الصينيين عن 26%.
في عام 1969م، وقعت مظاهرات كبرى في شتى مقاطعات ماليزيا، للمطالبة بحصول الملايو على حقوقهم، وهو الأمر الذي استجابت له الحكومة بإقرارها مجموعة من القوانين والتنظيمات، التي عرفت وقتها بسياسة تمكين المالاي.

مهاتير محمد: أبو التحديث
في العاشر من يوليو عام 1925م، ولد مهاتير محمد لأسرة مالايوية مسلمة متوسطة الحال.
درس مهاتير الطب، وابتدأ نشاطه السياسي بانضمامه للحزب الحاكم (أمنو)، وذاع صيته بعدما قام بتأليف كتاب (معضلة المالاي)، والذي استعرض فيه مشكلة المالايو المسلمين، والتي كانت مظاهراتهم الغاضبة تملأ الشوارع في ذلك الوقت.
وبعد أن تم منع تداول الكتاب، حظي مهاتير بشهرة كبيرة، وتم انتخابه عضواً في البرلمان الماليزي، ثم اختير وزيراً للتعليم، قبل أن يتمكن من الوصول لمنصب رئيس الوزراء في عام 1981م، لتبدأ رحلة التحديث الماليزية.
في كتابه (طبيب في رئاسة الوزراء)، يشرح مهاتير محمد أسس النظام الإداري الذي انتهجته الدولة الماليزية في عهده، فيقول
(يجب أن تكون لديك إدارة جيدة وأن تواجه الفساد، وحتى تمنع الفساد يمكن أن تضع بعض القوانين الصارمة، ولكن الأهم من ذلك هو تطوير نظام إداري يكون واضحاً جداً، بحيث يتم تحديد مجموعة الإجراءات التي يجب اتخاذها لتنفيذ أي عمل، والزمن الذي يستغرقه ذلك، وصلاحيات الموظفين، فإذا لم يقم الموظف بما حُدد له بدقة وضمن الزمن المحدد، فيستنتج أنه فاسد، وبالتالي سيحاسب ويُتخذ الإجراء اللازم بحقه).
وإذا كانت الإدارة الحازمة هي الطريقة التي أنتهجها مهاتير للوصول إلى مشروعه التحديثي، فإنه في الوقت ذاته، كان قد وضع نصب عينيه أسس ثلاثة لعملية التنمية، تلك الأسس بحسب ما جاء في كتابه، تتمثل في إزالة العقبات أمام الاستثمارات الأجنبية، والاعتماد على الموارد الذاتية لماليزيا ورفض الاقتراض الخارجي، وتوفير التعليم الجيد للمواطنين.
في كتابه التجربة الماليزية يرصد محمد صادق إسماعيل الخطوات التي بدأ مهاتير محمد في العمل عليها للوصول إلى هدفه وحلمه، حيث يؤكد أن أولى تلك الخطوات كانت تشجيع التصنيع والتصدير، حيث رفضت الحكومة أن تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية التي تشبع حالة السوق المحلية، كما تم التركيز على الاستثمار في سوق الصناعات الإلكترونية، لكونها كثيفة العمالة، مما ترتب عليه تخفيض معدلات البطالة من جهة وتقليل الفوارق في الأجور والثروة بين مختلف فئات المجتمع الماليزي، حتى قلت نسبة الفقر من 71% في مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى ما يقرب من 1% في الوقت الحالي.
التغير الذي طرأ على المجتمع الماليزي، أدى لتحوله من مجتمع زراعي يقوم على بيع المواد الزراعية الخام، إلى مجتمع صناعي تحويلي، وهو ما نتج عنه بالتبعية أن الكثير من الماليزيين الذين كانوا يعيشون في الريف قد تركوا قراهم، وانتقلوا للإقامة في المدن، وهو الأمر الذي ساعد في تحديث المجتمع.
سياسات مهاتير محمد الداعمة للاعتماد على الموارد الذاتية، تجلت في رفضه للإملاءات البنك الدولي، واتجاهه لإشراك الشعب الماليزي في المشاريع الكبرى.
