ومابين رموشها…”حكاية ”       

ومابين رموشها…”حكاية ”       
Spread the love

بقلم: ميري نصور _ سورية / 

كانت اعتادَت الوقوفَ تحتَ أسقُفِ محلاتٍ ملاصقةٍ لشارعِ بيتِها الرئيسي .. ذَهَبَ الصيف، وعاد الشتاء ..هَكَذا حتى أكمَلَت عقدَها السّبعون . .
وفي تلكَ الليلةُ، كانت الرّواية ..
وبِطقوسِها المُقدسة، وَعَلَى ذَلِكَ الكُرسي الدِمَشْقيّ الصنع تَتَوارى أنظارُها يميناً وشمالاً، بابتِسامَةٍ مُتَأَفْئِفةٍ مِنْ كثرةِ سلاماتِ مارةِ طريقِ المحبة..
-طريقُ المحبة ؟؟

-نَعَمْ  ..ألا تَذكُر !!
هُناك .. مِطرَقَةُ العمِّ عايش حيثُ ثَبُتَ عليها لوحةً طُرِزَة عليها بالبيضاءِ، حروفَ المحبة .. على زاويةِ الحيِّ اليمينيِّ ..

لا عليكَ فَمَا انمَحى مِنْ ذاكِرَتِنا باتَ أثقلَ حجماً مِنْ ذَلِك
..فقط دعني أُكملْ :
 
إنّها الثانيةَ عَشَر ظهراً ..يومٌ جديد، ومازالَ الحرُّ يملؤُ هواءَ المكانِ .
نظرة مِنَ العجوزة الجّبارة، مُمتَنة لمتانةِ عواميدِ قاعدةِ كُرسيَّها الخشبيّ .
بُخارُ ماءٍ، يصنعُ ضباباً متصاعداً مِنْ فوهةِ كأسِ شرابٍ، متكئاً على طبقِ نحاسٍ، مزخرفٍ بأحرُفِ ياسَمين الشّرقِ،
صوتُ التماسِ تحيّةَ كف الشّبانِ المارة بالعناق، يعّلو السمعُ متفوقاً على أمواجِ نشرةِ الصباح .

-وما الروايةُ فيما سبق ..!!؟؟
     

-ثَبُتَتْ خيانةُ جفونِ السّبعينية، بغفوةٍ ثانيّة، فاقت مئاتَ السّنين 

-وبعدَ ذلك ؟؟

-أَفاقَتّها صدى اصطدامِ بيتِ طلقةٍ عابرة، بلوحةِ العمِ عايش
انتابَها شعوراً بإِرباكٍ جَهُلَ مصدَرُهُ، هل جاءَ مِنَ الخوفِ أمّ الحيرة .!!؟؟
 كَثُرَ الغرباء بدعساتٍ ثقيلةٍ، تتركُ أثرَ حوافٍ سوداءٍ، جاعلتاً من مسارِ طريقِها إعوِجاج
 كانَت الوجوهَ النّاظرة إِليها، تُختبِئ بينَ فجوةِ بُعدِ نظراتِها 

– وماذا بعد ؟؟

-ماحدثَ ليسَ إلا نكتةً فاقت التّصديق
بسرعةٍ قصّوى أشّبَكَت يَدَيها ذو الخرائطِ الخشنة، جاعلتاً مِنها ستاراً تُخفي معالمَ وجهِها، خوفاً مِنْ الاكتراثِ مما بدا أمامُها..
كانت تُتَمتِم بصوتٍ يُزعِج سامعيه، لحدةِ مخارجِ حروفٍ تقسى على لفظِها عندَ النّطق :
حبّذا لو بقينا على نوطاتِ طُرُقٍ، ملامِحُها تحمي الأعمى سيرا .
لَقَد بدا لَهَا ما رأَتْ، بترَّهاتٍ وجدَتْ مِنها، مُقتَطَفاتٍ من فلمٍ  أجنبي، كانَ قد رُوِجَ لهُ منذُ سنين بجماهريةٍ عربيةٍ، فاقت اندفاعاتِ مواطنيه .

بدتْ وكأنّها تقيدُ ماعُرِفَ عن سحرِ المكانِ، وتؤرشِفُه في كاميرا زمانٍ… تُرَدِدُ لِنفسِها لوَهلةٍ، أنّه سيُطيلُ العودة .

أتعلم ..؟؟ كانَ أطفالنا يبعثرون نصفَ وقتِ لهوِهم، بحثاً عن حجرٍ يُصلِحُ للعبة، اعتُبِرَت من تقاليدِ شعوبِنا .

 الآن..أحجارُ خطوطِ بيوتِنا، مرصوفة في كُلِّ اتجاهٍ، باتَت أكثر من دموعِ أعيُنٍ هاجمها  لمعانُ شمسٍ، بعدسةِ صفوها، وهي مُراقبة لهلولِ سربِ حمامٍ يطفو سماءَنا، مُرتَحِلاً لبلوغِ أنيابِ ثعالبِ قطيعِ الغابة .

