أحمد فارس الشدياق: اللّغة المالطيّة فرع من دوحة العربيّة

أحمد فارس الشدياق: اللّغة المالطيّة فرع من دوحة العربيّة
Spread the love

أحمد فرحات _ مؤسّسة الفكر العربي/
“الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبّأ عن فنون أوروبا” (مطبعة الجوائب – إسطمبول – ط1 – 1835) هو عنوان أوّل كِتاب ألّفه أحمد فارس الشدياق في أدب الرحلات، بعدما كان عمله وسُكناه في جزيرة مالطة مدّة أربعة عشر عاماً، امتدت من العام 1834 إلى العام 1848م، بدعوة من جهات أميركيّة بروتستانتيّة اتّخذت من الجزيرة المتوسطيّة منصّة للتبشير بالبروتستنتيّة في المنطقة العربيّة، وكلّفته هو ترجمة الكِتاب المقدَّس إلى اللّغة العربيّة، وتصحيح الترجمات الدينيّة إلى العربيّة للمبشّرين والمُستشرِقين، فضلاً عن عمله أيضاً في التدريس في مَدارس المُرسلين الأميركيّين في الجزيرة، والإشراف على الإصدارات باللّغة العربيّة التي كانت تضخّها المطبعة الأميركيّة، التي جيء بها خصّيصاً من الولايات المتّحدة في ذلك الزمان إلى مالطة لهذا الغرض.

وأحمد فارس الشدياق الذي وُلد في العام 1805م (أو 1804) في بلدة عشقوت الجبليّة اللّبنانيّة، هو أحد روّاد النهضة الأدبيّة والعِلميّة العربيّة الحديثة في القرن التاسع عشر: أديب، شاعر، لغوي، مُترجِم، مؤرِّخ وإعلامي ترك العديد من المؤلّفات الأدبيّة والمعجميّة والقاموسيّة والثقافيّة في طليعتها كِتابه “الساق على الساق في ما هو الفارياق”، والذي اعتبره البعض أوّل رواية عربيّة ناجزة بالمعنى الأدبي والنقدي الاعتباري للكلمة.

مال الشدياق لاعتناق المذهب البروتستنتي، هو ابن الكنيسة المارونيّة الكاثوليكيّة التي مرجعها الفاتيكان، وذلك قبل أن يختار الإسلام ديناً نهائيّاً له، ويموت عليه في العام 1887م لسببين اثنَين: أوّلهما، النفور والانتقام من الكنيسة المارونيّة اللّبنانيّة التي كانت سجنت شقيقه أسعد الشدياق بسبب اعتناقه البروتستانتيّة، ومات تحت التعذيب في أقبية “دير قنّوبين” في شمال لبنان؛ وثانيهما، اعتباره البروتستنتيّة دين انفتاح ومرونة وحريّة مسؤولة للمؤمن المسيحي.

على أنّ اعتناقه البروتستانتيّة لم يحِد به يوماً عن ثقافته العروبيّة وتعزيز اهتمامه باللّغة العربيّة والتراث العربي، ومن مَوقع ثقافي مكين، ينطلق من معرفته أيضاً بلغات وثقافات مركزيّة أخرى في العالَم، كالإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة، فضلاً عن إلمامه باللّغتَين التليدتَين: السريانيّة واللّاتينيّة؛ وكان أوّل عربي يُصدر صحيفة عربيّة مستقلّة هي: “الجوائب” في الآستانة بين عامَي 1881 و1884. وهذا الإصدار كان حدثاً كبيراً، بل تحدّياً استثنائيّاً تتمثّل اعتباريّته بمجرّد إقدام صاحبه عليه في قلب عاصمة الإمبراطوريّة العثمانيّة في ذلك الزمان.

سجلّ سوسيولوجيّ وأنثروبولوجيّ

يُعتبر كِتاب: “الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبّأ عن فنون أوروبا” سِجلّاً تاريخيّاً وسوسيولوجيّاً وأنثروبولوجيّاً لا مثيل له لجزيرة مالطة وناسها في تلك الحقبة من الزمن، أي في منتصف القرن التاسع عشر.. هذا في جزئه الأوّل.

