انتقام الجغرافيا ودورها في مصير العالم

Spread the love

خاص مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط — بقلم: د. هيثم مزاحم* —

الجغرافيا كلمة يونانية معناها الجوهري هو “وصف الأرض”. يرى روبرت كابلان ، وهو كبير محللي الجغرافيا السياسية في مؤسسة ستراتفور الأميركية، في كتابه “انتقام الجغرافيا”، أن الجغرافيا كانت دوماً مرتبطة بالقدر وكان التفكير جغرافياً يعني الحد من خيارات الإنسانية، فلا ينبغي أن تكون جغرافياً قديراً حتى تدرك الأهمية الحيوية للجغرافيا. فكلما نظرنا إلى القرون التي خلت، أدركنا الدور الذي لعبته الجغرافيا.
يقول كابلان إن الجبال هي قوة قديمة تحمي غالباً ساكنيها وثقافاتهم من الأيديولوجيات الحديثة الشرسة التي كانت غالباً ما تغزو الأراضي المسطحة. وكتب الأنتروبولوجي الأميركي جيمس سكوت أن سكان الجبال قد عُرفوا على مدى ألفيتين بأنهم لاجئون أو فارون من ظلم الحكام الذين يطبقون سياساتهم في الوديان والسهول.
ويرى كابلان أن جبال العراق كانت دوماً عقبة أمام إخضاع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للأكراد في فترة ثمانينيات القرن الماضي، لقد غضب صدام بسبب الحرية التي منحتها الجبال للأكراد عبر التاريخ والقرون، فقام بهجوم شامل على الأكراد عرف بحملة الأنفال وراح ضحيتها مئة ألف مدني. ورغم أن صدام استطاع أن يثبت أن الجغرافيا لا تستطيع منع الإنسان تماماً من تغيير مصير البشر، إلا أن تلك الجبال كانت السبب الأساس لتلك المأساة.
وللجبال قصة أخرى في أوروبا، فقد كتب المؤرخ غولو مان كيف أن الألمان عاشوا دائماً داخل سجن كبير شكّلته الجغرافيا. فكان الشمال تحده الجبال والجنوب تحده المياه، فكان المهرب الوحيد لهم هو الاتجاه الى الشرق والى الغرب حيث لا توجد عوائق جغرافية. ثم أرادوا التحرر من هذا السجن باحتلالهم قلب أوروبا ما بين الشمال وبحر البلطيق وجبال الألب.
يسعى كابلان في كتابه إلى الرد على القائلين بأنه لم تعد هناك أهمية للجغرافيا في عصر العولمة، من خلال عرضه لما حصل في التاريخ وما سيحصل في أوراسيا، من أوروبا إلى الصين، بما في ذلك الشرق الأوسط الكبير وشبه القارة الهندية.
يرى كابلان أنه بقدر ما أظهرت عمليات الحراك السياسي في الدول العربية ضد الاستبداد هزيمة الجغرافيا بفضل الاتصالات والتكنولوجيا الجديدة من قنوات فضائية ووسائل تواصل اجتماعي، فإنها بيّنت أن لكل دولة من هذه الدول خاصيتها المرتبطة بتاريخها وجغرافيتها. ففي المرحلة الأولى من تلك الاضطرابات ظهرت هزيمة الجغرافيا أمام قوة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. فقد خلقت هذه التكنولوجيا المتثملة في القنوات الفضائية والشبكات الاجتماعية ومواقع الانترنت مجتمعاً واحداً من المعارضين عبر العالم العربي. لكن أصبح من الواضح أن كل دولة قامت بوضع تصوّرها هي لثورتها، والذي تأثر بتاريخها وجغرافيتها العميقة.
