أسعد رزّوق بين الشعر والفلسفة

أسعد رزّوق بين الشعر والفلسفة
Spread the love

بقلم: أحمد فرحات —

في حديقة منزله الجبليّ في بلدة غزير اللّبنانيّة، وعلى مائدة غداء كريمة تحت شجرة اللّيمون التي يعرفها الأصدقاء المقرّبون من الشاعر يوسف الخال، كانت لنا جلسة ثقافيّة أنيسة وبالغة الجديّة، سألتُ خلالها عرّاب مجلّة “شعر” عن تقييمه لإسهامات الناقد والمفكّر الفلسفيّ اللّبنانيّ د. أسعد رزّوق في المجلّة، فأجاب بأنّها كانت كاشفة ودقيقة في خطابها حول الرؤى والتصوّرات، ودمْج الإيحاء بالإيضاح، ولا تسترشد بغير الرغبة في معرفة حقائق الأمور، وخصوصاً لجهة كلامه على الترجمة الشعريّة كوسيلة للخلق، وليس للنقل فقط. كما أنّ د. رزّوق رَفَدَ المجلّة بمقالات وكِتابات مهمّة حول الشعر والتيّارات الفلسفيّة والنقديّة في ألمانيا، وخصوصاً عندما كان طالباً للدكتوراه في جامعة توبنغن المعروفة بعراقتها العِلميّة، ولاسيّما في مجال الدراسات الفلسفيّة والعلوم الإنسانيّة.

كنتُ شخصيّاً قد عرفت د. أسعد رزّوق وحاورته أكثر من مرّة حول مَسارات ثورة الشعر العربي الحديث ورموزه الرياديّة، والإضافة الإبداعيّة التي راكمها هذا الشعر على المشهديّة الشعريّة العربيّة العامّة، منذ الجاهليّة إلى أيّامنا هذه.. كيف لا وهو الذي نفذَ إلى عمق أعماق نصوص شعراء الحداثة التأسيسيّين: بدر شاكر السيّاب، أدونيس، يوسف الخال، خليل حاوي، جبرا إبراهيم جبرا، من خلال كِتابه الشهير “الشعراء التمّوزيّون: الأسطورة في الشعر المُعاصر” الذي أصدره في العام 1954، مُتناولاً الأسلوب الكتابيّ الشعريّ الذي تعامل فيه كلّ واحد من هؤلاء الشعراء مع أسطورة تمّوز (أو دموزي)، والغنى الذي أحدثته هذه الأسطورة الرافدينيّة في كلّ نصّ من نصوصهم المُستلهِمة لها. ولا غرو، فهو يعتبر أنّ توظيف أسطورة تمّوز، كرمز للخصب والانبعاث، جاء بمثابة فتْحٍ فريد ميَّز فيه هؤلاء الشعراء العرب أنفسهم عن نظرائهم في الشعر الغربي الحديث. وبات، بالتالي، شعرهم “المؤسطر” بكلّ ما في مَراتبه من المعاني واحتمالاتها، البُعد الإبداعي الحضاري العربي الخاصّ في حضارة الإبداع العالَمي العامّ المُتداوَل اليوم.

وعرفتُ من الشاعر يوسف الخال أنّ أوّل مُشارَكة أدبيّة مُلفِتة قام بها د. أسعد رزّوق في مجلّة “شعر”، كانت نَشْره مقالة بعنوان “الترجمة كوسيلة للخلق” معلِّقاً فيها على الترجمة الجديدة لرباعيّات الخيّام التي كان وضعها الشاعر والمهندس العراقي جميل الملائكة في العام 1957. ففي رأي هذا الأخير أنّ ترجمته هذه للرباعيّات ليست الأولى من نوعها، وقد لا تكون الأخيرة، فلقد ظهرت قبلها ترجماتٌ مهمّة، من أبرزها واحدة لأحمد رامي وأخرى لمحمّد السباعي في مصر.. وترجمات أخرى لجميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي في العراق ووديع البستاني وتوفيق مفرّج في لبنان.