أمّا في الجزء الثاني من الكِتاب، فيتناول الشدياق بعَين الباحث المحقِّق، لا بعَين السائح العابر، مسألة التمدّن الأوروبي وأحوال المُجتمعَين البريطاني والفرنسي بجوانبهما الإيجابيّة والسلبيّة، فضلاً عن العادات والتقاليد والسلوك والأخلاق، والتبايُن بين سكّان المُدن وسكّان القرى في كلٍّ من بريطانيا وفرنسا.. علاوة على الفروق في الطباع والأخلاق والمزاج العامّ وطرائق التفكير العامّة بين الشخصيّتَين: البريطانيّة والفرنسيّة. وكذلك يتناول المؤلِّف الإنجازات العِلميّة والمُخترعات التقنيّة على أنواعها في البلدَين، وخصوصاً في بريطانيا، مثل التلغراف والمطبعة وسِكك الحديد… إلخ، وتأثير ذلك على الحراك الصناعي والتجاري والاقتصادي وحركة تنقُّل البشر والبضائع، وبخاصّة بُعيد الإعلان عن استحداث أطول خطّ سكة حديد يمتدّ بين ليفربول ومانشستر، والذي كان بُدِءَ العملُ به سنة 1826.

وفي مجال الاجتماع، يتبيّن للشدياق، وفي الجملة، أنّ الرجال الفرنسيّين أجمل من نسائهم ومن رجال الإنكليز؛ وأنّ نساء هؤلاء أجمل من رجالهم ومن نساء أولئك. ومن العجب أنّ الإنكليز قد يبلغ أحدهم السبعين ولا يخطّه الشيب، لا في رأسه ولا في عارضه، وإنّما يغلب عليهم في هذه السنّ الدرم والدرد، أي سقوط الأسنان؛ ولأجل ذلك يعجب الإنكليز بحسن الأسنان، وهو أوّل ما يذكرونه من الصفات المستحبّة ويشبّهونها بالدرّ كما العرب.

ويشيد الشدياق بنساء الإفرنج عموماً ونساء الإنكليز خصوصاً، لجهة أنّهن لا يستعملن الصبغ ولا التزجيج، ولا يتباهين بكثرة الحلى والجواهر، فغاية تصنّعهنّ، إنّما هو في تصفيف شعورهنّ وتغيير ملابسهنّ بحسب الزيّ المُستعمَل. فأمّا نساء الفرنسيس فإنّهنّ أكثر زهواً وعجباً من جميع نساء الإفرنج. كما هنّ الأكثر اهتماماً وتنويعاً بثيابهنّ، وخصوصاً القفاطين. ونساء الإنكليز من جانبٍ آخر على غاية من التقشّف والقناعة، فأقلّ شيء من الملموس يرضيهنّ ومن المطاعم يكفيهنّ، ولا يستعملن الدخان ولا النشوق كبعض نساء فرنسا، ولا هنّ مثلهنّ أيضاً في كونهنّ ينكرن مزيّة الرجال على النساء، فالمرأة الإنكليزيّة تعترف بأنّ الله تعالى خلق الرجال قوّامين عليهنّ. وإذا أُهديت إحداهنّ (أي الإنكليزيّات) منديلاً أو حذاء أو نحو ذلك، استعظمت الهديّة وبالغت في وصف مَحاسنها وكرَّرت الثناء عليك، “حتّى تتوهّم أنّك صرتَ رابعاً لحاتم طي وهرم بن سنان وكعب بن مامة”.