يقول كابلان إنه قد يكون من الصدفة جزئياً أن الثورة بدأت في تونس. لكن الخرائط القديمة تظهر تمركز مستوطنات في المنطقة التي توجد فيها تونس اليوم، والتي شيّدت بجوار مساحة شاسعة خالية الى حد ما والتي تمثل الجزائر وليبيا اليوم. وبسبب وجودها عند سواحل البحر المتوسط وبالقرب من صقلية، فإن تونس أصبحت القلب السكاني في منطقة شمال أفريقيا، ليس فقط خلال عصر قرطاجة والرومانيين، ولكن أيضاً عبر عصور البيزنطيين والعرب والأتراك. وفى حين كانت كل من الجزائر غرباً وليبيا شرقاً مجرد مساحة جغرافية ذات تعبيرات غامضة، فتونس كانت دوماً مركزاً لحضارات قديمة. وكانت المنطقة الأقرب الى قرطاجة(تونس) طوال ألفي عام، تتمتع بمستوى عالٍ من التطور، لأن العمران بدأ في تونس قبل ألفي عام، بينما كانت البداوة – التي قال عنها ابن خلدون إنها كانت تمنع الاستقرار السياسي – ضعيفة هناك.
يحاول كابلان أن يوضح البيئة التاريخية والجغرافية للأحداث التي وقعت مؤخراً: فقد بدأت الثورة من أجل الديمقراطية في تونس، المجتمع الذي اعتبر تاريخياً أكثر المجتمعات العربية تقدماً، وأكثرها قرباً من أوروبا؛ ولكن أيضاً بدأت الثورة بشكل خاص في هذا الجزء من البلاد الذي ظل منذ التاريخ القديم مهملاً وعانى كثيراً من نتائج سوء التنمية.
أما مصر، فهي دولة أخرى شهدت حضارات قديمة وتاريخاً طويلاً عرفت فيه نظام الدولة؛ واليمن التي تعتبر القلب السكاني لشبة الجزيرة العربية، فهي ظلت تحاول توحيد أراضيها، ولكنها كانت دوما تصطدم بطوبوغرافية جبلية ممتدة عملت على إضعاف الحكومة المركزية وبالتالي عززت النظام القبلي والجماعات الانفصالية؛ أو كذلك الأمر بالنسبة إلى سوريا، حيث تظهر خارطتها الانقسامات القائمة على الهويات العرقية والطائفية. فالجغرافيا تشهد بأن مصر وتونس متماسكتان طبيعياً بينما ليبيا واليمن وسوريا هي أقل تماسكاً. وهو ما تطلب من حكام تونس ومصر أشكالاً معتدلة نسبياً من النظام الاستبدادي للحفاظ على وحدة البلاد، بينما تطلب الأمر أنواعاً متطرفة من الحكم الاستبدادي في كل من ليبيا وسوريا. أما اليمن فكان صعباً حكمه على الدوام. فكما أسماه العالمان الأوروبيان ارنست غلنر وروبرت مونتانيون بالمجتمع “المجزأ” أو “المقسم”، هو زبدة طبيعة الشرق الأوسط التي تمزج بين الجبال والصحراء. فاليمن باشتماله على المركزية والفوضى معاً، يستنزف الحياة منها، وبسبب هشاشته فشل في إنشاء مؤسسات مستديمة. فالقبائل فيها قوية والحكومة ضعيفة نسبياً بما يجعل قيام أنظمة ليبرالية صعباً.
حرص كابلان على تفنيد علمي لمصطلح وظاهرة العولمة، فالعولمة لا تعني تناسي أو تجاهل حقائق الجغرافيا من حيث مساحات الدول وتكوينات الطبيعة وحقيقة كون الدولة ساحلية أو مغلقة أي بدون سواحل، فضلاً عن حقائق خطوط الطول والعرض التي تحدد نمط الطقس وطبائع المناخ وهو ما ينعكس بدوره على أساليب الكسب وعوامل الإنتاج بل على طبائع وسلوكيات البشر أحياناً.