واللّافت في هذه الترجمات كلّها – من وجهة نظر د. أسعد رزّوق طبعاً – أنّها ليست ترجمات فحسب، بل هي مرآة تعكس ذاتَ المترجم وصدى ثقافته. فنحن نستشفّ، من خلال قراءتنا لها، ذاتات كلّ من رامي والسباعي والصافي والزهاوي والبستاني ومفرّج والملائكة، في ظلّ روح الخيّام ومَناخه الشعوري. هذه الظاهرة قد تكون ميزة خاصّة تنفرد بها الترجمات الشعريّة والفنيّة على العموم، لأنّ هناك ذاتَ شاعرٍ أو فنّان تكمن فيها، ولغة أم تُعبّر عن معانيها الذاتيّة؛ فلا يكفي أن ننقل النِّتاج الإبداعي من لغته الأصليّة إلى لغتنا لتجيء الترجمة في مستوى الأصل، فنيّاً وشعريّاً، بل علينا أن نعيش الشاعر نفسيّاً ونتمثّل دَوره خياليّاً، حتّى نستطيع تعريبه، كما فعل الشاعر الإنكليزي إدوارد فيتزجيرالد، عندما صاغ ترجمة الرباعيّات المشهورة بالإنكليزيّة، وهي ترجمة اعتبرها النقّاد تخطيّاً مُبدعاً لشاعريّة الخيّام.

من جهة أخرى، قد لا يكون المُترجمون من الذين يعيشون الخيّام حياتيّاً، ولكنّهم دونما شكّ يهربون إليه ذهنيّاً، ويجدون فيه متنفّساً شعوريّاً عمّا يكتنف وجودهم من مللٍ وسأم؛ فيصدق عليهم عند ذاك قول الشاعرة نازك الملائكة في تقديمها لترجمة د. جميل الملائكة: ” إنّ هذه الترجمة ليست أكثر من أصداء شعريّة لحيرة جميل إزاء الحياة، وليس صدفة أنّه ترجم الخيّام إلى العربيّة”.

إذن، وكما يقول د. أسعد رزّوق، ” نحن نُترجم الخيّام لشعورنا بالمَلل في وجودٍ مُنفلتٍ أجرد. والخيّام لا يطلع علينا وحده في رباعيّاته، بل يطلّ مترجموه بذاتيّتهم وأسلوبهم الذي سُكبت المعاني في ألفاظه”.

ويردف قائلاً: ” وقد نذهب أبعد من ذلك فنقول مع الشاعرة نازك الملائكة، إنّ لكلّ مُترجم خيّامه الذي يؤثره ويصيغه في قالب قيَمه الذاتيّة والأسلوبيّة. فالخيّام في الترجمة لم يعطِ الخيّام/ الشعر الفارسيّ فقط، على الأقلّ عند الذين لا يعرفون الفارسيّة ولم يطّلعوا على آدابها، وإنّما أصبح أيضاً الخيّام/ الفكرة التي تجبل طينة ألفاظها يد الخزّاف (المُترجِم)، ثمّ تضفي على هيكلها ظلالاً وألواناً تَنسجم مع الفكرة وتحتفظ بروعة الشاعريّة وذاتيّتها اللّفظيّة”.

مع رزّوق في “جديدة مرجعيون”

في ذات يوم قائظ من أيّام صيف العام 1989 اتّصلتُ بالناقد والباحث الكبير أسعد رزّوق، طالباً لقاءً ثقافيّاً معه، فأجابني بسؤال: ما رأيك أن نلتقي هذه المرّة في “الجديدة”.. أنا هناك؟ (“الجديدة” هي ما يطلقه أهل مرجعيون على بلدتهم في جنوب لبنان)، فأجبته من فوري: “نِعم اللّقاء ونِعم المكان يا سيّدي. أنا أصلاً من مُحبّي بلدة “جديدة مرجعيون” ومطلّها الجميل، وكَرَم أهلها، وذَوقهم، وأناقة مظهرهم، وعراقة بيوتهم الحجريّة.

