عن تأثير الثقافة الإسلامية في ملحمة دانتي

عن تأثير الثقافة الإسلامية في ملحمة دانتي
Spread the love

هويدا صالح | يظل البحث الأنثربولوجي عن تأثيرات وترددات الثقافة الإسلامية في الكتابات العالمية، موضوعاً بحثياً مفضلاً للنقاد العرب.

وربما يكون هذا الانشغال نوعاً من النوستالجيا لعصر كانت فيه هذه الثقافة هي الأكثر تأثيراً في العالم، وربما يكون نوعاً من الحسرة المضمرة على التردي الذي وصل إليه حال العرب. ويأتي في هذا السياق كتاب صلاح فضل «تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي» الذي صدر أخيراً في طبعة جديدة عن «منشورات الربيع» في القاهرة، ويعد محاولة جادة لاستقصاء جهود الباحثين العرب في هذا المجال؛ منذ أوائل القرن العشرين، حيث «نبت في مخيلة عالم إسباني ضليع أمضى عمره في معايشة التراث العربي والذخائر الإسلامية أن ما يحفل به هذا التراث من صور الدار الآخرة وأدب المعراج يكمن وراء أنضج وأقوى أثر أدبي أوروبي في العصور الوسطى وهو ملحمة دانتي الخالدة، فعكف عشرين عاماً يعالج مصادره ويبحث طرائقه حتى أخرج نظريته في هذا التأثير نموذجاً منهجياً في الدراسات المقارنة المحكمة». المقصود هنا هو أسين بالاثيوس.

ويرى فضل أن مناقشة هذه القضية ومثلها من قضايا التأثير والتأثر بين الثقافات هي من أهم مجالات الأدب المقارن الذي قطع خطوات كبيرة في القرن العشرين. وأشار إلى أن كتاب «التصوف الإسلامي العربي» لعبد اللطيف الطيباوي الذي صدر في القاهرة عام 1928 من أوائل الكتابات العربية التي عالجت هذه القضية المقارنة، إذ بحث المؤلف في روايات الإسراء والمعراج كمصدر لـ «الكوميديا الإلهية» والتراث الأدبي والصوفي عند المعري وابن عربي، ثم حلل بعض العناصر الصوفية كما وردت في «الفتوحات المكية»، موضحاً مشابهتها لأجزاء من عمل دانتي. كما ناقش الطيباوي في القسم الثالث الأقاصيص النصرانية والأساطير الأوروبية التي كانت شائعة في العصور الوسطى قبل دانتي، وكانت بدورها مستقاة من مصادر عربية إسلامية.

وفي القسم الرابع رجَّح الطيباوي انتقال تلك الأفكار الإسلامية إلى أوروبا المسيحية عموماً وإلى دانتي بخاصة، بوسائل متعددة من تجارة وحركة حجيج وحروب صليبية ونشاط تبشيري. وحدَّد أهم مواقع التقاء الثقافات حينئذ، وهي صقلية، ثم إسبانيا بخاصة في طليطلة وقرطبة وإشبيلية على مدار قرون عدة.

ونبه الباحث إلى أن المستشرق الفرنسي بلوشيه كان أول من أشار إلى أصل الكوميديا الإسلامي والتمسه في التراث الفارسي، لكنه عجز عن إثبات ذلك بالبرهان. وأخذ الطيباوي- بحسب صلاح فضل- في شرح الملابسات التاريخية والثقافية التي تُرشِّح وتُعزِّز فكرة التأثير، فأوضح أن دانتي كان معجباً بالثقافة الإسلامية، ومكَّنته وسائل اتصال أوروبا بالإسلام من الاقتباس منها والتأثر بها؛ «فإذاً ثبتت أسبقية الآداب الإسلامية لغيرها وبالتالي دانتي، واتضحت المشابهة بين هذه الآداب وما جاء به الشاعر الفلورنسي، وأمكن القول بانتقال هذه الأفكار، فقد اتصلت الحلقة من دون انقطاع».

ثم يشير فضل إلى كتاب غنيمي هلال «الأدب المقارن» (1953)، ويعرض لقضية التأثير الإسلامي في «الكوميديا الإلهية» في نطاق الحديث عن الملحمة كجنس أدبي تضافرت الآداب المختلفة على إنمائه وتطويره، فوضعت القضية منذ ذلك الوقت في إطارها الملائم، كما كان قد نُشِر في إسبانيا وإيطاليا حينئذ نص وثيقة المعراج التي قدمت الدليل الحاسم على صدق النبوءة الأولى. وعرض غنيمي هلال لتاريخ الموضوع ولأهم تطوراته ونتائجه، والتقط بضعة مشاهد من وثيقة المعراج كأمثلة عامة، موضحاً عمق تأثيرها في «الكوميديا الإلهية» بعد أن قدَّم ملخصاً لها أبرزَ فيه طابعها الديني الرمزي.

ثم أشار صلاح فضل إلى جهود عبد الرحمن بدوي في كتاب «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي»، وفيه حديث مطول عن الفتوحات المكية وعن مواقف الحشر الخمسين التي يبلغ طول كل منها ألف عام، وسرادقات الحساب يوم القيامة، بحجة أن «هذا الوصف المفصَّل الدقيق لمرحلة الأعراف نجد له نظائر كثيرة عند دانتي».

وانتقد فضل بحث بدوي، ورأى أن «من الواضح أنه لم يطلع على كتاب سندنينو اللهم إلا إطلالة عجولة على عنوانه فحسب؛ لأنه لا توجد بين يدي الباحثين هذه الترجمة الإسبانية، بل هي مفقودة مع الأصل العربي، حتى ليظن بأنها كانت مجرد مسودة للترجمتين اللاتينية والفرنسية طرحت بعد استخدامها، وكل ما فعله سيندينو أنه قام بتلخيص واف للوثيقة، وعرضها باللغة الإسبانية الحديثة – وهذا ما أفدتُ منه في عرضي- وهي تختلف عن القشتالية القديمة التي ترجم النص إليها أولاً».

ثم يعرض فضل لجهود إبراهيم عبد الرحمن في كتابه «دراسات مقارنة» (1975)، والذي خصص فصلاً عن «الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية»، مقارناً بين الرموز الدينية والاجتماعية عند دانتي ونظائرها في رسالة الغفران للمعري، ومبرزاً الطابع الذاتي والمستوى الفني لهذه الرموز، وكيف كانت تتكيف لدى كل من الشاعرين بالمناخ الثقافي والسمت الحضاري لعصره، ثم أوضح أن التشابه بين دانتي والمعري يشمل فلسفة أثريهما وشكلهما الفني معاً، وأورد كثيراً من الأمثلة على ذلك.

ثم عرض فضل لآخر بحث يعتبره جاداً في هذا الموضوع وهو كتاب رجاء جبر «رحلة الروح بين ابن سينا وسنائي ودانتي» (1977) وفيه حاول تناول علاقة «الكوميديا الإلهية» بالمصادر الشرقية التي عالجت الرحلة إلى العالم الغيبي علاجاً فلسفياً صوفياً، ومنها «كيمياء السعادة» لابن عربي.

المصدر: صحيفة الحياة

Optimized by Optimole