وبخصوص الثقافة العامّة، ومن بينها الثقافة الدينيّة، عند الإنكليز والفرنسيّين، يشير أحمد فارس الشدياق، إلى أنّه ومع تكرّر ذكر مُدن بلاد الشام على مَسامِع الإنكليز من المَنابر في كلّ يوم أحد، ومع كثرة قراءاتهم للتوراة والإنجيل، فلا يكادون يعرفون أين مَوقع دمشق مثلاً من الإسكندريّة، ولا يتذكّرون شيئاً عن صور وصيدا وبيروت وجبل لبنان، مع أنّها مكرَّرة في الكتابَين المقدّسَين المذكورَين. والظاهر أنّ مصر أشهر عندهم وعند الفرنسيّين أيضاً من الشام.. “سألني مرّة في أكسفورد رجل له سمت ورواء فقال: من أيّ البلاد؟ فقلت هو؟ ولفظة هو استفهام بلغتهم فقال: آه من هو؟ معتقداً أنّ “هو” اسم علم على مدينة، ثمّ قال أتعرف في “هو” فلاناً، وسمّى رجلاً. قلت أنا لستُ من مدينة “هو”، وإنّما أنتَ سألتَ سؤالاً مُبهَماً يصلح لأن يُخاطب به أيّ إنسان كان، فإذا أردتَ الآن أن تعرف اسم بلادي، فهي سورية؛ فقال أحد الجلوس بعد طول تأمّل: هل سورية مدينة كبيرة؟!! إلّا أنّ بلادتهم هذه مقرونة بشيء من سلامة الصدر وخلوص النيّة”.

ولمزيد من تبيان سذاجة العامّة عند الجماعتَين، يذكر الشدياق أنّ عامّة الفرنسيّين يحسبون كلّ غريب فيهم من إسبانيا، ولاسيّما إذا كان أسمر اللّون، كذلك عامّة الإنكليز يحسبون كلّ غريب فيهم فرنسيّاً، سواء أكان أسمر أم أسود، وسواء أكان على رأسه طربوش أم طرطور. ولمّا كانت خلّة الجهل أبداً مُلازِمة للفظاظة والخشونة، كان لهؤلاء القوم منهما الحظّ الأوفر، فإنّهم يحدّقون في وجه الغريب، ثمّ يتبعونه بقهقهة ويسخرون منه، ولاسيّما إذا لم يكُن يُحسن النطق بلغتهم، على أنّهم هُم أنفسهم لا يحسنون النطق بها، فكلامهم كلّه لحنٌ وخطأ.

اللّغة العربيّة وتجذّرها في مالطا

وبالعودة الى ما جاء في الجزء الأوّل من الكِتاب – وهو الأكثر أهميّة في نظرنا – فلقد انقسم حول تقييمه مثقّفو مالطة هذه الأيّام، وذلك كما اتّضح لنا من زيارة قمنا بها إلى مالطة منذ شهور؛ فبعضهم اعتبرَ الكِتاب مُسيئاً في الكثير من وجوهه للمالطيّين، بينما رأى البعض الآخر أنّ الكِتاب يُشكّل مرآة صادقة لأحوال الديمغرافيا المالطيّة في منتصف القرن التاسع عشر، بعاداتها وتقاليدها ونواميسها وثقافتها ولغتها، وخصوصاً أنّ المالطيّة هي لغة عربيّة بنسبة كبيرة جدّاً تتجاوز الـ70 %، صمدت على مرّ القرون وتوالي مَوجات الفاتحين لمالطة، ومُخالطتها للغاتٍ أخرى، كان آخرها الإيطاليّة والإنكليزيّة؛ لكنّ هاتَين اللّغتَين سرعان ما انضمّتا إلى غيرهما من لغات سابقة مرَّت بالبلاد، ولم تستطع جميعها النَّيل من اللّغة العربيّة/ المالطيّة الموروثة جيلاً عن جيل. يقول الشدياق: ” ثمّ إنّ بقاء اللّغة العربيّة في جزيرة مالطة ولو محرّفة، مع عدم تقييدها في الكُتب، دليل على ما لها من القوّة والتمكّن عند مَن تصل إليهم من الأجيال. ألا ترى أنّ مالطة قد تعاقبت عليها دول متعدّدة، ودّوا لو يحملون أهلها على التكلّم بلغاتهم، فلم يتهيّأ لهم ذلك، وبقوا محافظين على ما عندهم منهم خَلَفاً بعد خَلَف. وهؤلاء الإنكليز يزعمون أنّ لغتهم ستكون أعمّ اللّغات جميعاً، وأشهرها، وما تهيّأ لهم أن يعمّموها عند المالطيّين. نعم، الخاصّة منهم (أي المالطيّين) يتعلّمونها، ولكن ليسوا عليها بمطبوعين، فإنّ مُحاوراتهم بين أهليهم، إنما هي بالمالطيّة لا غير، وليس الطبع كالتطبّع ولا الكحل كالتكحّل”.