وكان لي ما أردت. والتقيتُ د. أسعد رزّوق في مرجعيون، البلدة التي وُلد فيها في العام 1936 (توفّي في العام 2007)، وكان حديثي معه هذه المرّة عن فلسطين، التي هي على مبعدة خطوات منّا، أي من الحدود اللّبنانيّة مع فلسطين المحتلّة. ودافعي للحديث معه عن الأرض المُغتصبة كان، فضلاً عن قربها منّا، أنّه صاحب مؤلّفات بحثيّة وتحليليّة كبرى تكشف خبايا الفكر التوسّعي الصهيوني وأبعاده، ولاسيّما من خلال كِتابه: “إسرائيل الكبرى.. دراسة في الفكر التوسّعي”(664 صفحة من القطع الكبير، والذي كان أصدره في العام1968). وقد نوَّه بأهميّة هذا الكِتاب، في المناسبة، الباحث المصري الكبير د. عبد الوهّاب المسيري الشهير بموسوعته عن “اليهود واليهوديّة والصهيونيّة” (ثمانية مجلّدات – القاهرة 1999 ). فقد ذكرَ لي د. المسيري حين التقيته في الشارقة في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة في ربيع العام 1991 أنّه قرأ كِتاب د. أسعد رزّوق المذكور واستفاد من منهجيّته وتدفُّق انتظام مَعرفته وتحليلاته السياسيّة والفلسفيّة للمشروع الصهيوني وأهداف توسّعه في منطقتنا العربيّة، والذي هو في أصله مشروع استعماري استُخدِم لكبح توحدّ الديموغرافيا والجغرافيا العربيّتَين، عبر إيجاد كيانٍ سياسيّ عربيّ عملاق من شأنه، حاضراً ومُستقبلاً، أن يفرض مَصالحه على مَصالح الاستعمار الغربي مُمثلاً بالدول الأوروبيّة النّافذة سابقاً ومع الولايات المتّحدة الأميركيّة لاحقاً.

ومَن يقرأ كتاب د. أسعد رزّوق “إسرائيل الكبرى.. دراسة في الفكر التوسّعي الصهيوني” يجده بالفعل مؤلّفاً رياديّاً في الكشف العِلمي لا الخطابي الحماسي، عن الأبعاد الخطيرة للمشروع الصهيوني الذي من أهدافه المزيد من تمزيق البلدان العربيّة وفرْط نسيجها المُجتمعي والتاريخي وشطْب هويّتها القوميّة أو العروبيّة والقضاء على شخصيّة ثقافيّة – تاريخيّة فاعِلة ومُتفاعِلة، اسمها الحضارة العربيّة، حاضراً ومستقبلاً.. وماضياً أيضاً.

والكِتاب يرصد جذور منطلقات فكرة “إسرائيل الكبرى” ومَسارها ومَصادرها وتمرحلاتها، منذ أن بدأت، وإلى يومنا هذا. ورصد ما ترسمه الحركة الصهيونيّة على هذا الصعيد، وتشرع بتنفيذه على الأرض الفلسطينيّة، وعلى مستوى الإقليم واستطراداً العالَم بأسره. فهذه الحركة الصهيونيّة، من وجهة نظر د، أسعد رزّوق تشتغل بدأب متواصل وتُعلن عن نفسها بنفسها ولا يُساورها الشكّ في جدارتها وقدرتها على تنفيذ مخطّطاتها.

وللدكتور أسعد رزّوق مؤلّفات أخرى في الإسرائيليّات مهمّة للغاية: “الدولة والدّين في إسرائيل” – 1968، “في المجتمع الإسرائيلي” – 1971 (صادر عن جامعة الدول العربيّة)، ، “التلمود والصهيونيّة” – 1990، “مقالات في الصهيونيّة الحديثة” – 1990، وكلّها مؤلّفات غير تقليديّة وغير شعاريّة في تناوُل حقيقة إسرائيل ومرجعيّاتها الصهيونيّة التي ينبغي أن تسمّى في رأي كاتبنا “جماعات القتل الطقوسي المُبرمَج أو جماعات الدمّ”، لا جمهور الكثير من اليهود المُنتظمين في تعاليم الديانة اليهوديّة السماويّة، كما كان يُطلق عليهم في المُدن الألمانيّة قبيل وفي أثناء المرحلة الديكتاتوريّة الهتلريّة.