فبحسب ما يذكره محمد صادق إسماعيل في كتابه، فإن الحكومة الماليزية مضت قدماً في سياسة الخصخصة المحسوبة، بحيث أشترك المالاي في امتلاك المؤسسات الكبرى في بلدهم، وكان الهدف من ذلك تضييق الفجوة الاقتصادية ما بين الملاي والصينيين، وقد أظهرت بعض الإحصائيات أن ما يقرب من 7 مليون من بين 12 مليون من المالاي، كانت لديهم حصص في الشركات الماليزية الكبيرة، بشكل يضمن المشاركة في إدارتها وجني الأرباح الاقتصادية من ورائها، وهو ما أدى لظهور طبقة متميزة من رجال الأعمال المالايين.
كل تلك المشاريع التنموية ترافقت مع سعي الحكومة لاستغلال الثروات الطبيعية المتوفرة في الأراضي الماليزية، حيث تطورت عمليات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، حتى احتلت ماليزيا المركز الثالث عشر عالمياً من حيث احتياطي الغاز الطبيعي، والثاني والعشرين من حيث احتياطي النفط، واقيمت العديد من المشاريع المرتبطة بالطاقة وانتاج الكهرباء.
ورغم كل ما سبق من مجهودات حقيقية، إلا أن ملف التعليم يبقى هو الملف الأكثر تميزاً في التجربة الماليزية.
بحسب ما ذكره مهاتير محمد في كتابه، كان طموحه الأكبر يتمثل في تكرار تجربة اليابان التعليمية في ماليزيا، ولذلك عمل على إرسال البعثات الدراسية المختلفة إلى اليابان، واحتذى بتجربتهم في ربط الخطط التعليمية بالأهداف القومية، وفي العناية بالمعاهد الصناعية لتلبية احتياجات المجتمع ونواقصه.
ولم تكن تلك الآمال لتتحقق بدون ضخ ميزانيات ضخمة فيها، فبحسب ما يورده الدكتور محمد شريف بشير في كتاب استثمار البشر في ماليزيا، فإن الحكومة الماليزية في عهد مهاتير محمد، قد خصصت ربع ميزانيتها للتعليم.
وربما يندهش الكثر من سكان الدول العربية، إذا عرفوا إن إنفاق ماليزيا على التعليم يبلغ عادة نحو ثلاثة أضعاف ما ينفق على الجيش والدفاع.
فبحسب ما أورده بشير في بحثه، فإنه وعلى سبيل المثال، قُدرت ميزانية التعليم في ماليزيا في عام 2007م، بنحو 35 مليار رنجت (الدولار الأميركي يعادل حوالي 3 رنجت)، فيما بلغت موازنة الدفاع والجيش نحو 13 مليار رنجت.
في 2011م كذلك بلغت ميزانية التعليم 40 مليار رنجت، بينما بلغت ميزانية الدفاع نحو 14 مليار فحسب.
هذا النفاق السخي على التعليم في ماليزيا، أدى لارتفاع كبير في معدل المدرسين إلى الطلبة، ليصل إلى مدرس واحد لكل 18 طالب في عام 2000م.
كما أن عدد الحاصلين على درجات الماجيستير والدكتوراه، قد تضاعف لعشرات المرات، ففي حين كان عدد هؤلاء لا يزيد عن المائة في عام 1985م، فإن عددهم في عام 2000م قد وصل لما يقترب من 2500 متخرج.

الإسلام السياسي: هل يصبح عائقاً للتحديث؟
على الرغم من كون ماليزيا دولة ذات أغلبية مسلمة، إلا أنها لم تصطدم بالعوائق التي واجهتها معظم الدول الإسلامية التي سعت للتحديث والتنمية.
وربما كانت للطريقة التي تمت بواسطتها إدارة الملف الديني في ماليزيا، دور كبير فيما وصلت إليه تلك الدولة الأسيوية من تقدم.