يتتبع كابلان تاريخ البقع الساخنة في العالم من خلال دراسة مناخها وتضاريسها الطبيعية، ثم يطبق الدروس المستفادة على الأزمات الحالية، ويخلص إلى تفسير شمولي لدورة الصراع المقبلة في جميع أنحاء أوراسيا. فالجغرافيا تســلّط الضوء على البيئات المختلفة التي تجعل البشر غير متســاوين بدرجة كبيرة، ومتفرقين بأشكال عدة مما يؤدي إلى نشوب الصراع. فألمانيا، مثلاً تعد إحدى القوى في قارة أوروبا التي تواجه الشرق والغرب بدون وجود سلاسل جبلية تحميها؛ ما يولد ظواهر ثقافية تتراوح ما بين النزعة العســكرية والنزعة السلمية للتعامل مع موقعها الخطر. أما بريطانيا، فهي جزيرة آمنة داخل حدودها ويحميها البحر من أعدائها البريين، ما مكّنها من إرساء نظام ديموقراطي والسماح بالحريات الشخصية قبل جيرانها بزمن طويل.
يشير كابلان إلى أهمية الصين فهي تطل على غرب المحيط الهادىء، وتمتد أراضيها وصولاً إلى آسيا الوسطى الغنية بالموارد الهيدروكربونية.
أوراسيا
يخصص كابلان فصولاً في كتابه لدراسة الكتلة القارية الواصلة بين أوروبا وآسيا (أوراسيا كما يسمونها)، ويتوقع أن تعود منطقة البحر الأبيض المتوسط، سواء من شرقها السوري أو من جنوبها العربي الواصل من مصر إلى موريتانيا لكي تصبح همزة الوصل التي تربط بين جنوبي أوروبا وشمالي أفريقيا، على نحو ما كانت عليه في زمن العالم القديم. تقول أن ماري سلوتر، أستاذة علم السياسة والشؤون الدولية في جامعة برنستون ومديرة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية بين عامي 2009 و2011، إن هذا معناه أن منطقة البحر المتوسط من شأنها أن تعود لتصبح مجدداً جماعة اقتصادية وثقافية قد تستمد قدراتها من وجود احتياطيات هائلة من النفط والغاز الطبيعي الكامن تحت سطح شمالي وشرقي المتوسط.
يرى كابلان أن حجم السكان والاقتصاديات الهائلة للاتحاد الأوروبي سوف تبقيه واحداً من المحاور الرئيسية الكبرى في العالم، ويشير إلى صعود روسيا تحت قيادة القياصرة الجدد بشكل سلبي، فيقول إن فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف لا يملكان أي أفكار للنهضة ولا أيديولوجية وهما يمتلكان عاملاً واحداً في صالحهما هو الجغرافيا، وهذا غير كافٍ. فروسيا، القوة البارزة في العالم، هي دولة غير آمنة، حيث تخلو من الحدود الطبيعية، وموانئها الرئيســية في بحر الشمال يغلقها الجليد طوال أشهر عدة من العام. لذلك كانت روسيا دائماً دولة توسعية بهدف تأمين نفسها وحاميتها. فخوف روسيا من الأعداء جعلها تندفع إلى أوروبا الوسطى والشرقية في القرن العشرين، وإلى أفغانستان بحثاً عن منفذ إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي وإلى الشرق الأقصى لاعتراض سبيل الصين؛ وقد تعود هذه النزعة التوسعية مرة أخرى(كُتب الكتاب قبل عام من احتلال روسيا لجزيرة القرم على البحر الأسود).
أما الصين فقد ظهرت لتكون قلب القارة الآسيوية، وهي تتمتع بساحلها وقربها من المياه ولكنها تواجه بيئة أكثر عدائية في البحر، وإن لم تكن الصين مهتمة بنشر أيديولوجية معينة؛ فهي معنية بضمان بقائها ونموها الاقتصادي فقط، وســـوف تبرم اتفاقـات وتهـدد دول أخرى بما يتفـق مع مصالحهـا. إن القوة الاقتصادية الصينية – مصحوبة بقوة عسكرية – ستؤدي إلى إيجاد درجة من التوتر المحوري في السنوات المقبلة.