تأثيرات شارل مالك والمثاليّة الألمانيّة

ود. رزّوق، كان قد تعلّم في “مدرسة الأميركان” في مدينة صيدا، ودرسَ لاحقاً الفلسفة في الجامعة الأميركيّة في بيروت على يد أستاذه الكبير د. شارل مالك، هذا الذي تنسَّم في تلميذه موهبة فلسفيّة تساؤليّة فذّة وثرّة، برزت لاحقاً في تأثره بـ”مفهوم المثاليّة الألمانيّة” عبر أبرز ممثّليها الفلاسفة: فيخته، وشلنغ، وهيغل، والتي توصف أنساقهم الفلسفيّة بأنّها على ارتباط وثيق بالأدب والشعر والمسرح، بخاصّة كما تجسّده تجربة الشاعر الألماني الكبير يوهان شيلر (1759 – 1859) التي كان لها تأثيرها الحاسم على الفكر الألماني بوجه عامّ، والفلسفيّ منه بوجه خاصّ؛ إذ إنّ المثاليّة بالنسبة إلى شيلر، كشاعر ألماني قومي، هي التي تفتح الطريق واسعة نحو الحريّة الإنسانيّة وتقرير المصير، واستطراداً نحو محاولات “القبض” على الحقيقة. كما أنّ الإرادة بالنسبة إليه هي أداة الحريّة، ولا فصل، في النتيجة، بين الحاجة الحسيّة وأبعاد المطلق.

فوق هذا وذاك، يَعتبر د. أسعد رزّوق أنّ الشعر حالة مقرونة بالإرادة، ولا مواجهة شعريّة للعالَم من دون الإرادة، إذ إنّ البشريّة، كانت ولا تزال، وعلى امتداد الحقب والعصور كلّها، تدين للبطل/ الفرد أو المفكّر/ الفرد، وعصر الفرد الذي نحن بصدده هنا، يحدث في الوقت نفسه لوقوع عصر العالَميّة الجديد. وكلّما تقدَّمنا نحو المجتمع الكَوني، يصبح دَور البطل/ الفرد أكثر أهميّة، وأكثر ضرورة وقوّة. ونجاح الفرد هنا لا يبشّر البتّة بزوال الجماعة أو الأمّة، بل على العكس يؤكّدها ويعزّزها، ويدفع بها دفعاً لمُواجهة التحدّيات كلّها، مهما كبُرت وعظُمت.

مؤسّسة الفكر العربيأسعد رزّوق بين الشعر والفلسفة
أحمد فرحات

في حديقة منزله الجبليّ في بلدة غزير اللّبنانيّة، وعلى مائدة غداء كريمة تحت شجرة اللّيمون التي يعرفها الأصدقاء المقرّبون من الشاعر يوسف الخال، كانت لنا جلسة ثقافيّة أنيسة وبالغة الجديّة، سألتُ خلالها عرّاب مجلّة “شعر” عن تقييمه لإسهامات الناقد والمفكّر الفلسفيّ اللّبنانيّ د. أسعد رزّوق في المجلّة، فأجاب بأنّها كانت كاشفة ودقيقة في خطابها حول الرؤى والتصوّرات، ودمْج الإيحاء بالإيضاح، ولا تسترشد بغير الرغبة في معرفة حقائق الأمور، وخصوصاً لجهة كلامه على الترجمة الشعريّة كوسيلة للخلق، وليس للنقل فقط. كما أنّ د. رزّوق رَفَدَ المجلّة بمقالات وكِتابات مهمّة حول الشعر والتيّارات الفلسفيّة والنقديّة في ألمانيا، وخصوصاً عندما كان طالباً للدكتوراه في جامعة توبنغن المعروفة بعراقتها العِلميّة، ولاسيّما في مجال الدراسات الفلسفيّة والعلوم الإنسانيّة.

