لست متصوفاً ولم أتقمّص صورة غيري

لست متصوفاً ولم أتقمّص صورة غيري
Spread the love

د. عبدالجبار الرفاعي ـ عن موقع حوارات –
في بداية شبابي، كانت صورة الآخر لديّ شيطاناً، والعالم وحشاً، والحياة لعنة، والموت دواءً وشفاءً، ومقاطعة الناس سلوكاً، والحقد على من لا يتطابق مع مفاهيمي ومعتقداتي نهجاً، والنفور من كلّ شخص لا يُماثل سلوكه سلوكي، ولا يستنسخ نمط حياته نمط حياتي..كلّ ذلك إثر إدماني مطالعة كتابات سيّد قطب، وأدبيات الجماعات الإسلامية.
في تلك المرحلة، كنت أذوب روحيّاً كشمعة، كان قلبي جريحاً نازفاً، بعد أن رسمت لي تلك الأدبيات صورة قاسية مخيفة لله، بل مرعبة..كان ينهكني ارتداد الخوف والرعب والحقد إلى ذاتي، وفتكه بجوانحي..كنت مسكوناً بكراهية العالم، والناس، ونفسي، وكلّ شيء..أعيش اغتراباً عميقاً، ولا أنتمي لأيّ شيء، ولا ينتمي لي أيّ شيء..
لكن دراسة وتدريس الفلسفة ومطالعاتي للإنتاج المعرفيّ البشري، فجّرت المكبوت من التساؤلات في أعماقي، فطفقت أفتّش عن علاج يُشفيني من تلك الكراهيات، وذلك الاغتراب الموجع، ولا يُصادر منّي إيماني وتديّني، فعثرت على كنوز بالغة الثراء في ميراث بعض المتصوّفة والعرفاء والفلاسفة..
يتساءل بعض الأصدقاء: “هل أصبحت صوفياً أو متصوّفاً أو عرفانياً أو عارفاً، لفرط اهتمامك بميراثهم، ودعوتك إلى الاطلاع على آثارهم، وشغفك باكتشاف خبراتهم وتجاربهم الروحية؟!”.
أنا أعيش حياة عفوية طبيعية، كما يعيش كلّ الناس، وتخلو حياتي من البروتوكولات والتميّز عن طرائق عيش عامة الناس..لست مرتاضاً، أو زاهداً، أو متدروشاً، أو مترهبناً، أو متصوفاً، أو عارفاً ـــــ وإن كنت قد هربت إلى العرفاء والمتصوفة، ألتقط شيئاً من دررهم الروحية ـــــ ذلك أنّي لا أخوض تجاربهم الحياتية وعوالمهم السلوكية، ولا أمارس المكابدات والعنف والتنكّر لمتطلّبات الجسد المعروف عند معظم المتصوفة، كذلك أنفر من تسوّل الدراويش وشعوذاتهم، ورضوخهم وانقيادهم الأعمى للشيوخ والأقطاب. ولا يمكن أن أتفهّم تمحور همومهم في مضايق ذواتهم، وانشغالهم بأنفسهم فقط، وغرقهم في طقوسهم وخانقاهاتهم وزواياهم الخاصّة، وهروب الكثير منهم من بؤس وشقاء الناس وأحزانهم..كما لا أدعو أبداً إلى إحياء تقاليد الدروشة والتصوّف الطرقيّ، والخانقاهات، ومسالك الملامتية، وفقراء الصوفية، وكلّ تلك المسالك والتقاليد المستهجنة المنفّرة.
بالرغم من معرفتي بعدم تورّط جماعات وطرق المتصوّفة من كلّ الأديان بالحروب والمجازر البشعة، التي قادها أو حرضّ عليها رجال الأديان، كالفتوحات والحروب الصليبية وغيرها. واطلاعي الواسع على سلوك المتصوّفة، الذي لا يعرف سوى السلام مع الذات والعالم.
ما يهمّني هو التقاط الدرر واللآلئ في رؤياهم المضيئة الرحبة، ممّا يتّصل بقيم الإيمان والتدين، والجمال والفنون، واحترام كرامة الكائن البشري، والارتقاء بمكانته، والتسامي بمقامه، من عالم الخلق إلى الحق، والتعددية الدينية، والخلاص والنجاة والرجاء…إلخ.
طفقت أفتش في آثار المتصوّفة وتجاربهم، وميراث الفلاسفة..وغيرهم، عن أولئك الذين يضيئون الحياة بإشرقات أرواحهم، ويوقظون العالم بنواقيس أفئدتهم، وتغتني العلاقات الاجتماعية بقيمهم وأخلاقياتهم..