فمنذ حصلت ماليزيا على استقلالها، وهي تدار بواسطة ائتلاف مكون من عدد من الأحزاب، والتي يتزعمها المنظمة الوطنية للاتحاد المالايوي (أمنو)، وتشترك معه مجموعة من الأحزاب التي تمثل الصينيين والهنود.
وفي محاولة من هذا الائتلاف، للعبور فوق مشكلة اختلاف الأعراق في ماليزيا، تم التأكيد على علمانية الدولة، وعلى ضمان الحقوق السياسية والثقافية لمختلف الطوائف، وبموجب تلك النظرة العلمانية، ظلت التشريعات والقوانين الإسلامية، مقتصرة على قوانين الأحوال الشخصية التي تُطبق على المسلمين وحدهم.
وقد عملت الحكومة على عدم التعرض للتيارات الإسلامية التي ظهرت في ماليزيا منذ ستينيات القرن الماضي، حيث فضلت انتهاج السبل السلمية والتعامل بأسلوب التعايش والاحتواء والبعد عن استخدام العنف قدر الإمكان.
وبحسب ما يورده الدكتور محمد فايز فرحات في كتابه الإسلام الحضاري: النموذج الماليزي، فإن الطلبة الماليزيين الذين درسوا في مراكز الثقافة الإسلامية في الشرق الأوسط، شكلوا بعد رجوعهم لوطنهم، البذرة الأولى لجماعات الإسلام السياسي، خصوصاً أن هؤلاء قد احتكوا في البلاد التي درسوا فيها، بجماعة الإخوان المسمين وتعرفوا على أدبياتها وكتبها الأصلية، ونقلوا أفكارها إلى ماليزيا.
الحزب الإسلامي (باس) هو الفصيل الأكثر انتماء إلى الإسلام السياسي في ماليزيا، فالحزب الذي يقوده الشيخ عبد الهادي أوانج، يشارك بشكل فعال في الحياة السياسية، واستطاع أن يسيطر على بعض الولايات، ومن أهمها ولاية كلنتان.
وعلى الرغم من أن باس يعمل في معظم الأحيان ضمن قوى المعارضة، إلا أنه في بعض الأحيان يعقد بعض التحالفات مع حزب أمنو الحاكم، فعلى سبيل المثال اتفق الحزبان على تمرير بعض القوانين المرتبطة بتطبيق الشريعة، والتي بموجبها سوف يتم تطبيق عقوبة الجلد والضرب بالعصا في بعض حالات السرقة والتعدي على الغير، مما أثار جدلاً كبيراً في الشارع الماليزي من جانب قوى المعارضة، التي تخشى أن تكون تلك القوانين تمهيداً لتطبيق أحكام قطع الرأس والرجم في المستقبل.
ولذلك يمكن القول، إنه –حتى الأن-لم يحدث أن وقف التدين الإسلامي في وجه خطى التحديث الماليزية، بل كانت مشاركة ذلك التيار في السياسة بشكل رسمي ومعلن، سبباً في عدم تصادمه مع الدولة وتوافقه مع الخط التنموي السائد بها، ولكن في الوقت نفسه فإن الكثير من الشكوك قد أثيرت في الفترة الأخيرة من إمكانية وصول الأفكار الراديكالية إلى ماليزيا، حيث تم الإعلان في مارس الماضي عن القبض على عدد من العناصر الإرهابية التي تنتمي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتي كانت تنتوي القيام ببعض العمليات الإرهابية في ماليزيا، يأت هذا في الوقت الذي ظهرت فيه عدد من الدراسات التي تؤكد أن الماليزيين يشكلون نسبة كبيرة من عناصر تنظيم داعش القادمة من منطقة جنوب شرق أسيا، مما ينذر بتهديدات كبيرة لماليزيا في حالة عودة تلك العناصر لوطنها، وهو ما قد يكون منطقياً في ظل خسائر التنظيم الفادحة في سوريا والعراق.

Optimized by Optimole