كنتُ شخصيّاً قد عرفت د. أسعد رزّوق وحاورته أكثر من مرّة حول مَسارات ثورة الشعر العربي الحديث ورموزه الرياديّة، والإضافة الإبداعيّة التي راكمها هذا الشعر على المشهديّة الشعريّة العربيّة العامّة، منذ الجاهليّة إلى أيّامنا هذه.. كيف لا وهو الذي نفذَ إلى عمق أعماق نصوص شعراء الحداثة التأسيسيّين: بدر شاكر السيّاب، أدونيس، يوسف الخال، خليل حاوي، جبرا إبراهيم جبرا، من خلال كِتابه الشهير “الشعراء التمّوزيّون: الأسطورة في الشعر المُعاصر” الذي أصدره في العام 1954، مُتناولاً الأسلوب الكتابيّ الشعريّ الذي تعامل فيه كلّ واحد من هؤلاء الشعراء مع أسطورة تمّوز (أو دموزي)، والغنى الذي أحدثته هذه الأسطورة الرافدينيّة في كلّ نصّ من نصوصهم المُستلهِمة لها. ولا غرو، فهو يعتبر أنّ توظيف أسطورة تمّوز، كرمز للخصب والانبعاث، جاء بمثابة فتْحٍ فريد ميَّز فيه هؤلاء الشعراء العرب أنفسهم عن نظرائهم في الشعر الغربي الحديث. وبات، بالتالي، شعرهم “المؤسطر” بكلّ ما في مَراتبه من المعاني واحتمالاتها، البُعد الإبداعي الحضاري العربي الخاصّ في حضارة الإبداع العالَمي العامّ المُتداوَل اليوم.

وعرفتُ من الشاعر يوسف الخال أنّ أوّل مُشارَكة أدبيّة مُلفِتة قام بها د. أسعد رزّوق في مجلّة “شعر”، كانت نَشْره مقالة بعنوان “الترجمة كوسيلة للخلق” معلِّقاً فيها على الترجمة الجديدة لرباعيّات الخيّام التي كان وضعها الشاعر والمهندس العراقي جميل الملائكة في العام 1957. ففي رأي هذا الأخير أنّ ترجمته هذه للرباعيّات ليست الأولى من نوعها، وقد لا تكون الأخيرة، فلقد ظهرت قبلها ترجماتٌ مهمّة، من أبرزها واحدة لأحمد رامي وأخرى لمحمّد السباعي في مصر.. وترجمات أخرى لجميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي في العراق ووديع البستاني وتوفيق مفرّج في لبنان.

واللّافت في هذه الترجمات كلّها – من وجهة نظر د. أسعد رزّوق طبعاً – أنّها ليست ترجمات فحسب، بل هي مرآة تعكس ذاتَ المترجم وصدى ثقافته. فنحن نستشفّ، من خلال قراءتنا لها، ذاتات كلّ من رامي والسباعي والصافي والزهاوي والبستاني ومفرّج والملائكة، في ظلّ روح الخيّام ومَناخه الشعوري. هذه الظاهرة قد تكون ميزة خاصّة تنفرد بها الترجمات الشعريّة والفنيّة على العموم، لأنّ هناك ذاتَ شاعرٍ أو فنّان تكمن فيها، ولغة أم تُعبّر عن معانيها الذاتيّة؛ فلا يكفي أن ننقل النِّتاج الإبداعي من لغته الأصليّة إلى لغتنا لتجيء الترجمة في مستوى الأصل، فنيّاً وشعريّاً، بل علينا أن نعيش الشاعر نفسيّاً ونتمثّل دَوره خياليّاً، حتّى نستطيع تعريبه، كما فعل الشاعر الإنكليزي إدوارد فيتزجيرالد، عندما صاغ ترجمة الرباعيّات المشهورة بالإنكليزيّة، وهي ترجمة اعتبرها النقّاد تخطيّاً مُبدعاً لشاعريّة الخيّام.

من جهة أخرى، قد لا يكون المُترجمون من الذين يعيشون الخيّام حياتيّاً، ولكنّهم دونما شكّ يهربون إليه ذهنيّاً، ويجدون فيه متنفّساً شعوريّاً عمّا يكتنف وجودهم من مللٍ وسأم؛ فيصدق عليهم عند ذاك قول الشاعرة نازك الملائكة في تقديمها لترجمة د. جميل الملائكة: ” إنّ هذه الترجمة ليست أكثر من أصداء شعريّة لحيرة جميل إزاء الحياة، وليس صدفة أنّه ترجم الخيّام إلى العربيّة”.

إذن، وكما يقول د. أسعد رزّوق، ” نحن نُترجم الخيّام لشعورنا بالمَلل في وجودٍ مُنفلتٍ أجرد. والخيّام لا يطلع علينا وحده في رباعيّاته، بل يطلّ مترجموه بذاتيّتهم وأسلوبهم الذي سُكبت المعاني في ألفاظه”.