ولتوكيد عربيّة أهل مالطة أكثر يردف الشدياق:” إعلم صانك الله عن الزلل وسدّدك إلى صواب القول والعمل، إنّ اللّغة المالطيّة فرع من دوحة العربيّة وشيصة من ثمرها (الشيص هو الرطب الفجّ) وهي يُتكلَّم بها في جزيرتَي مالطة وغودش، وسواء في ذلك العامّة والخاصّة؛ غير أنّ هؤلاء يتعلّمون أيضاً الطليانيّة والإنكليزيّة لاحتياجهم إلى الأولى في المُعاملات والتجارات وكُتب الشرع وغيرها، ولتنافسهم في الثانية، لكونها لغة أرباب الحُكم، وذلك لأنّ اللّغة المالطيّة لم تُدوَّن فيها علوم، ولم يُشهَر فيها كُتب، فهي عبارة عن ألفاظ يتداولونها في ما هو من مقتضيات الأحوال الساقطة من دون أن تفي بحاجتهم بما يقصدونه من وصف أو نسيب أو وعظ”… ويردف: “والحاصل أنّه لا شكّ في كون اللّغة المالطيّة عربيّة، ولكنّي لست أدري أصل هذا الفرع، أشاميّ هو أم مَغربيّ؟.. فإنّ فيها عبارات من كلتا الجهتَين، والغالب عليها الثانية. غير أنّ الألفاظ الدينيّة من الأولى، فيقولون مثلاً: القدّاس والقدّيس والتقربُن والأسقف وما أشبه ذلك ممّا لا يفهمه أهل المَغرب”.

وبخصوص طبيعة مالطة وأحوال المالطيّين وعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وأطوارهم نعرف من الكِتاب أنّ أرض مالطة جرداء قليلة الثرى والشجر والنبات، ودائرها كلّه صخر، لا ينبت فيه شيء، إلّا أنّه لشدّة اجتهاد أهلها وفرط كدحهم، ينبت فيها أكثر أصناف البقول والفاكهة، لكن غلّتها لا تكفيهم أكثر من أربعة أشهر والباقي يَفد إليهم من الخارج، وفاكهتهم طيّبة في الجملة إلّا اللّيمون الحلو، وهم لا يعرفون حفْظ الفاكهة إلى أوان الشتاء، كما يُفعل في بلاد الإفرنج.

وعدد سكّان مالطة في زمن الشدياق كان نحو مائة ألف نفسٍ (عددهم اليوم نصف مليون نسمة)، منهم أحد عشر ألفاً وخمسون من الإنكليز وسبعمائة وسبعون من الغرباء. وعادة أهل مالطة المتشبّعين في اللّباس كعادة الإفرنج، إلّا أنّ نساءهم يلبسن وشاحاً من الحرير الأسود وعلى رؤوسهنّ غطاء منه أيضاً من دون قبّعة. وأقبح شيء في الضيف رؤية هذه الثياب السود، وقد يحاكي بعضهنّ نساء الإنكليز في الزيّ، ولكن متى ذهبن إلى الكنيسة، لبسن زيّهن الأصلي، توهّم أنّ اللّون الأسود أليَق بالكنيسة وأَولى بالقنوت (الدعاء الديني)، وهو كوهم الجهلة من نصارى الشام، أنّ مَن يلبس سراويل فوق ثيابه، لا يليق به أن يتقدّم إلى محراب الكنيسة.