يطبق كابلان منهج تأثير عوامل الجغرافيا على مناطق عدة من العالم، في مقدمتها الطقس ودرجة الحرارة (أو البرودة) ومساحات الأرض، وبخاصة الحيز القابل للزراعة وإنتاج الغذاء، إلى موارد الطاقة والثروة المعدنية. فالدول غير الساحلية عموماً أكثر فقراً وأقل أمناً مقارنة بالدول ذات الحدود الطبيعية؛ ما قد يدفعها إلى انتهاج سياســات هجومية وتوسعية من أجل تأمين مناطق عازلة أو حدود مصطنعة. وقد تكون الجغرافيا ســاعدت على إيجاد الطغيان والبيروقراطية في بلاد ما بين النهرين، في الماضي والحاضر، لكنها أتاحت ازدهــار الحضــارة في مصر القديمة. فقد منحت الصحارى مصر حدوداً واضحة المعالم يسهل الدفاع عنها. وقد دفعت التضاريس الجبلية في اليونان القديمة باتجاه إقامة وحدات سياســية صغيرة تربطها لغة مشتركة، ما شجع على إقامة نظام ديموقراطي بدائي قائم على المساواة والتمثيل. ونعمت أوروبا الغربية بأراضٍ خصبة ومناخ معتدل وموانئ طبيعية كثيرة وممرات مائية صالحة للملاحة، وهي عوامل دعمت مجتمعة التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والتطوير الحضري.

مصير أميركا
يقول كابلان إن أميركا تواجه ثلاث معضلات جيوسياســية أساســية متمثلة في الفوضى التي تسم الشرق الأوســط، والصين كقوة عظمى صاعدة وطموحة؛ والمكسيك المضطربة في الجنوب. ويرى كابلان أن على أميركا أن تتطلع إلى حيث حدودها في الجنوب إلى ما يدور أساساً في ربوع المكسيك التي يصفها بأنها بلد على حافة الخطر، حيث يوشك بأن يصبح دولة شبه فاشلة بسبب ما يقع على أرضه من صدامات بل ومجازر على يد كارتلات تجارة المخدرات.
فأميركا الجنوبية هي القارة المنسية، والتي يمكن أن تكون هي البقعة التالية للصراع. ومن الأفضل للولايات المتحدة أن تهتم بالدول المتاخمة لها، قبل أن تهتم بما هو وراء البحار، وأن تقدم استراتيجية متكاملة للتعاون مع دول الجوار “الجنوب الأميركي”.
يتصور كابلان أن ثمة منافسة تشهدها الفترة المقبلة بحيث تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى المحيط الهادئ في أقصى الشرق، فإن العالم سيصبح بحاجة من ثم إلى عنصر توازن.والمقصود هو أنه فيما قد تؤدي الجغرافيا – اتساقاً أو انتقاماً – إلى كيان من نوعية “أوراسيا العضوية الموحدة” ما يقتضي كفة للتوازن تتمثل بدورها في كيان أميركا الشمالية العضوية والموحدة”، تضم كلاً من كندا والولايات المتحدة والمكسيك. ويجادل كابلان أن العالم سيشهد وحدة عضوية في أوراسيا في مواجهة الوحدة العضوية بين الولايات المتحدة وأمريكا الشمالية باعتبارها عملية توازن بين الكتلتين.
لقد شهد عالمنا تغييرات جغرافية كثيرة عبر تاريخه، وشهد صعود وسقوط أنظمة عديدة، لكن الشيء الوحيد المستقر هو وضع الشعوب على الخريطة؛ لذا ففي زمن الاضطرابات فإن الشيء الوحيد المهم هو الخرائط. فالجغرافيا يمكنها أن تشكّل التاريخ ومصائر الشعوب. ويمكن بدراسة الجغرافيا أن نفهم الحروب التي ستقع في المستقبل، وكيف يمكن التصدي لها.
يأتي كتاب “انتقام الجغرافيا” بمثابة نقد لمنطق العولمة، الذي يتصور أن العالم في طريقه إلى أن يصبح كياناً واحداً مجرداً من أوجه التمايز القومي أو الوطني أو الثقافي.

*كاتب وباحث لبناني، رئيس مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط

Optimized by Optimole