ويردف قائلاً: ” وقد نذهب أبعد من ذلك فنقول مع الشاعرة نازك الملائكة، إنّ لكلّ مُترجم خيّامه الذي يؤثره ويصيغه في قالب قيَمه الذاتيّة والأسلوبيّة. فالخيّام في الترجمة لم يعطِ الخيّام/ الشعر الفارسيّ فقط، على الأقلّ عند الذين لا يعرفون الفارسيّة ولم يطّلعوا على آدابها، وإنّما أصبح أيضاً الخيّام/ الفكرة التي تجبل طينة ألفاظها يد الخزّاف (المُترجِم)، ثمّ تضفي على هيكلها ظلالاً وألواناً تَنسجم مع الفكرة وتحتفظ بروعة الشاعريّة وذاتيّتها اللّفظيّة”.

مع رزّوق في “جديدة مرجعيون”

في ذات يوم قائظ من أيّام صيف العام 1989 اتّصلتُ بالناقد والباحث الكبير أسعد رزّوق، طالباً لقاءً ثقافيّاً معه، فأجابني بسؤال: ما رأيك أن نلتقي هذه المرّة في “الجديدة”.. أنا هناك؟ (“الجديدة” هي ما يطلقه أهل مرجعيون على بلدتهم في جنوب لبنان)، فأجبته من فوري: “نِعم اللّقاء ونِعم المكان يا سيّدي. أنا أصلاً من مُحبّي بلدة “جديدة مرجعيون” ومطلّها الجميل، وكَرَم أهلها، وذَوقهم، وأناقة مظهرهم، وعراقة بيوتهم الحجريّة.

وكان لي ما أردت. والتقيتُ د. أسعد رزّوق في مرجعيون، البلدة التي وُلد فيها في العام 1936 (توفّي في العام 2007)، وكان حديثي معه هذه المرّة عن فلسطين، التي هي على مبعدة خطوات منّا، أي من الحدود اللّبنانيّة مع فلسطين المحتلّة. ودافعي للحديث معه عن الأرض المُغتصبة كان، فضلاً عن قربها منّا، أنّه صاحب مؤلّفات بحثيّة وتحليليّة كبرى تكشف خبايا الفكر التوسّعي الصهيوني وأبعاده، ولاسيّما من خلال كِتابه: “إسرائيل الكبرى.. دراسة في الفكر التوسّعي”(664 صفحة من القطع الكبير، والذي كان أصدره في العام1968). وقد نوَّه بأهميّة هذا الكِتاب، في المناسبة، الباحث المصري الكبير د. عبد الوهّاب المسيري الشهير بموسوعته عن “اليهود واليهوديّة والصهيونيّة” (ثمانية مجلّدات – القاهرة 1999 ). فقد ذكرَ لي د. المسيري حين التقيته في الشارقة في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة في ربيع العام 1991 أنّه قرأ كِتاب د. أسعد رزّوق المذكور واستفاد من منهجيّته وتدفُّق انتظام مَعرفته وتحليلاته السياسيّة والفلسفيّة للمشروع الصهيوني وأهداف توسّعه في منطقتنا العربيّة، والذي هو في أصله مشروع استعماري استُخدِم لكبح توحدّ الديموغرافيا والجغرافيا العربيّتَين، عبر إيجاد كيانٍ سياسيّ عربيّ عملاق من شأنه، حاضراً ومُستقبلاً، أن يفرض مَصالحه على مَصالح الاستعمار الغربي مُمثلاً بالدول الأوروبيّة النّافذة سابقاً ومع الولايات المتّحدة الأميركيّة لاحقاً.

ومَن يقرأ كتاب د. أسعد رزّوق “إسرائيل الكبرى.. دراسة في الفكر التوسّعي الصهيوني” يجده بالفعل مؤلّفاً رياديّاً في الكشف العِلمي لا الخطابي الحماسي، عن الأبعاد الخطيرة للمشروع الصهيوني الذي من أهدافه المزيد من تمزيق البلدان العربيّة وفرْط نسيجها المُجتمعي والتاريخي وشطْب هويّتها القوميّة أو العروبيّة والقضاء على شخصيّة ثقافيّة – تاريخيّة فاعِلة ومُتفاعِلة، اسمها الحضارة العربيّة، حاضراً ومستقبلاً.. وماضياً أيضاً.