– نعم …للجميعِ ماضٍ يحمِلُ بينَ طيَّاتِه ذكرياتٍ ..

لا أبداً أنّ ذلكَ الإحساس من نوعٍ آخر ..أتُدرِك الإحساس الّذي يصل لحدِ التصاقِ ضلوعِكَ في قلبك ؟؟
يُنسِجُ شعوراً، ذو وجهين :
تارةً تَشعُ فرحاً وابتهاجاً لماضٍ أجملَ مظهراً، مِنْ ورقةٍ لامعةٍ على خَدّيها حباتَ مطرٍ متلئلئةٍ
وتارةً تَرَى نَفّسَكَ مُحتاجاً لحاضرٍ مساويٍ لذَلِكَ الماضِ، وبخلافِ تلكَ الأيامِ ، تَبحَثُ عَنْ حاضرٍ يفوقَها مرتبةً في بعضِ الأحيانِ .
وعلى سياقٍ آخر، والتوهانِ البصيريِّ جبّار الموقفِ، أمامَ أحدِ بيوتِ الأحجارِ القديمةِ، اجتمعَتْ نسّوةُ الحيّ، وبصورةِ درسٍ تعبيريٍّ، كانَ الأجدرَ سَمَعاً في مدارِسِنا. باتَتْ تَجمعُنّ ماءً
ودقيق محصولَ سنيننا سوياً في وعاءٍ فخارٍ ثقيلٍ
أدرَكو حينها، أنَّ حيلَ انتصارِنا، تتمثلُ بطُرُقٍ تُتَرجِمُ بساطةَ النّوايا وعمق مغذاها .

_ وماذا حَدَثَ بالمرأةِ العجوزِ ؟؟؟

_بقيتُ كما كانَت بذاتِ المظهرِ الطّبيعيّ تماماً .. فقط اضطرَت مُجبَرَتاً لاستبدالِ كُرسيّها الخشبيّ، الذي فقدَ أحدَ أضلاعِهِ مُسَبِباً بِفقدِهِ مَيَلاناً شَوّه قامَتَهُ، استبدَلَتهُ بجذعِ شجرةٍ كانَت قَدْ قَطَعَت مِنْ أطرافِ أرضِ المحبة . 
تُلّوى القُلُب منِ مشهدِ جلوسِها هَكَذا، وَلَكن العبرة في الخِتام،  فَبعدَ هدوءّ سبقَ العاصفةَ، تكاثرَ لِسَمعِها صوتُ رنينِ حديدٍ بحديدٍ ، رَفَعَت جَبينَها سارقة نظرة طَفّت عليها ملامحاً غَزّت مسامَ وجهَها بعزةِ فرحةٍ، تعلُوها درزات تفاؤل انتقلت من بقعةِ كُرسيّها الخشبيّ .

كانتْ تَقِفُ هُناكَ حَفيدَتُها الصُغْرى، ذو الأظافِرِ الثقيلةِ الطوالِ القامة .
بيدِها مِطرَقَة، اندَهَشَ مَنْ حَولِها، لقدرةِ وقوفِ تلاحُمِ أصابِعِهَا حولَ قاعِدَتِها .
أَخَذَت تَضَعُ بساميرِ إصلاحِ بضلوعِ ذَلِكَ الكُرسيّ، حتّى عادَت كَمَا في بادِئِ الأمرِ 

جَعَلَت مِنْ كُلِّ ضلع لوناً مُخالِفاً  لسابِقِهِ .
تَخَلَّتْ عن كُلِّ ماتَملِكُ، مِنْ عَلَبِ طلاءِ أظافِرِها، بِكُلِّ مودة سَبَقَت إقناعَ فتاة العشر عقد من مثيلاتها .
وَ وَسَطَ مشهدِ تلافُت الجميعِ، حولَ صغيرةَ الحيّ،  سَرَقَت لقطةً مُضحِكَة بِمهارةِ أناملُ صغيرَتِنا .

أرادَ مِن كِانَ في المَكَانِ،  مِنْ صاحبةِ التّجاعيدِ الثّقيلةِ القدوة، أَنْ تكونُ أول من يجلِسُ على الكرسي وما إِنْ جَلَسَت، حَتّى التَمَسَ ظهرُها بسطحِ مسنَدِها، طَبُعَ عليها علمٌ كانَت رسمَتهُ حفيدةَ السابقِ ذَكَّرَها، بألوانِ طيفَ مراحلِ مكانٍ كانَت قَدْ ذَكَرَت سحرَهُ خاص المثيل  .
ابتسامةُ ذو العشرِ سنين، توَضحُ انتقالَ وصيةَ السبعونَ عقداً لأيادِن مُطمَئنة .
كانَت تلكَ اللوحةَ، أجملُ من أيّ خاتمة، وأبلَغُ مِنْ أيّ شرحٍ تفصيلي، لأعجوبةٍ سيتخذُها الدّهرُ، قصةٍ تُروى لأجيالٍ تسألُ عن فخرٍ عُرِفَ عن تلكً الأرضِ .

Optimized by Optimole