أولئك الذين يوقدون قناديل دين الفرح في عالم كلّ دينه حزن، ويسقون شجرة دين الحياة في عالم كلّ دينه موت، ويعزفون سمفونية دين الحبّ في عالم كلّ دينه كراهية، وينشدون ترانيم دين التراحم في عالم كلّ دينه عدوان، ويفيضون دين الشفقة في عالم كلّ دينه قسوة، ويرسمون صورة دين الجمال في عالم كلّ دينه قبح، ويكتشفون دين المعنى في عالم كلّ دينه اللامعنى، ويتكرّسون بدين الروح في عالم كلّ دينه بلا روح، ويجسّدون دين الأخلاق في عالم كلّ دينه بلا أخلاق، ويبصمون أفعالهم بدين الضمير في عالم كلّ دينه بلا ضمير، ويعتنقون دين العقل في عالم كلّ دينه لا معقول بلا عقل، ولا ينتهكون كرامة الإنسان وحريته؛ بذريعة الغيرة في الله. جاء في الفصّ اليونسي من “فصوص الحكم” للشيخ محيي الدين بن عربي: “واعلم أنّ الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله”.
مثلما يمحو قلبي الكراهية، وتمحو روحي الخطايا، يمحو عقلي الصور المستعارة المستنسخة، كي يتكرّس بكينونته هو فقط لا سواه..لا أعيش حياتي نيابة عن الآخر، أو أكرّر نماذج بشريّة في حياتي، أو أقتبس صورة غيري، فلا تغويني صورة المتصوّفة أو سواهم، لأطمس صورتي فيهم، أو أتماهى معهم..غير أنّ ما يتضمنه ميراث محيي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي وغيرهما من سلام وتصالح مع الذات، وما يغتني به من محبّة لله والإنسان والعالم ولكلّ شيء، هو الذي عالج اغترابي، وحرّرني من كراهيّاتي، فكانت المحبّة ترياقاً طهّر قلبي من السموم، وعشق الحق دواءً وشفاءً لنزيف قلبي..أدركت أنه لم يشفني من أدبيات الكراهية ومناهضة الآخر إلا أدبيات المحبّة؛ ذلك أنّ الحبّ ـــــ في مفهوم من يسكرون بالعشق الإلهي ـــــ ينزلك منزلة من تحبّ، لو أحببت الرحمة تصير رحمة، لو أحببت الحبّ تصير محبّة، لو أحببت السلام تصير سلاماً، لو أحببت النور تصير نوراً، لو أحببت الخير تصير خيراً، لو أحببت العدل تصير عدلاً، لو أحببت الحسن تصير حسناً، لو أحببت الجمال تصير جمالاً، لو أحببت الفضيلة تصير فضيلة، لو أحببت العفاف تصير عفافاً، لو أحببت الطهارة تصير طهارة. من هنا اقتبس المتصوّف الشهير إكهارت في إحدى عظاته قول القديس أوغسطين: “الإنسان ما أحبّ”. ثمّ عقّب عليه بقوله: “إنّ أحبّ حجراً فهو حجر، وإن أحبّ إنساناً فهو إنسان، وإن أحبّ الله ـــــ وحسبي فلن يزيد ـــــ فلعلي إذا قلت: هو الله؛ أن ترجموني”.
الحب دواء، الحب شفاء، الحب يُعيد بناء حياة الشخص البشريّ المهشّمة. الحبّ يتغلب على القلق الوجوديّ. الحبّ قوة..هناك قوة للحبّ لا يُدركها إلا من وظّفه كعلاج في شفاء جروح أرواح المنكوبين والضحايا والمعذبين، ممن أطبق على كيانهم الحزن وغرقت حياتهم في البؤس والشقاء. شاهدت حالات متنوّعة لشباب موهوبين يتسرّبون من الحوزة؛ لأنهم لم يقرأوا في وجوه وأعين أساتذتهم شفقة وعطفاً وابتسامة، ولم يتضامن مع جوعهم وأوجاعهم أحد. كما عاشرت جماعة أخرى من الموهوبين تفتّقت عبقريّاتهم؛ بسبب ثناء وتبجيل بعض مشايخهم..الحبّ أحياناً يتمثل في كلمة حميميّة صادقة؛ مثل هذه الكلمة من شأنها أن تحيي الموتى، كما قد تقتل كلمة كراهية الأحياء. الحبّ مبادرة بتواصل مع شخص يترقّبك. الحبّ ابتسامة دافئة. الحبّ رسالة رقّة وحنوّ تُعالج ضعف الكائن البشريّ. الحبّ دمعة عين عاشقة على الجياع والمحرومين.
لقد لاحظت معظم الناس، خاصّة النخب، يُمزّق أرواحهم القلق الوجوديّ والظمأ الأنطولوجي. لذلك يُطالبني بعض الأصدقاء بالمزيد من المواقف الحانية، والمزيد من نشر النصوص والكلمات الرؤيوية الدافئة لمولانا الرومي وغيره، التي يقولون إنها تتحوّل شموعاً في عالمهم الجواني، ممّا حفّزني على التقاط ونشر نصوص تُنعش الروح وتُضيء القلب من ميراث المتصوّفة والعرفاء، بغية أن نشترك معاً في نشوة الروح التي أسكر بها؛ لحظة أتذوق الارتواء من هذه النصوص.

Optimized by Optimole