أمّا أهل القرى، فإنّ الرجال منهم يثقبون آذانهم ويتقرّطون بأقراط من الذهب ويرخون سوالف مجعّدة من أفوادهم إلى طلاهم؛ وهاتان صفتان من صفات الإناث. ويلبسون طرابيش مختلفة الألوان، مسدلة على أكتافهم، وهي شبيهة بالأجربة، ويمشون حفاة ويتحزّمون بأحزمة، ومنهم مَن يتختّم بعدّة خواتم من ذهب، ويجعل أزرار صدريّته منه أو من الفضّة، ويحمل سترته على كتفه ويمشي حافياً مشية المفراح البطر. أمّا النساء، فإنّ من كان لها حذاء لا تلبسه، إلّا إذا جاءت المدينة، وهي مُعجبة به، حتّى إذا خرجت منها تأبّطته. وللمالطيّات زهو وعجب إذا مشين أكثر من زهو الرجال، فترى المرأة تخطو كالعروس المزفوفة إلى بعلها، وهي مُمسِكة بطرف الوشاح باليد اليسرى وبطرف غطاء رأسها باليمنى، فتكون على هذه الحالة أشغل من ذات النحيَين. وإذا زار أحد الرجال بَيتاً مالطيّاً، فلا يستحي ربّ البيت أن يقول للزائر:”مهلاً، فإنّ زوجتي تبدّل ثيابها لتحضر بين يديك”.

ومتى كانت إحدى نساء مالطة حاملاً، مشت الخيلاء، ورفعت بطنها ليراها كلّ مَن مرّ بها، ومتى أبصرت ذا شوهة، رسمت شكل الصليب على بطنها تعوّذاً من سريان الشوهة إلى الجنين؛ وإذا شمّت في الطريق رائحة طعام، وتوحّمت عليه، بعثت تستهدي سبيله.

عاداتهم في الزواج

ويرصد الشدياق في كِتابه عادات المالطيّين في الزواج، فيرى أنّ الرجل منهم يُعاشر المرأة قبل أن يتزوّجها مدّة طويلة، وربّما أقام على ذلك ثلاث سنين فأكثر. والأغنياء من المالطيّين يعطون الزوج نحو مائتي ليرة، والذين هُم من الوسط يؤثّثون له منزله من فرش وكراسٍ وموائد وآلات طبخ، وينقدونه شيئاً من الدراهم. والفلّاحون يعطونه دجاجاً وبيضاً ونحو ذلك.

وأهل مالطة أشدّ الخلق تهافُتاً على الزواج، فإنّ الرجل منهم يتزوّج وكسبه في اليوم قرشان، وهُما لا يشبعانه خبزاً، وإنّما يثق بأنّ زوجته تساعده على الشغل وتكسب مثله. وآفة نساء مالطة حسن الخَلق دون حسن الخُلُق، فإنّ المرأة تجري وراء مَن به صباحة دون مبالاة بالعواقب، فلا يهمّها كون الرجل فقيراً أو جاهلاً أو شرّيراً؛ غير أنّ النساء هنا لا يحترمن أزواجهنّ، فكثيراً ما تُعارِض المرأة زوجها وتُخطّئه وتُسفّهه بحضرة الناس، وكلّهن إذا تكلّمن يرفعن أصواتهنّ إلى حدّ يبقى الغريب عنده مبهوتاً؛ وكانت عادتهنّ في القديم ألّا يتبرّجن للشبّان ولا يخطرن في الطرق ولا يتعلّمن القراءة والكتابة، ومتى خطبن احتجبن عن الأخطاب، وربّما كان الرجل يخطب بنتاً بواسطة أمّه وأخته من دون أن يراها. أمّا الآن، فقد تخلّقن بأخلاق نساء الإنكليز في مُخالَطة الرجال ومُماشاتهم والذهاب معهم إلى المَراقص والملاهي. وكثيراً ما تهرب البنت من حِجر والديها وتمكث مع مَن تهوى؛ وكثير من النساء الغنيّات الطاعنات في السنّ يتزوّجن الفتيان البطّالين، فيمكث الرجل مع زوجته طاعِماً كاسياً… وعموماً فإنّ أهل مالطة جميعاً رجالاً ونساء يغلب عليهنّ الشبق والسفاح.

هذا غيض من فيض كتاب “الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبّأ عن فنون أوروبا” لأحمد فارس الشدياق، الذي خبر أحوال وفنون عيش مجتمعات أوروبيّة خالطها اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، وكان مُستظهِراً عميقاً لحياتها وناقداً لها، حتّى من موقع “الانتماء” إليها.

Optimized by Optimole