والكِتاب يرصد جذور منطلقات فكرة “إسرائيل الكبرى” ومَسارها ومَصادرها وتمرحلاتها، منذ أن بدأت، وإلى يومنا هذا. ورصد ما ترسمه الحركة الصهيونيّة على هذا الصعيد، وتشرع بتنفيذه على الأرض الفلسطينيّة، وعلى مستوى الإقليم واستطراداً العالَم بأسره. فهذه الحركة الصهيونيّة، من وجهة نظر د، أسعد رزّوق تشتغل بدأب متواصل وتُعلن عن نفسها بنفسها ولا يُساورها الشكّ في جدارتها وقدرتها على تنفيذ مخطّطاتها.

وللدكتور أسعد رزّوق مؤلّفات أخرى في الإسرائيليّات مهمّة للغاية: “الدولة والدّين في إسرائيل” – 1968، “في المجتمع الإسرائيلي” – 1971 (صادر عن جامعة الدول العربيّة)، ، “التلمود والصهيونيّة” – 1990، “مقالات في الصهيونيّة الحديثة” – 1990، وكلّها مؤلّفات غير تقليديّة وغير شعاريّة في تناوُل حقيقة إسرائيل ومرجعيّاتها الصهيونيّة التي ينبغي أن تسمّى في رأي كاتبنا “جماعات القتل الطقوسي المُبرمَج أو جماعات الدمّ”، لا جمهور الكثير من اليهود المُنتظمين في تعاليم الديانة اليهوديّة السماويّة، كما كان يُطلق عليهم في المُدن الألمانيّة قبيل وفي أثناء المرحلة الديكتاتوريّة الهتلريّة.

تأثيرات شارل مالك والمثاليّة الألمانيّة

ود. رزّوق، كان قد تعلّم في “مدرسة الأميركان” في مدينة صيدا، ودرسَ لاحقاً الفلسفة في الجامعة الأميركيّة في بيروت على يد أستاذه الكبير د. شارل مالك، هذا الذي تنسَّم في تلميذه موهبة فلسفيّة تساؤليّة فذّة وثرّة، برزت لاحقاً في تأثره بـ”مفهوم المثاليّة الألمانيّة” عبر أبرز ممثّليها الفلاسفة: فيخته، وشلنغ، وهيغل، والتي توصف أنساقهم الفلسفيّة بأنّها على ارتباط وثيق بالأدب والشعر والمسرح، بخاصّة كما تجسّده تجربة الشاعر الألماني الكبير يوهان شيلر (1759 – 1859) التي كان لها تأثيرها الحاسم على الفكر الألماني بوجه عامّ، والفلسفيّ منه بوجه خاصّ؛ إذ إنّ المثاليّة بالنسبة إلى شيلر، كشاعر ألماني قومي، هي التي تفتح الطريق واسعة نحو الحريّة الإنسانيّة وتقرير المصير، واستطراداً نحو محاولات “القبض” على الحقيقة. كما أنّ الإرادة بالنسبة إليه هي أداة الحريّة، ولا فصل، في النتيجة، بين الحاجة الحسيّة وأبعاد المطلق.

فوق هذا وذاك، يَعتبر د. أسعد رزّوق أنّ الشعر حالة مقرونة بالإرادة، ولا مواجهة شعريّة للعالَم من دون الإرادة، إذ إنّ البشريّة، كانت ولا تزال، وعلى امتداد الحقب والعصور كلّها، تدين للبطل/ الفرد أو المفكّر/ الفرد، وعصر الفرد الذي نحن بصدده هنا، يحدث في الوقت نفسه لوقوع عصر العالَميّة الجديد. وكلّما تقدَّمنا نحو المجتمع الكَوني، يصبح دَور البطل/ الفرد أكثر أهميّة، وأكثر ضرورة وقوّة. ونجاح الفرد هنا لا يبشّر البتّة بزوال الجماعة أو الأمّة، بل على العكس يؤكّدها ويعزّزها، ويدفع بها دفعاً لمُواجهة التحدّيات كلّها، مهما كبُرت وعظُمت.

المصدر: مؤسّسة الفكر العربي

Optimized by Optimole